إسحق أحمد فضل الله يكتب: (ألف ليلة و....)    "المركز الثالث".. دي بروين ينجو بمانشستر سيتي من كمين وولفرهامبتون    منتخب الضعين شمال يودع بطولة الصداقة للمحليات    ندوة الشيوعي    "قطعة أرض بمدينة دنقلا ومبلغ مالي".. تكريم النابغة إسراء أحمد حيدر الأولى في الشهادة السودانية    الإعيسر: قادة المليشيا المتمردة ومنتسبوها والدول التي دعمتها سينالون أشد العقاب    الرئاسة السورية: القصف الإسرائيلي قرب القصر الرئاسي تصعيد خطير    د. عبد اللطيف البوني يكتب: لا هذا ولا ذاك    سقطت مدينة النهود .. استباحتها مليشيات وعصابات التمرد    تكوين روابط محبي ومشجعي هلال كوستي بالخارج    الهلال يواجه اسنيم في لقاء مؤجل    عثمان ميرغني يكتب: هل رئيس الوزراء "كوز"؟    شاهد بالصورة والفيديو.. حسناء الشاشة نورهان نجيب تحتفل بزفافها على أنغام الفنان عثمان بشة وتدخل في وصلة رقص مؤثرة مع والدها    كم تبلغ ثروة لامين جمال؟    حين يُجيد العازف التطبيل... ينكسر اللحن    أبوعركي البخيت الفَنان الذي يَحتفظ بشبابه في (حنجرته)    شاهد بالفيديو.. في مشهد نال إعجاب الجمهور والمتابعون.. شباب سعوديون يقفون لحظة رفع العلم السوداني بإحدى الفعاليات    شاهد بالصور والفيديو.. بوصلة رقص مثيرة.. الفنانة هدى عربي تشعل حفل غنائي بالدوحة    من رئاسة المحلية.. الناطق الرسمي باسم قوات الدعم السريع يعلن تحرير النهود (فيديو)    تتسلل إلى الكبد.. "الملاريا الحبشية" ترعب السودانيين    إعلان نتيجة الشهادة السودانية الدفعة المؤجلة 2023 بنسبة نجاح عامة 69%    والد لامين يامال: لم تشاهدوا 10% من قدراته    الحسم يتأجل.. 6 أهداف ترسم قمة مجنونة بين برشلونة وإنتر    استئناف العمل بمحطة مياه سوبا وتحسين إمدادات المياه في الخرطوم    هيئة مياه الخرطوم تعلن عن خطوة مهمة    باكستان تعلن إسقاط مسيَّرة هنديَّة خلال ليلة خامسة من المناوشات    جديد الإيجارات في مصر.. خبراء يكشفون مصير المستأجرين    إيقاف مدافع ريال مدريد روديغر 6 مباريات    تجدد شكاوى المواطنين من سحب مبالغ مالية من تطبيق (بنكك)    ما حكم الدعاء بعد القراءة وقبل الركوع في الصلاة؟    عركي وفرفور وطه سليمان.. فنانون سودانيون أمام محكمة السوشيال ميديا    تعاون بين الجزيرة والفاو لإصلاح القطاع الزراعي وإعادة الإعمار    قُلْ: ليتني شمعةٌ في الظلامْ؟!    الكشف عن بشريات بشأن التيار الكهربائي للولاية للشمالية    ترامب: يجب السماح للسفن الأمريكية بالمرور مجاناً عبر قناتي السويس وبنما    كهرباء السودان توضح بشأن قطوعات التيار في ولايتين    تبادل جديد لإطلاق النار بين الهند وباكستان    علي طريقة محمد رمضان طه سليمان يثير الجدل في اغنيته الجديده "سوداني كياني"    دراسة: البروتين النباتي سر الحياة الطويلة    خبير الزلازل الهولندي يعلّق على زلزال تركيا    في حضرة الجراح: إستعادة التوازن الممكن    التحقيقات تكشف تفاصيل صادمة في قضية الإعلامية سارة خليفة    الجيش يشن غارات جوية على «بارا» وسقوط عشرات الضحايا    حملة لمكافحة الجريمة وإزالة الظواهر السالبة في مدينة بورتسودان    وزير المالية يرأس وفد السودان المشارك في إجتماعات الربيع بواشنطن    شندي تحتاج لعمل كبير… بطلوا ثرثرة فوق النيل!!!!!    