مليشيا الدعم السريع هي مليشيا إرهابية من أعلى قيادتها حتى آخر جندي    ضربات جوية ليلية مباغتة على مطار نيالا وأهداف أخرى داخل المدينة    عزمي عبد الرازق يكتب: هل نحنُ بحاجة إلى سيادة بحرية؟    الأقمار الصناعية تكشف مواقع جديدة بمطار نيالا للتحكم بالمسيرات ومخابئ لمشغلي المُسيّرات    فاز بهدفين .. أهلي جدة يصنع التاريخ ويتوج بطلًا لنخبة آسيا    بتعادل جنوني.. لايبزيج يؤجل إعلان تتويج بايرن ميونخ    منظمة حقوقية: الدعم السريع تقتل 300 مدني في النهود بينهم نساء وأطفال وتمنع المواطنين من النزوح وتنهب الأسواق ومخازن الأدوية والمستشفى    وزير الثقافة والإعلام يُبشر بفرح الشعب وانتصار إرادة الأمة    السودان يقدم مرافعته الشفوية امام محكمة العدل الدولية    عقب ظهور نتيجة الشهادة السودانية: والي ولاية الجزيرة يؤكد التزام الحكومة بدعم التعليم    هل هدّد أنشيلوتي البرازيل رفضاً لتسريبات "محرجة" لريال مدريد؟    "من الجنسيتين البنجلاديشية والسودانية" .. القبض على (5) مقيمين في خميس مشيط لارتكابهم عمليات نصب واحتيال – صورة    دبابيس ودالشريف    النهود…شنب نمر    إسحق أحمد فضل الله يكتب: (ألف ليلة و....)    منتخب الضعين شمال يودع بطولة الصداقة للمحليات    الرئاسة السورية: القصف الإسرائيلي قرب القصر الرئاسي تصعيد خطير    عثمان ميرغني يكتب: هل رئيس الوزراء "كوز"؟    شاهد بالصورة والفيديو.. حسناء الشاشة نورهان نجيب تحتفل بزفافها على أنغام الفنان عثمان بشة وتدخل في وصلة رقص مؤثرة مع والدها    كم تبلغ ثروة لامين جمال؟    حين يُجيد العازف التطبيل... ينكسر اللحن    أبوعركي البخيت الفَنان الذي يَحتفظ بشبابه في (حنجرته)    شاهد بالفيديو.. في مشهد نال إعجاب الجمهور والمتابعون.. شباب سعوديون يقفون لحظة رفع العلم السوداني بإحدى الفعاليات    شاهد بالصور والفيديو.. بوصلة رقص مثيرة.. الفنانة هدى عربي تشعل حفل غنائي بالدوحة    تتسلل إلى الكبد.. "الملاريا الحبشية" ترعب السودانيين    والد لامين يامال: لم تشاهدوا 10% من قدراته    استئناف العمل بمحطة مياه سوبا وتحسين إمدادات المياه في الخرطوم    هيئة مياه الخرطوم تعلن عن خطوة مهمة    باكستان تعلن إسقاط مسيَّرة هنديَّة خلال ليلة خامسة من المناوشات    تجدد شكاوى المواطنين من سحب مبالغ مالية من تطبيق (بنكك)    ما حكم الدعاء بعد القراءة وقبل الركوع في الصلاة؟    عركي وفرفور وطه سليمان.. فنانون سودانيون أمام محكمة السوشيال ميديا    تعاون بين الجزيرة والفاو لإصلاح القطاع الزراعي وإعادة الإعمار    قُلْ: ليتني شمعةٌ في الظلامْ؟!    