أننا نبنى التماثيل من الجليد ثمّ نبكى أنها تذوب فى نوفمبر 1955 ورث جيل الأستقلال دولة سودانية جديدة نما فى شمالها ثمّة شعور قومى عبر الطرق الصوفية والثورة المهدية إلا أن حدود هذه الدولة السودانية الجديدة أمتدت لاول مرة لما هو اوسع من المجموعة الثقافية لشمال السودان واشتملت لاول مرة على شعب الجنوب الذى تفصله الثقافة واللغة والعرق والدين عن شعب شمال السودان. كما أنه اصبح من الواضح بعد انفجار التمرد الأول فى الجنوب فى نوفمبر 1955, أنه قد نما كذلك فى الجنوب شعور قومى بذاتية الجنوب المستقلة, مما دفع أهله لرفض الاندماج فى الدولة المركزية ومطالبتهم بالتعامل معهم كقومية مكافئة للقومية الشمالية. وعليه فلقد اصبح لزاما علي أى نظام فى الدولة السودانية الوطنية التى ورثت السلطة الاستعمارية مواجهة خيارات صعبة مع الجنوب الذى لم تستوعبه الثقافة الشمالية ولكن احتوته حدود نفوذها السياسى. وبذلك فبرغم خلافاتنا على سياسة هذه الحكومة المركزية او تلك تجاه الجنوب إلا أن كل مواقف الحكومات المركزية فى الشمال من قضية الجنوب لاتخرج عن كونها أجتهادات محكومة بالخيارات المتاحة للحكومة المركزية المؤسسة على القومية الشمالية فى التعامل مع الحركات القومية الجنوبية المتمردة. و هذه الخيارات بالطبع ليست ثابتة ولكنها لاتتغير بسبب طبيعة الحكم فى الشمال( حكومة منتخبة أو عسكرية) أو طبيعة الفكر الذى تقوم عليه الحكومات سواءا كانت اشتراكية كما فى عهد مايو أو أسلامية كما هى فى عهد الأنقاذ ولكنها تتغير بتغيير ميزان القوة بين الشمال والجنوب. بمعنى أن ما تحصل عليه القومية الجنوبية فى المفاوضات مع الشمال يساوى ثقلها السياسى والعسكرى فى الميدان ومقدرتها على استقطاب الدعم الخارجى. وفى هذا المنحى فلعل أول ما يجدر التذكير به هو أن مطالب الجنوب رغم إختلاف الواجهات السياسية والقيادات لم تتغير فى جوهرها منذ عام 1954 وحتى عام 2005 ولكن الذى تغير هو ميزان القوى بين الجنوب والشمال والشاهد على ذلك أن مطالب الحركة الشعبية فى نيفاشا هى عين المطالب التى تقدم بها حزب الاحرار فى عام 1954 والمتمثلة فى نظام شبه كنفدرالى فى السودان يسمح للجنوب بإقامة إقليمه المستقل بحرس عسكرى وعلاقات خارجية مستقلة ووضع ثقافى خاص. ولعله من الممكن قراءة التغيير فى موازين القوى بين الشمال والجنوب وفقا لمواقف الحكومات المركزية عبر الحقب التأريخية المختلفة منذ استقلال السودان. ففى عام 1956 كانت الحكومة الشمالية تتعامل مع التمرد فى الجنوب باعتباره مشكل امني بحت. وفى عام 1972 حصل التمرد فى الجنوب من الحكومة المركزية عبر اتفاقية اديس أبابا على الاعتراف بخصوصية الجنوب ومنحه حكما ذاتيا إقليميا يسمح لأهل الجنوب بادارة الكثير من شئونهم ولكن تحت الاشراف المباشر للسلطة المركزية فى الشمال.. وفى عام 2005 حصل التمرد فى الجنوب بقيادة الراحل الدكتور قرنق من الحكومة المركزية فى نيفاشا