ارتفاع التضخم في السودان    انتشار مرض "الغدة الدرقية" في دارفور يثير المخاوف    مستشفى الكدرو بالخرطوم بحري يستعد لاستقبال المرضى قريبًا    "مثلث الموت".. عادة يومية بريئة قد تنتهي بك في المستشفى    وفاة اللاعب أرون بوبيندزا في حادثة مأساوية    5 وفيات و19 مصابا في حريق "برج النهدة" بالشارقة    عضو وفد الحكومة السودانية يكشف ل "المحقق" ما دار في الكواليس: بيان محكمة العدل الدولية لم يصدر    ضبط عربة بوكس مستوبيشي بالحاج يوسف وعدد 3 مركبات ZY مسروقة وتوقف متهمين    الدفاع المدني ولاية الجزيرة يسيطر علي حريق باحدي المخازن الملحقة بنادي الاتحاد والمباني المجاورة    حسين خوجلي يكتب: نتنياهو وترامب يفعلان هذا اتعرفون لماذا؟    من حكمته تعالي أن جعل اختلاف ألسنتهم وألوانهم آيةً من آياته الباهرة    بعد سؤال الفنان حمزة العليلي .. الإفتاء: المسافر من السعودية إلى مصر غدا لا يجب عليه الصيام    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



المتفرج المنعتق عند جاك رانيسر بقلم الفاتح مبارك عثمان
نشر في حريات يوم 16 - 07 - 2012


تصدير
قدمت هذه الورقة في نسختها الاولي في شكل ندوة باتحاد الكتاب السودانين في 18 ديسمبر2010، و قام بتلخيصها الصديق الممثل والمخرج المسرحي عبد الحكيم عامر لتنشر في “ملحق السوادني الثقافي” عدد 25 ديسمبر 2010 بدعوة كريمة ومقدرة من مشرف المحلق الاستاذ، الكاتب والشاعر، الصادق الرضي. النسخة التي امامكم ، رغم انطلاقها من تلخيص حكيم الا أنني قمت، تحت ضوء القراءة الثانية وانتباهها، باضافة تعديلات وصياغات تكاد تكون جذرية مما استلزم التنويه للتعامل مها كنسخة مستقلة متقدمة علي نظير النسخة الرقمية الرئيسية التي تجب ما قبلها. كما نشرت هذه المقالة مؤخرا في مجلة المسرح (عدد مارس 2012) التي تصدر في الشارقة بدعوة من محررها الاخ الناقد عصام ابوالقاسم.
السياسي والجمالي
1.1 يصدر جاك رانسير في تناوله لمفهوم المتفرج من تصور متميز وفريد لطبيعة العلاقة بين السياسي والجمالي. رانسير يطرح اطروحات متقدمة وغنية لمقاربة هذه العلاقة الوعرة التي تظل مستعصية علي التنظير والمنهجة. ورغم ما تتميز به كتاباته من لغة مفرطة في اقتصادها الي درجة الطلسمة، إلا أنها في القراءة الصبورة المتاملة، تكشف بعبقرية كيف تتلقي وتتقاطع ابعاد السياسي مع الجمالي مع البيدادوجي (التربوي) دون التفريط في خصوصية اي منها. ذلك كله من خلال معالجة نقدية عميقة وثاقبة، في نسيجها تتردد اخصب ما قدمه فلاسفة الاختلاف الفرنسيين ( جاك ديلوز وفوكو ودريدا). غير اننا لن نتاول هنا سوي القليل من افكاره واطروحاته التي تتصل خاصة بموضوع هذه المداخلة ، والتي تضمنها كتابه “المتفرج المنعتق” The Emancipated Spectator))
1.2 السياسي عند رانسير هو نقطة يلتقي عندها منطقين متميزين : منطق البوليس ومنطق السياسة. البوليس، في مصطلح رانسير، لا يعني الشرطة او الجهات المخول لها رسميا بتطبيق القانون وحفظ النظام العام، او بمعنى دلالة الاشارة (في دارج الخطاب السياسي) الي نظام الحكم الشمولي (البوليسي) الذي يتولي توظيف سلطة “الضبط والربط” المدنية او المسلحة لادارة او تسيير المجتمع وفق قوانين مفروضة من اعلي الي اسفل. وإنما تعني في الاساس ما يطلق عليه رانسير نظام “تقسيم او تجزئة المحسوس”.