الكشف عن بشريات بشأن التيار الكهربائي للولاية للشمالية    ترامب: يجب السماح للسفن الأمريكية بالمرور مجاناً عبر قناتي السويس وبنما    كهرباء السودان توضح بشأن قطوعات التيار في ولايتين    تبادل جديد لإطلاق النار بين الهند وباكستان    علي طريقة محمد رمضان طه سليمان يثير الجدل في اغنيته الجديده "سوداني كياني"    دراسة: البروتين النباتي سر الحياة الطويلة    في حضرة الجراح: إستعادة التوازن الممكن    التحقيقات تكشف تفاصيل صادمة في قضية الإعلامية سارة خليفة    الجيش يشن غارات جوية على «بارا» وسقوط عشرات الضحايا    حملة لمكافحة الجريمة وإزالة الظواهر السالبة في مدينة بورتسودان    وزير المالية يرأس وفد السودان المشارك في إجتماعات الربيع بواشنطن    شندي تحتاج لعمل كبير… بطلوا ثرثرة فوق النيل!!!!!    ارتفاع التضخم في السودان    انتشار مرض "الغدة الدرقية" في دارفور يثير المخاوف    مستشفى الكدرو بالخرطوم بحري يستعد لاستقبال المرضى قريبًا    "مثلث الموت".. عادة يومية بريئة قد تنتهي بك في المستشفى    وفاة اللاعب أرون بوبيندزا في حادثة مأساوية    5 وفيات و19 مصابا في حريق "برج النهدة" بالشارقة    عضو وفد الحكومة السودانية يكشف ل "المحقق" ما دار في الكواليس: بيان محكمة العدل الدولية لم يصدر    ضبط عربة بوكس مستوبيشي بالحاج يوسف وعدد 3 مركبات ZY مسروقة وتوقف متهمين    الدفاع المدني ولاية الجزيرة يسيطر علي حريق باحدي المخازن الملحقة بنادي الاتحاد والمباني المجاورة    حسين خوجلي يكتب: نتنياهو وترامب يفعلان هذا اتعرفون لماذا؟    من حكمته تعالي أن جعل اختلاف ألسنتهم وألوانهم آيةً من آياته الباهرة    بعد سؤال الفنان حمزة العليلي .. الإفتاء: المسافر من السعودية إلى مصر غدا لا يجب عليه الصيام    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



من كتاب ” التحالف الشيطاني بين الضحية والجلاد :قراءة فيما وراء (براءة المسلمين)
نشر في حريات يوم 05 - 12 - 2012


عزالدين صغيرون
مدخل
يعاني المفكر والأكاديمي العربي من قصور مريع في الرؤية الكلية والشاملة ،ومن عجز غريب عن قراءة ما وراء الوقائع اليومية من دلالات ومعان .ولكم جميل اعتراف دوبريه واعتذاره بسبب “تأخر الوعي عن التجربة ” الذي حال دون أن يخطر بباله أن يقيم “علاقة ما بين هذين المعدلين : بين ما يُتعلم في المدرسة وما يُعانى في الشارع (..) بين آثار التاريخ المكتوب ،التاريخ الكبير ،واختلاجات التاريخ الآخر ،التاريخ الصغير الذي يُصنع ويُهدم يوماً بيوم .ولم أكن قط لأبدي اهتماماً بالأول الذي لم يكن يشغلني إلا بوصفي طالباً ،أي لغايات تتعلق بالامتحان ،ولا اعتباراً نظرياً للثاني الذي كان وحده هاجسي (دوبريه :6) .
هذا الانفصال الذي كما يقول ،جعل السياسة تخفي السياسي عنه طويلاً ليس بمعنى أن يخفي القطار قطاراً آخر ،بل بمعنى أن أي قطار يخفي السكك التي يجري عليها ،كان هو دافعه لتأليف كتابه.
قد يكون للثقافة والتربية الاجتماعية دور ما في هذا الفصل ،ولكن المؤكد أن لأيديولوجية التعليم وللسياسات التعليمية دورها الواضح في تعميق هذه الهوة بين ما يُتعلم في المدارس وما يُعانى في الشارع ،فهناك شبه قطيعة تامة بين ما هو مستقر في النظريات الأنثروبولوجية من نظريات وأطروحات ،وما يحدث “هنا” و”الآن” من وقائع على أرض الواقع ،ولا يملك ذاك ما يوجهه من ضوء لينير ويفسر ويشرح ما يحدث هنا .
