المثل السوداني المعروف “الجفلن خلهن أقرع الواقفات”، هو مثل يدعو للتصرف بحكمة مع ما تبقى من أشياء بعد فقد بعضها، والجفلن ؛ عبارة تستخدم في مناطق الجزيرة” للخيل، أو الحمير حينما تفر من أصحابها، ولكن في هذا الموضع فإن المقصود هو “انفصال الجنوب، وحال بقية الأطراف التي هي في حالة تأهب قصوى. بما فيها الاحتقان في الشمال. فالجنوب اختار طريقه، وما يبقى بينه وبين الشمال لا يزال كبير، فهو التاريخ والدم ، ومثلما قال نائب الرئيس الأستاذ علي عثمان محمد طه ” ما وثقه الرحمن بالارحام بين ابناء السودان في الشمال والجنوب لن يقطعه اجراء ونتائج الاستفتاء حول تقرير المصير لجنوب السودان”، لكن هذا الحديث يحتاج إلى ذهنية تحترم معنى التعدد الثقافي والديني والعرقي، وارادة سياسية تعرف مصلحة الوطن الكبير، وتعي بأنها فوق مصالح الحزب، وأشخاصه، فالجميع ذاهبون، وإلى زوال، ولا يبقى سوى الأرض والحب، وما ينفع الناس، بعد أن يذهب الزبد جفاءً. وهو التحدي الكبير الذي يواجهنا، فالمصالح الكبيرة مثل النيل والمياه والنفط، والتاريخ المشترك هي مزايا يجب توظيفه لتحقيق الاستقرار، وهذا الاستقرار يرتبط فيما بينه في الجنوب والشمال، وليس كافياً التعهدات، والاتفاقات عبر الخطب وحدها، فاستقرار الجنوب مربوط بتحول ديمقراطي، ومشاركة واسعة لكل القوى السياسية، وتطبيق مشروع السودان الجديد، واستقرار الشمال كذلك مرهون باطفاء بؤر التوتر ، وبترتيب البيت الشمالي من جديد وفق عقد اجتماعي متين، ومشروع وطني كبير، يحتوي دارفور بتنوعها، وبرمالها المتحركة، والشرق بتاريخه وبقمم جباله العتية، ومخابئه التي يصعب الوصول إليها لحظات الخروج من دائرة الشبكة المركزية، ويشمل المشروع كذلك النيل الأزرق بتاريخه وممالكه ونضالاته، وجبال النوبة باثنياتها، والجزيرة المروية بمشروعها العتيق، وما أصابه من انهيار بسبب السياسات الاقتصادية الانقاذية، وكذلك الشمال باهراماته و”اعوجاج لسانه العربي”، حين يتحدث به للتواصل مع الآخرين فقط. وترتيب البيت الشمالي يجب أن يكون أعلى أولويات الحكومة والقوى السياسية بعيداً عن الاستقطاب والاستقطاب المضاد، وحتى لا تتحول هذه المكونات إلى مصدر وحدة، لا أن تكون قنابل تنسف ما يربطها من نسيج لا يزال مهترئاً بسبب السياسات الخاطئة. وبعد ذلك يمكن أن تستمر العلاقة ما بين الجنوب والشمال في أقوى حالاتها، ولو على شكل اتحاد بين دولتين، بدلاً عن وحدة، وهو ما يمكن أن يكون “انفصالاً سياسياً لكنه على المستوى القاعدي يمثل أرضيةً صلبة للوحدة والتوع، وليت الرئيس البشير يتخذ قرارات حاسمة من جهة المؤتمر الوطني فيما يتعلق بترتيبات ما بعد الاستفتاء، وهي المتمثلة في المواطنة والجنسية، والموارد الطبيعية والنفط، والديون والأصول والمعاهدات الدولية، وبعد ذلك سيتححق ما أعلنه أمس بجوبا؛ باقامة روابط اقتصادية قوية بين الشمال الجنوب وتقديم نموذج للاتحاد الافريقى فى مجال تبادل المنافع وفى المحافظة على كيانات الدول وتطوير المصالح المشتركة فيما بينها، ولن تكون عملية ترسيم الحدود بمثابة جدار عازل، ولكنه يعنى وضع علامات على الارض مع ترك حرية الحركة للمواطنين على جانبى الحدود فى ظل وجود سلطات ادارية. وهذا سيبقى اذا ما تجنبنا مشاريع الاستثمار في الكراهية، ومنابر العنصرية، وصحف الفتنة والاثارة، وهي قريبة من حزب الرئيس البشير، وليتها تدرك معنى ما قاله يوم أمس. إن الجنوب “جفل سياسياً”، ويجب أن نتركه، لكن علينا أن “نقرع الواقفات” والمتمثل في الروابط الاجتماعية ، والمصالح الاقتصادية، وكذلك ترميم البيت الشمالي، لأنه هو مهدد بالانهيار.