1.3 نظام تقسيم وتوزيع “المحسوسات” هو نظام الإحداثيات السائد الذي من خلاله تتحدد نقاط وحدود التمايز بين أقاليم الفعل واللافعل، أقاليم المرئي واللامرئي ، المسموع و واللامسموع. وهو القانون (غير المكتوب) او ” نظام المسلمات” الذي ، كما يقول رانسير، يرى “المجتمع يتالف من مجموعات مكرسة لانماط فعل مخصصة، في امكان تمارس فيها هذه المواقع الوظيفيه، من خلال أنماط وجود تتوافق مع هذه الاماكن والمواقع الوظيفية”. (ارديتي 2008. ص 94)
1.4 نظام تقسيم وتوزيع المحسوس، في معجم رانسير، يشير عموما الي الانماط والاشكال المتبعة في تقسيم اعضاء الجماعة الاجتماعية، وتوزيعهم هرميا الي مواقع وامكان تتعرف وتتحدد معها ادوارهم وانصبتهم. وهو ايضا، من زاوية نظر اخري، “نظام للاجساد يتولي تعريف نظام التوزيع والتخصيص لطرائق الفعل وطرائق الوجود وطرائق القول؛ ويشرف علي أن تظل هذه الاجساد معينة”، بالاسم، الي موقع محدد ومهمة محددة. وهو نظام ما يرى وما يقال، المنوط به الاشراف علي ان يكون نشاطا بعينه مرئيا ونشاطا اخر غير مرئي، كلاما بعينه مفهوما لانه خطاب واخر غير مفهوم لانه إزعاج”. (رانسير 1998. ص 29)
1.5 اما السياسة، عند رانسير، فتشمل ما ينطوي علي كل ما هو خلخلة لترتيبات نظام القسمة القائم بين الاجزاء والادوار من خلال المطالبة بحساب غير المعددوين، المناداة بدمج المبعدين، العمل علي زعزة مسلمات طبوغرافيا الحدود والعلاقات بين المواقع. باختصار، من خلال السعي الي ترسيم طوبوغرافيا جديدة وغير مالوفة لاحداثيات الفعل، الحركة، الرؤية والكلام.
1.6 الجمالي عند رانسير (متابعا كانط) هو “نظام للاشكال المسبقة التي تعيّن ما يقدم، ما يعرض، نفسه للتجربة الحسية”. هذا التعريف الواسع للجمالي، يتيح لنا، إعتبار الاشكال الجمالية من المكونات الاساسية لنظام تقسيم وترسيم حدود فضاءات “المحسوس”: حدود المرئي من اللامرئي، الكلام من الازعاج، الممكن من اللاممكن. هذا التعريف الواسع للجمالي كذلك يتيح لنا تجاوز المفهوم الضيق للفن ليشمل معطيات وعوائد “الحس” العام، مسلمات الادارك الحسي والفكري، بوصفها العوائد والمسلمات التي تكون الموارد الاولية (الجمالية) للسياسية.
1.7 توصيف الجمالي والسياسي علي هذا النحو يمكننا من رصد بعد الجمالي في السياسي، وبعد السياسي في الجمالي دون اختزال اي منهما الي الاخر. يتيح لنا، في عبارة اخري، مقاربة سؤال العلاقة بين الجمالي والسياسة، لا من زاوية علاقة السبب والنتيجة ( الجمالي يحرك، يحرض الفعل السياسي مثلا اوالعكس). وإنما من جهة أنهما، من ناحية، شكلان متميزان لتنيظيم التجربة الحسية والملموسة. ومن ناحية اخري، كونها ينتجان وقائع او حوادث قد تسفرعن خلخلة في قلب “كارتواغرافيا” (علم وصناعة الخرائط) الممكن من انماط الادراك الحسي والفكري. “كارتواغرافيا” الممكن من علاقات الفضاءات والاماكن والاجساد والكلمات.