ثمة خلل ما ،إن لم يكن في بنية العلوم الإنسانية ،فإنه لا شك في فهم طلابها لها ،والمرجَّح أن الكسل الفكري هو الذي يجعل طلاب وأساتذة هذه العلوم عندنا يغفلون قاعدة بديهية ، وهي ، إن ما تستخلصه هذه العلوم بمناهجها من نظريات وما تستخلصه من نتائج ،إنما تستخلصه من دراساتها ل”تجارب” مجتمعات محددة ،وفي فترات ومراحل وحقب معينة ،وبالتالي فإنها لا يمكن أن تصبح بهذه المثابة أحكاماً كونية ،أو نظريات مطلقة صالحة للتطبيق بحذافيرها على كل مجتمع .
تستطيع أن تستفيد من المناهج ،ولكن ،وبما أن المنهج نفسه جزء من أديم تجربة مجتمع آخر وثقافة أخرى ،فإنك حر في التعامل معه وإخضاعه وتطويعه لمتطلبات أي تجربة أخرى مختلفة ،كأن تزاوج بين أكثر من منهج (ألم يفعل البعض ذلك؟).
وعلى كل حال ، وطالما نحن نتحدث عنها دعنا نسأل : ما النظرية ؟.
يعرِّفها المثقفون على أنها أعلى مستويات المعرفة ،فهي بناء عقلي مؤلف من مفاهيم وتصورات منسجمة ،تؤدي إلى ربط المقدمات بالنتائج ،وبهذا تتميز عن الممارسة العملية وتتعالى على المعرفة الساذجة المهوشة ،وقد يضاف إليه قول آخر بأنها مجموعة من المفاهيم والأفكار المجردة تنتظمها قابلية البرهنة وإمكانية الفحص تجريبياً ،والتي بدورها تتغيا تأسيس نظام علمي لفهم الظواهر المختلفة ،وفي باطنه يريد هذا الجهد العقلي أن يرى العالم يعمل بطريقة منتظمة .
إلا أن هذه النظرة للنظرية كانت وليدة “لحظة” مجتمعية وتاريخية معينة ومحددة ،هي عصر الحداثة الأوربية التي كانت تؤمن بقدرات العقل لحل ألغاز الكون والإجابة على كل الأسئلة .ولذا كان لابد أن يتصدع هذا البناء الشامخ للنظرية والتحرر على هيمنتها (بول فيرابند ،إعجاز أحمد ، إدوارد سعيد ،جاك دريدا ..الخ) ،وإن لم تخل هذه المحاولات من المنهجية والتنظير “ليتبوأ التفكيك Deconstruction مقعده كأقوى الآليات المناهضة للنظرية ،فهو بحكم طبيعته هادم لها ،ومفكك لأوصالها باعتبارها سلطة متعالية على الواقع وعلى المفكر في آن ،بينما ترى هي في نفسها ممثلاً للوعي الضدي الذي لا يلجأ إلى الاستبدالية اللبقة Euphemism يجمل بها قبح الواقع واستعصائه على الفهم بلغة التوازن والانسجام ” (بندق:6).
لا أحد يجرؤ بالطبع على نفي النظرية وإلغائها لينطلق الناس على أعِنَّة القول خبط عشواء ،لكن “الواقع” أحرى بالرؤية والانطلاق منه للتفكير فيه ،وتحليل الواقع المتغير دوماً كنهر هراقلطيس الذي لا يمكنك أن تسبح فيه مرتين قد يقود إلى نظرية ،فركوب النظرية كما يقال هو المطلوب وليس العكس ،فهي في التحليل الأخير ليست أكثر من أداة عملية يقتضيها العمل “أما الخضوع لهيمنتها فتأكيد للاستلاب Alienation بالمعنى الهيجلي ،ولعلنا نذكر جميعاً المثل الذي ضربه هيجل باليهود الذين صنعوا “يهوا” تعبيراً عن احتياج قومي ومع الوقت نسوا ذلك ،فباتوا يحسبون أن يهوا هو الذي صنعهم ” (بندق:9).