على القبول بالمساواة الكاملة بين القومية الشمالية والجنوبية وفقا لمبدأ أن كل الشمال قومية واحدة يمثلها المؤتمر الوطنى وكل الجنوب قومية واحدة تمثلها الحركة الشعبية. وبما أن الطرفين قد اقرا بوجود قوميتين متكآفأتين على تراب واحد فلقد أصبح لزاما عليهما أن يتوصلا إلى قراءة مشتركة حول العلاقة المستقبلية بين القوميتين الشمالية والجنوبية . والقرار هنا لايحتاج إلى عبقرية كبيرة فإما وحدة على أسس جديدة وفقا للمبادىء الجديدة التى أقرتها الإتفاقية أو قطع الحبل السياسى التاريخى الذى كان يجمع بينهما فى قطر واحد. ولربما كان الشريكان فى حاجة إلى أخذ مزيد من الوقت لبذل المزيد من الجهد فى دراسة جدوى كلا الخيارين وإمكانية تطبيقهما على الواقع لترجيح أحدهما على الآخر بصفة قاطعة وإتباعه ببرنامج عمل تنفيذى مفصل ومشاركة عالمية وإقليمية تضمن سرعة وصدقية تطبيقه وتتدارك آثاره الجانبية على الشمال والجنوب. ولكن يبدو أن الطرفين لم يكونا فى وضع يمكنهما من اتخاذ القرارات الصعبة فى هذا الإتجاه أو ذاك' لأن التصديق بإمكانية بناء وحدة قائمة على المساواة والثقة والأحترام المتبادل بعد عشرات السنوات من الحرب الدموية وإلغاء كل طرف لآدمية الآخر كان أمرا يصعب تصوره مهما بلغ المرء من الغفلة. كما أن القبول بمسألة الأنفصال الفورى أمر يصدم الرأى العام فى الشمال والجنوب ويعنى إلغاء كل الروابط التى نمت بين الشمال والجنوب خلال نصف قرن و التنازل عن ثلث تراب الوطن ومن الصعب إبتلاعه لقائد عسكرى أو تبريره للراى العام خاصة بعد أن زارت ويلات الحرب كل بيوت السودان. وعليه فلقد قررا الوحدة والأنفصال فى آن معا' حيث قررا حق الجنوب فى الانفصال بعد استفتاء شعبى بعد 6 سنوات كما قررا فى الوقت نفسه أقامة حكومة مشتركة حددا عمرها بثلاث سنوات لإقناع أهل الجنوب بالتصويت للوحدة فى الاستفتاء. بمعنى أن تستقطع الحكومة المركزية من حقوق الشمال فى ظرف 6 سنوات ما يجعل اقتصاد الجنوب صنوا لاقتصاد الشمال وأن تمسح كل التمييز العرقى المقيت الذى تراكم عبر القرون فى هذه السنوات الست وأن تجعل المعتقدات الدينية فى الجنوب مساوية فى نظر المواطن الشمالى للدين الإسلامى وأن تنقلب على نفسها وتحقق التحول الديمقراطى الذى جاءت لتبنى مشروعها السياسى على أنقاضه. فى الوقت الذى أقرت فيه الإتفاقية بحق الجنوب بالاحتفاظ بجيشه المستقل ونظامه القانونى والمالى المستقل وحرمت رئاسة الدولة المركزية من أى سلطات رقابية على الحكومة (الإقليمية فى الجنوب). وهذا التناقض هو الذى يشرح معضلة نيفاشا الحقيقية حيث أنها تسعى إلى تحقيق هدفين ينفى كل منهما الآخر. و الجديد فى نيفاشا هو قبول الحكومة الحالية بمبدأ تقرير المصير للجنوب وهو ما يمثل أول تنازل من نوعه تقدمه حكومة مركزية سودانية لحركة تمرد جامعة فى الجنوب. وهذا ما تحاول المعارضة الآن أن تحاصر به الحكومة بتركها وحيدة تتحمل وزر فصل الجنوب. فهل ارتكبت الحكومة ومن خلفها حزب المؤتمر الوطنى حقا خطيئة لاتغتفر فى حق الشعب و الوطن بقبولهما لحق تقرير المصير للجنوب؟ ربما' ولكن حتى لاتخرج السياسة السودانية تماما عن دائرة المصداقية و لايجرمنا شنآن قوم على ألا نعدل' لا نملك إلاّ أن نقر بأن حزب المؤتمر الوطنى هو آخر القوى السياسية الشمالية التى قبلت بحق تقرير المصير للجنوب (إذا اعتبرنا أن تأريخ ميلاده كحزب جديد قد تلا انقسام الحركة الاسلامية فى ديسمبر 1999') حيث أنه قد سبقته على ذلك احزاب التجمع الوطنى' الأمة والاتحادى والشيوعى التى وافقت على منح الجنوب حق تقرير المصير فى مقررات مؤتمر اسمرا للقضايا المصيرية فى يونيو 1995 ولحق بها حزب المؤتمر الشعبى فى الاتفاقية التى شاركت فى توقيعها بمدينة نيون بسويسرا فى فبراير 2001. وعليه فاذا كان القبول بحق تقرير المصير خطيئة فلقد اشتركنا جميعا فيها وآخرنا الحزب الحاكم ونتحمل جميعا وزرها. فالمشكلة اذن ليست فى قبول حق تقرير المصير بل فى الانسجام بين ما نقوله وما نعنيه حتى حينما يتعلق الأمر بمسألة مصيرية..وبما أننى كنت طرفا فى تفاوض مع الأخوة فى الجنوب فلا أذيع سرا إن قلت أننا حينما كنا نقر بحقهم فى تقرير المصير أو نقبل بمبدأ التفاوض عليه كنا نسعى وفقا للطريقة السودانية أن نقدم لهم أقوى الضمانات بأننا لا نسعى الى فرض ثقافتنا عليهم بالقوة أو نسعى لتذويبهم قسرا فى الثقافة الشمالية ولكننا لم نكن نعنى فعلا أننا نقبل بتقسيم السودان بهذه السهولة أو أننا ننكر أن هذه الأمة قد تأصل فيها الشعور النفسى بالرغبة فى العيش المشترك أو أننا سئمنا التضحية فى سبيل دولة سودانية متماسكة وقوية بعد أن أهدرنا فى سبيلها الألوف المؤلفة من الأنفس الزكية. وأخشى ألا يكون الأخوة فى الجنوب حينما كانوا يتحدثون عن الانفصال كانوا يودون أيضا القول على الطريقة السودانية أننا غاضبون منكم غاية الغضب وأن عليكم أهل الشمال أن تفكروا مليا فيما تفعلون وبذلك نكون قد دفعنا كل من جانبه الوطن نحو الكارثة بسبب وقوعنا ضحايا لوسائل التعبير فى الثقافة السودانية. لأننى كلما سمعت الأخوة فى الجنوب يتحدثون بحماسة عن الأنفصال تذكرت حوارا قصيرا دار بينى وبين الزعيم الراحل قرنق عقب استماعى لأحدى خطبه الرصينة فى سويسرا حيث بادرنى بالسؤال عما سأنقله عن خطبته لأهلى فى السودان , قلت سأقول لهم يا سيادة القائد بأن الزعيم قرنق من أبرز ما أنتجه السودان فى شماله وجنوبه من سياسيين وليته تخلى عن الدعوة إلى الانفصال حتى يفيد كل السودان بعلمه وذكائه وخبرته. وبالرغم من شعورى بأن أجابتى العفوية قد أثارت حفيظته إلا أننى أكبرت فيه كثيرا أنه لم يتجاهل حديثى أو يصفعنى لفظيا عليه بل سألنى مبتسما و من أقنعك بأكذوبة أننى أسعى لفصل الجنوب قلت دعوتك الحالية للكونفدرالية التى لاتتم إلا باستقلال الجنوب أولا , قال هذه أقولها على سبيل المناورة فقط لأن الحكومة تناور بحق تقرير المصير