تحرير المتفرج بين برخت وارتو
2.1 تتجلي السياسة (في تعريف رانسير) في المسرح كلعبة مسافة بين مكانين: مكان الخشبة او المنصة (ستيج) ومكان الصالة: موقع الممثل وموقع المتفرج. لعبة المسافة (المكانية والزمانية) بين الممثل الفاعل المتحرك المنتج، والمتفرج المفعول المنفعل،الساكن والمستهلك. فلسفيا، هذه المسافة هي المسافة نفسها بين العلة والمعلول، السبب والنتيجة. فالمتفرج، هكذا دائما، ا طوال تاريخه سئ السمعة: مجازأ تقليديا شائعا للسكون والسلبيبة. صورة نموذجية للذي ياخذ في مقابل الذي يعطي. للمحايد غير المسؤول او المكترث. ولا يشفع لمتفرجنا المسكين حقيقة أن وجوده ضروري لوجود المتفرج عليهم (الممثلون،اللاعبون، المؤدون باصنافهم علي المنصات بانواعها). لا يشفع له أن موقعه ودوره ليس دائما مفروض علينا، إنما موقع او حالة غالبا نسعي اليها، بل وونزاولها بلذة وطواعية. مع ذلك ننكر ونستنكر موقف المتفرج (الي متي نقف هكذا مثل المتفرجين!). المفارقة هي: أن اقوي الادانات ضده، بل وأفضل المحاولات، نظريا وعمليا، للتخلص منه كمتفرج جائته وتأتيه من اصدقائه المسرحيين – اكثر الناس التصاقا به، واحتياجا اليه. هذه االمفارقة يطلق عليها رانسير مفارقة (بارادوكس) المتفرج.
2.2 مفارقة او بارادوكس المتفرج تقول الاتي: لا يوجد مسرح بلا متفرج (حتي ولو كان متفرجا واحدا، حاضرا كان او مستترا، فعليا كان او مفترضا). في نفس الوقت الذي يتم فيه التاكيد من قبل نقاد المتفرح انه ينبغي للمرء أن لا يكون متفرجا لان المتفرج او الفرجة من سوء الامور لسببين. القول الاول يصدر من افتراض التضاد بين “يتفرج ” و “يعرف” (المتفرج يقف جاهلا حيال الظاهر، الحاضر، والمتجلي امامه بلا معرفة بالعملية التي أنتجته او الواقع الذي يخفيه سطح هذا الظاهر). اما القول الثاني فيستند علي أفتراض التضاد بين “يتفرج” و”يفعل” (المتفرج مسمر في مكانه بلا فعل ولا صوت). أن تكون متفرجا، يعني اذا، أن يتم توشيمك بعلامات العجز والسلبية. يعني عزلك، إبعادك، فصلك، من حيز القدرة علي المعرفة، والقوة علي الفعل.
2.3 هذا الضرب من التشخيص يقود عادة الي استنتاجين مختلفين. الاستنتاج الاول: المسرح مكان لمعاقرة الاوهام وأضغاث الخيال. ممارسة تروج الجهل، السكون، واللافعل. ولان المسرح معقل لكل هذه الرذائل يجب بالتالي أن يلغي – هذا هو الاستناج الذي توصل اليه الموقف الافلاطوني: لا مكان للشعراء في الجمهورية! الاستناج الثاني: المتفرج مشكلة في المسرح. مشكلة يمكن إصلاحها بالعمل تجاه مسرح بلا متفرج: مسرح المتفرج فيه لا يتفرج، لا يتلقي فقط ويستهلك. بل مسرح المتفرج فيه فاعل وعارف ومشارك في الممارسة المسرحية. هذا موقف الاصلاحين – في عالم المسرحين، الاسم الاكثر شهرة واناقة لهذا النمط من المسرح الاصلاحي هو المسرح التجريبي.