إلا أن المشكل في المفكر والأكاديمي العربي انه “مقلد” حتى في تحنطه النظري والمنهجي ،فأنت لا تنتظر منه أن يثور على أغلال المنهجية الصارمة ولا أن يحطم جدران سجن النظرية ،فهذا فوق طاقته ،ولكنك تنتظر أن يبذل جهد المقل ليطبِّق على وقائع مجتمعه ما درس وأستظهر من نظريات ومناهج كأضعف الإيمان ،متجاوزاً سطح الأحداث والوقائع قارئاً ومستشفاً ما وراءها من دلالات ومعان .
لقد مرَّت أحداث فيلم “براءة المسلمين” مرور الكرام على هذه النخب الأكاديمية والمفكرة ،ولم تختلف ردة فعلها عن جماهيرها في شيء حيث اكتفت ببيانات وتصريحات الإدانة ،ولم يفتح الله عليهم بمحاولة تفحُّص القضبان التي يجري عليها قطار الأحداث ،أو أن يجدوا رابطاً ما بين الوقائع والبنية الثقافية للمجتمع ،أو علاقتها بمرتكزاته الثقافية .فقد ظلت أعينهم دائماً مشدودة إلى ماضي مجتمعاتهم ،هذا الماضي الذي ينظرون إليه كعاديات في متحف التاريخ منقطعة الصلة بحاضرهم ،بينما تعمل عناصر هذا الماضي عملها بهدوء في حاضرهم متخفية تحت غبار وقائع حركة الإيقاع اليومي.
تجسير الهوة بين السماء والأرض
وهذا ينقلنا إلى المحطة التالية في تحليل المشكلة بعد ان حاولنا ان نجد تفسيرا لما حدث في الظروف السياسية والاجتماعية الموضوعية ،التي ربما تكون قد أثَّرت بهذا القدر او ذاك ،في تكييف ردة الفعل على فيديو “براءة المسلمين”. وكنا قد نبهنا في البداية بأن بحثنا عن هذه العوامل والأسباب سيتخذ مسارين ،أحدهما في الظروف الموضوعية السياسية والاجتماعية ،بينما يتجه المسار الثاني إلى البحث في طبيعة العلاقة بين مكونات وعناصر الصور العقائدية المركوزة في عقل/ ثقافة هذه الشعوب لنتوصل بالتالي إلى العامل أو المحفز الاستفزازي الذي يتحكم في قوة واتجاه ردود الأفعال السلوكية ،الذي يساعد في الكشف الدوافع والأسباب غير المعلنة لما حدث.
ونعني بطبيعة العلاقة بين مكونات وعناصر الصور العقائدية المركوزة في عقل/ ثقافة هذه الشعوب ،طبيعة العلاقة بين الله والإنسان ،وبين النبي والمسلم ،كما استقرت في المخيال الديني للفرد المسلم ،كما في العقل الجمعي.
ليس هنا بالطبع مقام الحديث بالتفصيل عن طبيعة العلاقة بين السماء والأرض في الإسلام ،ولكن ،وبإيجاز – لا أدري إلى أي حد هو غير مُخل – نستطيع أن نقول بأن هناك شبه انقطاع تام بينهما ،على عكس ما عليه الحال في الأديان الأخرى سماوية وغير سماوية ،حيث تكون هناك صلة مباشرة عبر وسائط بشرية أو طبيعية تقوم بتجسير المسافة بين الآلهة في ضبابها العلوي وبين الإنسان في وحل عالمه الأرضي .
وربما يرجع هذا إلى أن الإسلام يمثل بين الأديان كافة قمة التوحيد والتجريد الألوهي.
إلا أن التجريد يستعصي على طبيعة البشر التي تميل إلى التجسيد..
لابد من صلة شخصية ما إذن ،بين الإله والكائن البشري الذي يعبده.
