خواطر حول ظاهرة الانشقاق الحزبي(4) ……. تأتي ظاهرة الانشقاق السياسي كواحدة من أقوى افرازات (تمركز) الزعامة، وغياب المؤسسية والتخصصية وتوزيع العمل ضمن وداخل الاحزاب ذاتها، ذلك لإرتباط كل شئ بشخص الزعيم أو كونها في اشتغالها تستند على رأيه وتتأسس عليه. فالزعيم القائد هو سفقها الذي يجب ألا يُتجاوز، وتماسك الحزب ونجاحه يتحدد بمدي بقاء الزعيم واستمرايته. وهكذا يصبح الزعيم هو ذاته أحد مرتكزات الازمة وعواملها. والملاحظة المركزية هنا هي أن السلطة (حزبية أو عسكرية) والسعي إليها كان دائماً هو المنطلق المؤسس للإنشقاقات وسط القوى السياسية!!؟، كما أن المجموعة المنشقة تعيد انتاج ذات النمط فتفرز قائداً بديلاً تكون له ذات ميزات القديم الذي من فرط قوة أثره تتمسك المجموعات المنقشة بذات اسم الحزب فتضيف عليه أو تعدل فيه قليلا. وتنتهي هذه العملية بلا تأثير يذكر على الحزب العتيق الام فسرعان ما يعود إليه المنشقين عند أول منعطف أو تغيير، أو ينزوي ويموت الحزب المنشق ثم لايتذكره الناس ففي ذاكرتهم دائماً يبقى الحزب القديم العتيق. ولكن كيف نفسر ظاهرة الانشقاق هذه؟. الملاحظة الأولى ترتبط بطيعة القيادة الدائمة وطرق اشتغالها، وهو ما وقف عليه الكاتب (نضال الخضري) ضمن مقال له بموقع فولتير دوت نت جاء تحت عنوان (تيارات جديدة وأحزاب “قديمة”) فقد لاحظ الكاتب أن أزمات الأحزب تعود إلى كون التجارب الحزبية ما هي إلا إمتداد لمراحل التأسيس دون الأخذ بالاعتبار أن هناك عالم جديد لا نستطيع إغفاله يلاحق الشباب والاجيال الجديدة. ذ لك أن الثقافة الحزبية (حسب الخضري) “ما تزال وليدة وسط المدينة فهي مع كل الازدياد السكاني في محيط المدينة تنطلق من وسطها لتعبر عن (الجيل المخضرم) في أحسن الاحوال، أو (الأوائل) الذين كان نشاطهم منذ الخمسينات داخل النخب الثقافية بالدرجة الأولي” ، ويرى الخضري أن النهاية الطبيعة لهذه القراءة تنتهي إلى نتيجة أكيدة هي أن “الاحزاب عموماً تمثل جيلا محدد فقط”. ونزيد على هذه الملاحظة أن القيادات سواءاً بالدولة أو الحزب هي الاخرى تمثل جيل محدد فقط وتلك لمحتها السودانية. لكن ما من إشارة إلى أثر لذلك على الانشقاقات التي وقعت وتقع وسط القوى السياسية السودانية وإن كان لا يخفي تأثير ذلك عليها واستفادة منها. الملاحظة الثانية تحيل إلى إرتباط الانشقاقات ضمن الحالة السودانية (بالسلطة). فالسلطة كانت كل شئ بالنسبة للأحزاب والقوى السياسية (التقليدية والحديثة) للدرجة التي لاتستدعي عند تلك الاحزاب والقوى مشروع للحكم أو رؤية للتعامل مع القضايا الجوهرية والكبيرة التي تفرض نفسها بقوة كونها تتهدد ليس مؤسسة السلطة ومن فيها (احلالاً وابدالاً) بل كيان البلاد وخارطته السياسية الموروثة عن الاستعمار. لكن تاريخ الصراع بين القوى السياسية لم يتعاطي مع القضايا المصيرية لوطن أسمه السودان، بل كان دائم الاهتمام بالامساك بالسلطة ومقاعدها والسيطرة عبرها على كل القوى السياسية والشعب وفق ذات نمط الحزب الذي يخضع ضمنه الجميع للحزب والزعيم فيه فلا يعارضوه ولا يهددوه، وهكذا أصبحت السلطة الموضوع المركزي الذي تسقط دونه كل القضايا، و في ذلك بقاء واعادة انتاج (للمركزة) غير قابل للنفي أو الانكار، كما أن دلائل ذلك من القوة والحضور لحد اثارة الدهشه كيف أنها لم تكن أو تمثل عظة لتغيير مسارات التفكير والتعاطي!؟، ودافع لتغيير نمط واشكال العلاقات بين القوى السياسية وضمنها!!؟. فالتاريخ يحدثنا عن أن حزب الأمة هو من سلم السلطة لأول حكومة عسكرية فقط لمنع منافسه من بلوغها، وهكذا تم التأسيس لدخول المؤسسة العسكرية معترك الصراع . فقد تحول الأمر لمحض سلطة كانت المؤسسة العسكرية تحرسها، أما وقد أصبح بإمكانها استلامها بدفع ورضى ودعم حزب الامة فإنها ستكون أسهل وأقوى ، فالمؤسسة العسكرية تمتلك القوة بل تحتكرها، أما وقد وجدت سند حزبي وشعبي من وراء ذلك فقد أصبح الأمر أسهل وذو شرعية شعبية ولو جزئية لكن قوة السلاح تكمل نقصها وتدعمها. وكذلك لجاء الحزب الشيوعي