2.4 تيار الاصلاح المسرحي المنادي بتحرير المتفرج من موقع سكونية او سلبية الاستقبال المحض الي موقع فاعلية المشاركة الايجابية ظل يتراوح، في نظر رانسير، بين اطارين: الاطار البرختي (نسبة الي برتولت برخت) والاطار الارتوي ( نسبة الي انطونين ارتو)
2.5 الاطار البرختي: أزمة المتفرج تكمن في شكل العلاقة بين الممثل الفاعل والمتفرج المنفعل التي رسخها، علي حد تعبير برتولت برخت، “المسرح الدرامي” الارسطوطاليسي. “المسرح الدرامي” في التعريف العام، هو المسرح الذي يتبني ما يمكن أن نطلق عليه “استراتجية التمثيل والتماثل”: الاستراتيجية الجمالية التي تسعي الي أ) تمثيل العالم (الذي يعيشه فيه المتفرج) من خلال تصميم عالم درامي متخيل يقوم بتمثيله (تجيسده) ممثلون علي خشبة المسرح من خلال اليات نموذجية (الفعل- المحاكاة، الحبكة، الحكي لقصة مؤثرة من خلال الحوار ،الشخصية – البطل، التوهيم)، وب) التاثير الكلي علي المتفرج من خلال جعله يتماثل ( يتضاهي، يتعاطف، يتضامن، يتوحد) مع ما هو معروض امامه من تمثلات. تحرير المتفرج عند “البرختيين”، يقتضي توسل استراتيجة بديلة ومضادة لاستراتيجية مسرح التمثيل والتماثل التي عادة ما تفضي الي تحويل المسرح الي آلة تتواطى مع كل ما يعمل علي تجريد المتفرج من أسباب وملكات الفاعلية: القدرة علي معرفة واقعه وعلي تغييره. تحرير المتفرج برختيا، تتمثل، بايجاز، في تصميم مسافة نقدية بين الممثل في الخشبة المسرحية والمتفرج في الصالة. هذه المسافة النقدية تعمل من خلال تقنيات التغريب التي تستهدف إرغام او حض المتفرج علي تبديل موقع المنفعل بموقع الفاعل، موقع التابع بموقع المشارك (ذهنيا) في انتاج العالم المسرحي. الفكرة: فلسفة وتقنيات المسرح البرختي تشحذ قدرات التامل والتحري النقدي عند المتفرج، مما يجعله أكثر ادراكا بالشروط الاجتماعية الكامنة وراء التمثلات الجمالية المعروضة أمامه ((لمسرح البرختي لا يمل تذكير المتفرج بأن ما يراه ليس واقعا وإنما وهم). الامر الذي بدوره قد يجعله اكثر حماسا واقتناعا بتغير هذه الشروط القائمة في الواقع الحي.
2.6 الاطار الارتوي: المسافة النقدية التي اقترحها الاطار البرختي ليست كافية. تحويل المتفرج الي مراقب يكتفي بتامل ما يجري امامه علي خشبة المسرح، ذهنيا ومن علي البعد، لا تجعله مشاركا فعليا واصيلا في التجربة المسرحية في نظر الارتويين. فالمتفرج عندهم ليس عقل فقط بل جسد ايضا. والغاء المسافة بين المنصة والصالة ذهنيا لا يعني الغائها فعليا. المطلوب اذا، مشاركة المتفرج، جسدا وروحا وعقلا، في الدائرة السحرية للفعل. المطلوب بعبارة اخري، دفع المتفرج الي تبديل موقع المراقب المكتفي بالمشاركة الذهنية من علي البعد ودون ان يحرك ساكنا، بموقع الفاعل المشارك بكامل طاقته الحيوية (الجسدية والذهنية) في العالم المسرحي. في المسرح الارتوي العرض يحيط بالمتفرجين من كل الجهات. يرغمهم حضوره الفيزيائي الملموس علي التخلي عن اماكنهم التقليدية كمتفرجين. يدفع بهم كقوة انفعال طقسية معدية الي الانخراط الكامل في دائرة الفعل الجماعي (في حالة اشبه بالانجذاب الصوفي) يعتقد انها ستجعل المشاركين يستردون احساسهم بطاقتهم الجماعية المفقودة.