فالدين ،من ناحية وظيفية وسسيولوجية ،هو ،وكل طقوس عباداته وشعائرها ،إنما هو عبارة عن “خارطة طريق”. والأنبياء والرسل في هذه الحالة إنما يمثلون “علامات” في هذا الطريق ،يهتدي بها المؤمنون.
ولكن تختلف المسألة في الدين الإسلامي ،بسبب اتساع الفجوة بين السماء والأرض ،وبين ما هو إلهي وما هو بشري ،على نحو يهدد بانقطاع أي صلة بينهما.
ويعوِّض الوجدان الديني هذه الفجوة بالارتفاع ب”شخص” النبي كوسيط إلى ذرى الكمال البشري ،ذلك لأن التجريد المطلق للإلهي في الإسلام لا يدع مجالاً لأي صلة شخصية تتجاوز العبودية والخضوع ،رغم الحاجة إليها ،وذلك على عكس ما نقرأ في الكتب المقدسة الأخرى ،عن علاقات بين الخالق والمخلوق موازية لعلاقات البشر بين بعضهم البعض ،حيث نجد عاطفة الأبوة والبنوة بين الإله والنبي ،ونجد الحوار والجدال والإقناع بين السماء والأرض ،ويبدو الإله قريباً من الأرض ،حيث تنتابه نوبات الانفعالات البشرية من الحزن والغضب والغيرة والحب وغيرها ،مما يخلق نوعاً من التواصل و الحميمية في علاقة السماء بالأرض ،بتقريب المسافة بينهما ويكون التفاعل أكثر حضوراً وحيوية في حياة الفرد والمجتمع اليومية ،عبر هذه الوسائط الأرضية .
وقد شكلت هذه المسألة عقدة الخلاف بين قريش ودعوة النبي محمد الذي دعاها إلى الكفر بآلهتها التي كانت تمثل همزة الوصل بينها وبين الله .
ففي إطار منظومة قريش الدينية ، ومن منظور تصورها لعلاقة السماء بالأرض ، وعلاقة الإله بالبشر ،كان هذا الذي يدعو إليه محمداً أمراً غريباً ولا معقولاً بالمرة ، دعاهم لأن يظنوا به الجنون ” قالوا أجعل الآلهة إلهاً واحداً ؟ إن هذا لشيء عجاب! “( ) ، وإلا فإنه يسعى لأن يحل مكانها ليكون هو البديل لهذه الأرباب ، مع ما سيترتب على ذلك من مخاطر حراك طبقي ، يعيد تشكيلة الخارطة الطبقية للمجتمع المكي على نحو جديد.
فمن المعلوم أن قريشاً لم تكن تختلف مع محمد حول المسألة العقدية الأولى لدعوته وهي الإيمان بإله واحد يحي ويميت يخلق ويرزق ، والذي شهد لهم بذلك هو القرآن ذاته ومن تلك الآيات قوله ” ولئن سألتهم من خلق خلق السموات والأرض وسخَّر الشمس والقمر ليقولن الله فأنى يؤفكون “( 61/ العنكبوت) ، وقوله ” قل من ربُّ السماوات السبع وربّ العرش العظيم سيقولون الله قل أفلا تتقون “( 87،86/ المؤمنون) . لكن وجه الخلاف بين القرشيين وبين محمد يتمثل في دعوته لإسقاط شفاعة الشفعاء من أرباب العرب وإضافتها لنفسه بأن محمد هو الشفيع الوحيد عند الله .
وهكذا كان معنى إلغاء محمد الشفعاء هو إلغاء للحاجز الأخير بين القبائل و بعضها ، هذا ناهيك عن نظرتهم إلى محمد بحسبانه يسعي إلى إلغاء سادة القبائل من شفعاء ، ليصبح هو السيد الأوحد لكل القبائل ، لتنتقل له وحده الشفاعة بإدعائه أنه صاحب العلاقة مع الله وليس الشفعاء ولا الكهان ولا التجار والسادة. أي صاحب القرار القاطع والنهائي الناطق باسم الله ، وذلك عبر الشهادة له بأنه رسول الله .