للإستعانة بالمؤسسة العسكرية للرد على الأحزاب التي أخرجته من البرلمان وحظرت وجوده وسحبت شرعيته، ليدعم انقلاب مايو الشهير، ثم تعود عليه تداعيات السيطرة على المؤسسة العسكرية بتداعات كبيرة لاتنحصر في ضرب قاداته بل تتعدى ذلك لتؤرخ لأقوى انشقاق ضمنه، وكل ذلك يتأسس على السلطة والسيطرة. وجاء انقلاب 30 يونيو ليدعم تلك الصورة ويعيد ذات المشهد. تندفع الجبهة الاسلامية القومية وتلجأ للمؤسسة العسكرية لتستلم السلطة بعد أن خاضت صراع طويلاً تكررت فيه ذات تجربة الحزب الشيوعي مع اختلاف الظروف والاوضاع، اذ تجمعت كل الاحزاب لعزل الاسلاميين الذين وصفوا (بسدنة مايو) لمشاركتهم نظام مايو بعد المصالحة الوطنية الشهيرة، ثم يعزلوا عن التوقيع على ميثاق الدفاع عن الديمقراطية، ثم يخرجو (بدعم القوات المسلحة أيضاً) من الحكومة الائتلافية مع حزب الامة، ليكون الخيار هو استلام السلطة والسيطرة على كل القوى التي دافعتهم وفي ظل نظام ديمقراطي. لكن المسار لم يختلف إلا في الظروف والمسارات عن ما وقع للحزب الشيوعي اذ سرعان ما انشق الحزب اثر الخلاف على (السلطة) وابقائها على حزب واحد أو انفتاحها على تعدد القوى واختلافها. عبر هذه النماذج كانت السلطة والسيطرة هي الأصل والهدف ومناط الصراع ومنطقه، ولم يكن الطرح ولا القضايا المصيرية ولا البرامج أو مشروعات التنمية والاختلاف على أولويات توزعيها وترتيبها. بل إن نمط الصراع على السلطة اختلف مع الانقاذ ليدعم ذات التوجه ويعمل على ترسيخه (وإن كانت له نماذج في تاريخ الاحزاب لا تخفي) اذ أصبح التقرب والارتباط بالسلطة هو أقوى الاسباب التي تنتج الانشقاقات وسط القوى السياسية، وفي هذا تأكيد على أن نمط الصراع وطبيعته لم تتغيير بعد، وأنه ما يزال جوهر إهتمام القوى السياسية هو السيطرة على السلطة وليس مواجهة التحديات ولا طرح البرامج أو تجاوز العقبات وتكثير البدائل والاهتمام بالآخرين. وما تزال أدوات العزل والطرد والفصل وغيرها هي وسائل التعاطي مع الخلافات داخل الاحزاب أو مع الحكومة (السلطة القائمة) فالسيطرة هي الأهم ومن شدة الحرص عليها حتى الحورارات والاتفاقات والتفاهمات التي جرت كان هم ضمان وابقاء السيطرة لقوى بعينها الموضوع الاهم الذي يستدعي الحرص الابلغ ولو كانت مخاطره لا تخفي على أحد لدرجة تقديمه على كل شئ، ليأتي كما هي العادة فيما بعد على كل شئ حتى تلك الاتفاقات. والأخطر من كل ذلك أن هذا النمط يعاد انتاجه الآن وسط القوى والحركات المسلحة بدارفور، وهو آخذ في التغلل والتجزر وسط الحركة الشعبية التي هي آخذة في الانتقال من التصدي للتحديات ومواجهتها إلى استبداله بنمط وطريقة المؤتمر الوطني الذي يهتم بالسيطرة ويعطيها الأولوية حتى على قضايا التحول ومشروع السودان الجديد، وهذا لايعد مبشر بأننا بلغنا نقطة البداية في طريق التحول فكل الذي يجري الآن هو ترسيخ و (تمكين) لنمط السيطرة والمركزية الذي لا موضوع له ولا قضية سوى السلطة التي تتحول بدورها إلى الموضوع الوحيد الذي تدور حوله كل الصراعات وتستهلك وتهدر في سبيله كل الطاقات. لا يبدو في الآفق رغم الأزمات والقضايا (المصيرية) أن هناك انتباهة إلى ما ستفضي إليه هذه العقلية وذلك التاريخ التليد من الصراع المحصور على السلطة وحولها المهمل لك قضية سواها. اذ لم تتغيير بعد القوى السياسية بل ظلت هي ذات القوى منذ الاستقلال وكأنما ورثناها مع خارطة السودان فإستقرت هي على نمط وحال أصبح معه من المحال أن يستقر البلد الذي هو مجال وجودها ونشاطها. قوى لا يهزها حتى تفتت السودان وتحوله إلى دويلات عددا، بل لا مانع عندها أو اعتراض طالما ستحافط على سلطتها وتقهر الآخرين أن تحكم فقط الخرطوم أو حتى أن تعد الخطط لتحتفط بدولة تتدخر لها الدخل وتركز فيها التنمية كما هو الحال وفقاً لخطط مثلث حمدي الشهير. إن الموضوع يحتاج إلى وقفة وإلى معالجة جزرية وليس إلى أنفعالات ثورية تدخلنا غرفة الانتظار لتجري عملية إعادة انتاج نمط عقلية السيطرة والمركزة. ============= أبوذر على الأمين ياسين