2.7 للتيار البرختي والتيار الارتوي اذا غاية مشتركة: تعليم او تدريس المتفرجين طرقا يتوقفون بها عن أن يكونوا متفرجين. طرقا تستهدف تحويلهم فواعل نشطة للممارسة الاجتماعية. في سبيل هذه الغاية انتهي بهم الامر، كما يري رانسير، الي الغاء المسرح نفسه، كل علي طريقته، بالغاء دور المتفرج فيه.
2.8 في نظر رانسية الاطاران (البرختي والارتوي) يصدران من جملة من المتعارضات (يتفرج/يعرف، يتفرج/يفعل، ساكن/متحرك، فرد/ وجماعة..) وجملة من المتكافئات (مثل التكافؤء او التساوي بين جمهور المسرح والجماعة الاجتماعية، الجمهور و”الجماهير”، النظر والسكون، السكون واللاحركة..). هذه المتعارضات والمتكافئات يجب تاملها وتفحصها بدقة من جهة كونها تشكل الافتراضات والمبادي التي يقوم عليها المسرح وترشد طرائق عمله. هذه المتعارضات، في رايه، ليست مجرد متعارضات منطقية بين مفردات مصطلحية. وإنما تعبر، في الحقيقة، عن الطرق التي من خلالها يتم تنظيم المحسوسات في “نظام البوليس” بوصفه النظام المنوط به تعيين المواقع، والقدرات المصاحبة او المضمنة في هذه المتعارضات.
2.9 في عبارة اخري، هذه المتعارضات (علي وزن الفاعل والمنفعل) ليست، في الواقع، سوى مجازات لعدم المساواة. هذه الصياغة للعلاقة بين الممثل الفاعل والمتفرج المنفعل عند البرختين والارتويين تفترض في الاساس النظر اليها كعلاقة بين مكانين او موقعين يتمتعان منذ البداية بقدرات غير متساوية. أن تكون في مكان المتفرج يعني أن تكون في “مكانة” من يفتقر القدرة علي المعرفة والقدرة علي الفعل. في المقابل، ان تكون في مكان الممثل او المخرج او العرض يعني أن تكون في “مكانة” من يحظي بالقدرة علي المعرقة والقدرة علي الفعل. لذلك، فان اي محاولة، في نظر رانسير، لتبديل “الخانات” بين طرفي علاقات التعارض (جعل المتفرج ممثلا او الممثل متفرجا) او تقسيم (وترسيم) المواقع والادوار سلبا وايجابا بينهما، دون تفكيك لبنية التعارض، تظل محاولة ضمن بنية المتعارضات القديمة نفسها.
2.10 العلاقة بين الفاعل والمنفعل في المكان المسرحي تشبه علاقة الاستاذ والتلميذ في المكان المدرسة ( بدورها مجال او فضاء منظم علائقيا). هذه العلاقة البيدادوجية (التربوية) بين الاستاذ والتلميذ تعمل وفق، ما يطلق عليه رانسير، منطق البيدادوجية التجهيلية (stultifying) : المنطق الذي يري الي العلاقة بين التلميذ والاستاذ كعلاقة بين المعرفة والجهل. بين موقع من يعرف وموقع من لا يعرف. وهو نفس منطق نموذج “البث المباشر” (في علوم الاتصالات) الذي يفترض علاقة خطية مباشرة ومنسجمة بين طرفين: الطرف الاول – عقل او جسد – في هذا الجانب من العلاقة يتمتع بقدرة او طاقة او معرفة، بينما الطرف الثاني في الجانب الاخر يفتقر لهذه القدرة او الطاقة او المعرفة. ثانيا، هذه القدرة، هذه الطاقة، هذه المعرفة مقدر لها (مع مراعاة شروط الاتصال الضرورية) أن تنتقل مباشرة و بانسجام، علي مدي خط البث من عقل او جسد الطرف الاول في هذا الجانب الي عقل او جسد الطرف الثاني في الجانب الاخر. بعبارة اخري، بيدادوجية التجهيل النموذجية تقول باختصار: التلميذ يتعلم ما يريد له الاستاذ أن يتعلمه. المتفرج ينفعل كما يريد لنا الفنان ان ينفعل. او يجب.