في الإسلام إذن تُردم هذه الهوة ، أو يتم تجسيرها بشخص النبي كما قلنا ،إلا أن الإشكال هنا يتمثل في ان شخصية النبي لا تستطيع ان تخترق الحاجز الإلهي . بين ما هو إلهي خالق ،وبشري مخلوق ،حسب طبيعة قانون الإيمان الإسلامي الذي لا يسمح بمثل هذا الاختراق .
التصوف الإسلامي حاول بذكاء أن يحل هذه المشكلة عن طريق “الذات المحمدية” الذي تمثل نقطة الإلتقاء بين الطرف الأقرب من الإلهي إلى أرض البشر الذي يقابله الطرف الأعلى من البشري المنفتح على الإلهي ،وبذلك يكون للنبي وجودين أو قل حقيقتين :أرضية وسماوية ،وبهذه الطريقة تصبح الطريق “سالكة” بينهما للجنس البشري كله ،وبطريقة ما – وفقاً لهذا التصور – يفيض الوجود عن هذه الذات المحمدية ،والتي تمثل الفضاء السرمدي الذي يتوسط الوجودين :الإلهي في إطلاقه والطبيعي في نسبيته.
إلا أن الإسلام السني – وحتى الشيعي – الذي يغلق هذه الطريق الواصل بين الوجودين مكتفياً ب”الوحي” كخط إتصال وحيد يربط ما بينهما ،يوسع واقعياً من هذه الفجوة ،لأن التواصل عبر الوحي يصادر من هذه العلاقة البُعد الحواري فيها ،لتصير بهذا علاقة ذات بُعد واحد.
أحد طرفيها – الإلهي – متحدثاً، والطرف الآخر – البشري – مصغياً ومستمعاً .
ولكن لتظل حاجة الإنسان إلى الحوار مع إلهه قائمة.
وربما يفسر لنا هذا القيمة العالية للصلاة في أركان الإسلام التعبدية ،إذ يُفترض فيها أن تقوم مقام “الصلة” بين الله ومخلوقه الأرضي.
ولكنها هي أيضاً “لحظة” خضوع ،وحضور خاشع بين يدي الخالق،يستحضر فيها الأرضي الفاني إلهه ،ويستشعره ،ويشهد له بالوحدانية والقدرة الكلية ،ويسترضيه ،ثم يختم جلسته هذه بين يدي خالقه ،مستغفراً عن ذنبه ،ورافعاً حاجته لله راجياً إجابة مسألته.
وتبدو هذه الصيغة الإسلامية المقترحة لشكل العلاقة بين الإله والانسان من ناحية موضوعية أكثر الصيغ الدينية رقيَّاً وتحريراً للإنسان من الآلهة الأرضية ،خاصة إذا ما قورنت بطقس “الإعتراف” و”صك الغفران” في المسيحية ،وكما أشار المفكر السوداني محمود محمد طه فإن الإعتراف في هذه الجلسة النفسية بين العبد وربه في خلوة هي في الواقع أحفظ لكرامة الانسان من إعترافه لإنسان آخر .
إلا أن تحقيق هذا “الاستحضار” للإلهي المجرد خمس مرات في اليوم عند كل صلاة أمر يشق ويصعب تحقيقه على النحو الذي يحقق حضور الإلهي بالكثافة المطلوبة في تفاصيل الحياة اليومية ،مما يجعل الصلاة مجرد حركات جسدية ،تفتقر إلى المضمون الحقيقي لها ،وخالية من التأثير الذي ينبغي أن تُحدثه في الفرد . وهذا الوعي بصعوبة تحقيق الإلهي المجرد بسهولة ربما هو ما دفع محمود محمد طه إلى يطلقها في كتاب عنها جعل عنوانه “صلوا فإنكم اليوم لا تصلون” ،لأن الصلاة كما تُفهم بين العامة والخاصة من الفقهاء إنما مجرد طقس حركي فارغ وميت وخاوٍ !.
في كل الأديان توكل هذه المهمة الشاقة – مهمة الاتصال بالسماء – للأنبياء والشامانات والقديسين والمختارون من البشر ،وتُرك للناس آداء الشعائر والعبادات ،إلا في الإسلام فقد كُلف كل فرد بهذه المهمة .
وفي كل الأديان “يستبطن” الناس بسهولة الموجهات الأخلاقية ،ولكن يصعب إستبطان الوجود الإلهي ،وتزداد الصعوبة حين يكون هذا الوجود الإلهي بمثل التجريد الذي هو عليه في الإسلام ،ويزيد الفقه السلفي السني المسألة صعوبة حين يشدد على استبعاد كل أشكال التشفُّع والتوسط بالأولياء والصالحين ،كما يتشدد في مواجهة كل أشكال التأويل والتشبيه والتمثيل ،وزندقَتَها في أحسن الأحوال ،أوالقذف بها في محرقة التحريم ،وليُحاط الفكر الصوفي بالشبهات.
وهنا يبرز التناقض في الفقه الإسلامي بشقيه: الشيعي والسني ،السلفي منه وغير السلفي ،فهو إذ يعمل جاهداً على التنزيه والتجريد الكلي للإله ،وإلغاء كل الوسائط الأرضية ،وإغلاق كل “الطرق ذات الإتجاهين” بين الوجودين بتأكيد بشرية وأرضية الأديم النبوي ،إلا أنها تحيطه بهالة من الكمال ،لا يمكن مقارنتها إلا بكمال الآلهة ،نافية عنه ،ومتعالية به ،عن كل ماهو بشري طبيعي ،فهو “المعصوم” ،وهو التابو الذي لا يمكن مقارنته بالبشر العاديين. فحمل أمه به وولادته وطفولته تحاط بالمعجزات التي تؤكد وتدل كلها على إصطفاءه المسبق دون سائر الناس في مجتمعه للنبوة .ويستطيع أي مطلع على مثيولوجيات الأديان ما قبل السماوية أن يجد أوجه شبه عديدة بين وقائع حياة النبي (صلى الله عليه وسلم) المؤرخة في الأدبيات التاريخية الإسلامية ،في مراحلها المبكرة ،ما قبل بعثته ،وبين وقائع حياة أبطال المثيولوجيات الآشورية والهندية والتوراتية والإنجيلية ،وهو لايختلف عنها إلا في عدم تأكيد أصله الإلهي.
وتتويجاً لهذا التغييب المتعمد لبشرية النبي محمد فقد تم تحريم تمثيله أو رسم صورة له ،حتى ولو كانت مستقاة ملامحها مما ورد في كتب السيرة عن شخصيته وملامحه الجسدية ، وذلك تعظيماً له .إلا أن حجة التعظيم تتهاوى أمام السؤال المنطقي البسيط : وإذن ما حكم الصور القلمية التي أسهبت في رسم تفاصيل صورته بما تعجز أي ريشة عن بلوغها ؟.
ولم يقتصر هذا التحريم على “التابو النبوي” وحده ،بل شمل حتى صحابته وخلفاؤه في الحكم ،رغم ما ورد في كتب التاريخ الاسلامي ومرجعياته المدونة والمعتدة رسمياً من أعمال تؤكد انغماس بعضهم في أعمال وأقوال لا يقرها الإسلام ، وارتكاب بعضهم لجرائم بشعة ، تؤكد ، ليس بشريتهم وحدها ،بل وفسق هذا البعض ،كما سنرى في الفصل التالي !.
لقد ورث الفقه الإسلامي “صورة” للنبي وصحابته مستقاة من المرويات التاريخية الإسلامية المعتمدة من المؤسسة الدينية الرسمية ،إلا أنه أعاد انتاجها ،أو قل أعاد صياغتها في معمله بصورة مغايرة ،أزالت من الصورة (الأصل) كل ما فيها من ملامح بشرية ،واستبدلتها بظلال وخطوط غامضة ومبهمة ،مقيمة حولها سياجاً تابوياً ،مع التحذير بعدم تداولها !.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.