2.11 النقد الاساسي لهذا المنطق هو أنه يطابق او يساوي ما بين العلة والمعلول، السبب والنتيجة، او الفاعل والمنفعل، بين العامل المؤثر والعامل المتأثر(وهي مساواة كما اوضحنا تستند – باردوكسيا او مع المفارقة – علي مبداء اللاتساوي بين موقع المخرج الاستاذ وموقع المتفرج التلميذ). رانسير يطلق علي هذا اللاتساوي مبداء التوزيع اللامتساوي للذكاء باعتبار ان الاستاذ المخرج يفترض فيه، بالضرورة، امتلاك قدرة ذكاء تفوق قدرة التلميذ المتفرج. وهي القدرة التي يعتقد أنها تبرر (تشرع) للاستاذ المخرج معرفة المسافة الصحيحة بينه وبين المتفرج التلميذ الي الدرجة التي تخول (ترخص) له التصرف (اللعب) بها وتغييرها - الاستاذ والتلميذ؛ اوالفنان والمتفرج، يتبادلان هنا الادوار.
افتراضات واقتراحات علي طريق الانعتاق الديمقراطي للمتفرج
3.1 أن نبداء نؤشكل ونسائل ونتفحص ما ننطلق منه من تعارضات مسلم بها: التعارضات المفترضة بين العلة والمعلول، السبب والنتيجة، االمؤثر والمتاثر، الفاعل والمفعول، النظر والفعل، المعرفة والجهل، الهنا والهناك، وكافة الفرضيات التي تمول منطق التعارض الجذري او تصدر عنه.
3.2 أن نتخطي، أن نداخل ونطمس الحدود المرسومة (بقانون النظام العام) بين الاقاليم والمواقع والادوار والانظمة والانواع الجمالية. بين الجهل والمعرفة. ان نتصور معلول لعلة ياتي قبلها ويعلها.الجهل الذي يولد المعرفة. ان ننظر المنفعل فاعل ومنفعل معا. ان نفتح برزخ الترواح بين المواقع: موقع الاستاذ والتلميذ، الهنا والهناك، الفنان والمتفرج. وهكذا.
3.3 أن نرصد ملامح الماكينة الاجتماعية ( بمفهوم جاك ديلوز) المرشدة تنظيم وتدريب الحواس: هيكلة طرائق النظر والكلام والفعل، ما هو مرئي وما هو غير مرئي، ما هو مسموع وماهو ضجيج، ما يقال او ما يقال. كارتواغرافيا المحسوس في المكان والزمن إنما تنتمي الي البنية الهرمية للسيطرة والاخضاع، للتدميج والاقصاء، المهيمنة في حياة اي جماعة اجتماعية.
3.4 أن نري الي النظر او المشاهدة او الفرجة بوصفها فعل. والمتفرج التلميذ مثله مثل المخرج الاستاذ يتحلي كذلك بالقدرة علي الملاحظة، الاختبار، المقارنة، الاستنتاج والتفسير. بوسعه ربط ما يراه هنا والان بجملة من الاشياء راها هناك وامس، في اماكن (مسارح) وازمنة اخري. مثل الاستاذ المخرج،التلميذ المتفرج هو ايضا فاعل نشط. طاقة فاعلة تباشر، وباستمرار، عملية الربط واللاربط، الصياغة واعادة الصياغة، التشكليل واعادة التشكليل، التضفيير وفك التضفيير، التشفير وفك التشفير. التلميذ – المتفرج يؤلف “قصيدته” الخاصة داخل فضاء العرض. هو المنتج – المخرج – المثل – المتفرج لدراما تخصه وحده. المتفرج او التلميذ له القدرة علي المعرفة والقدرة علي الفعل.
3.5 أن ننطلق من اعتماد فرضية اولية او انطولوجية (وجودية) تقول التالي: الذكاء متساوي عند الانسان. ليس لدينا نوعين من الذكاء بل واحد يعمل، في الاساس، بنفس الطريقة عند التلميذ الجاهل والاستاذ العارف. الذكاء الانساني هو هو نفسه عند التمليذ او الاستاذ،عند العارف او الجاهل، عند من يقوم بالاداء ومن يتفرج عليه. هذا الذكاء طريقة عمله واحدة لكن مجالاته متعددة وتجلياته مختلفة. الحيوان الانساني يتعلم كل شئ بنفس الطريقة التي بها يتعلم لغته الام من خلال الملاحظة، المقارنة، الاختبار والتجربة، التفسير والترجمة. الذكاء المتساوي هو الذي يتيح لنا ترجمة الاشياء والتجارب الي علامات والعلامات الي علامات اخري من خلال الملاحظة، والمقارنة، والاختبار، والقياس بهدف توصيل المغامرة الفكرية لكل واحد منا الي شخص اخر غيرنا. ليست هذه فرضية علمية تتوسل العلوم الطبيعية او الاجتماعية لاثباتها. لكنها فرضية سجالية، سياسية، ديمقراطية مفتوحة للنقاش، للتجربة والاختبار.
3.6 في منطق الانعتاق الديمقراطي المسافة القائمة بين الاستاذ والتلميذ، بين الفنان والمتفرج ليست مسافة ينبغي ان تلغي او تحتاج الي تجسير (بواسطة خبراء او متخصصين) وإنما مسافة موروثة توجد في قلب فضاء العرض (او الاداء) نفسه. هذه المسافة هي ما يمكن تسميته بالشئ الثالث. الشئ الثالث يمكن ان يكون اي “نص”: كتاب، نص عرض مسرحي، الخ. الشئ الثالث هو جسم غريب بين التلميذ والاستاذ، بين الفنان والمتفرج. وهو بمثابة مرجع النقاش بينهما. هو ما يعتمد عليه الاستاذ في الاشراف علي اختبار الملاحظات والاقوال والاستنتاجات التي يكونها التلميذ حوله. وهو مقياس لاختبارعمل الذكاء، لا يمتلكه احد، لا التلميذ او الاستاذ، ومن ثم يظل متواجد وحاضر دائما في فضاء العلاقة بين فاعلين. هذا الفضاء هو الفضاء الديمقراطي للترجمة والتفسير. الفضاء الذي لا يقوم علي اي تماثل، او تطابق، او إنسجام بين العلة والمعلول، بين السبب والنييجة؛ بل بين فاعل وفاعل لكل منهما طريقته في تاديه ما يقومان به من افعال.
3.7 “في هذه القوة علي التربيط واللاتربيط يكمن تحرير المتفرج – تحرير اي منا كمتفرج… ان نكون متفرجين ليست حالة ساكنة ينبغي لنا تحويلها الي نشاط. إنما هي وضعنا العادي. نحن ايضا نتعلم، ندرس ونفعل ونعرف كمتفرجين. دائما منخرطين في ربط ما نراه بالذي رأيناه وقلناه، ما فعلناه، وحلمنا به. ليس هنالك شكل مفضل بقدر ما ليس هناك نقطة بداية مفضلة. إنما في كل مكان هنالك نقاط بداية، تقاطعات، نقاط التقاء تمكننا من ان نتعلم شيئا جديدا اذا رفضنا اولا المسافة الجذرية، ثانيا توزيع الادوار، ثالثا الحدود بين الاقاليم. ليس علينا تحويل المتفرجين الي ممثلين، الجهلاء الي معلمين. وانما علينا ملاحظة المعرفة وهي تعمل عند الجاهل، والنشاط الخاص بالمتفرج. كل متفرج إنما هو بالفعل ممثل في قصته” (رانسير 2009. ص 17)
المراجع
Jacques Rancier. 2009. The Emancipated Spectator. London: Verso.
Jacques Rancier.2009. The Politics of Aesthetics. London:Continuum.
Benjamin Arditi. 2008. Politcs On the Edge of Liberalism. Edinburgh: Edinburgh University Press Ltd.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.