وأنا أعلم أنها لن تقبله ولكن أسمعها منى لا أحد فى السودان أحرص منى على الوحدة لأننى أعلم أننى لو فصلت الجنوب لتمزق كل السودان فى شماله وفى جنوبه لأن الناس فى كل أقاليم السودان لايزالون يعرفون أنفسهم بانتمائهم القبلى والأقليمى. وهذا ما يجعلنى أتفهم الأزمة النفسية التى تعيشها الحكومة والحركة الشعبية مع قرب الاستفتاء فى الجنوب وشعورهما بأنهما ربما كان فى مقدورهما العمل أكثر لتفادى ضياع الفرص الكبيرة لاستدامة الوحدة فى السودان مما دفع ببعض قادتهما للبكاء فى المنابر العامة.. و لكن رغم كل هذه المشاعر الوطنية الفياضة فإن المرء ليخشى أن يضيعا فرص السلام مثلما أضاعا فرص الوحدة. لأنه لم يعد يدر فى خلد أحد أن الاستفتاء يعنى غير الانفصال ولم يعد خافيا على أحد أنه ليس أمام الأخوة فى الحركة الشعبية سوى المضى قدما فى مسألة الانفصال وليس أمام المؤتمر الوطنى اذا رغب فى الحفاظ على وحدة السودان الآن بأى ثمن إلا أن يمنع أو يؤخر قيام الاستفتاء. ولكن حتى ذلك لم يعد يكفى إذ أن بمقدور الجنوب أن يعلن استقلاله على عين النهج الذى أعلن به السودان أستقلاله من داخل البرلمان دون استفتاء رغم وجود اتفاقية تنص على خلاف ذلك. اللهم إلا إذا بحثت الحكومة عن ذريعة لاحتلال الجنوب قبل الاستفتاء وانهاء حكم الحركة الشعبية على طريقة على و على أعدائى يارب. أو قررت أن تقدم على خطوة أقل راديكالية بإشعال الصراعات القبلية فى الجنوب للدرجة التى يصبح فيها قيام الاستفتاء امرا مستحيلا من الناحية العملية ولكن هذه الخطوة ليست بأفضل من سابقتها إذ أن الحكومة لاتملك أى ضمانات بألا يمتد الحريق الى الشمال وينهار النظام العام من نمولى الى حلفا خاصة مع ضبابية الوضع فى دارفور. ولربما لو فكرت الحكومة قبل الساعة الرابعة والعشرين لبحثت عن سيناريو تلغى به فى آخر لحظة قوانين الشريعة الاسلامية فى الشمال لتربك القوى الجنوبية الانفصالية التى تجعل من الشريعة الاسلامية حصان معركتها الانفصالية ولكنها لو أقدمت على ذلك الآن دون اعداد محكم فستجد نفسها فى مواجهة مع نفسها والشعب وستحدث صدمة تهز الأسس التى تقوم عليها الوحدة القومية فى الشمال. أذن ربما لم يعد أمامنا سوى أن نقبل بانفصال الجنوب عبر الاستفتاء باعتباره أمرا واقعا رغم العنت النفسى والشعور العميق بالخسران وأن نراجع جميعنا وسائلنا السياسية حتى تنسجم مع القيم الاخلاقية والمصالح الوطنية العليا علنا بذلك ننقذ ما يمكن انقاذه. فلقد فات الأوان على منازعة أهل الجنوب فى أمر أستقلالهم ولم تعد تلك أولوية وتبعا لذلك لم تعد كذلك أولوية مسألة ترسيم الحدود وتقاسم الديون وتحديد هوية الجنوبى فى الشمال بل اصبحت الاولوية هى الحفاظ على الاستقرار فيما تبقى من البلاد وتفادى الحروب العبثية الضروسة لاجيال قادمة إبان تحول الجنوب إلى دولة مستقلة. ولربما لا يزال هنالك بعضا من الوقت لانجاز ذلك عبر توحيد الجبهة الداخلية فى الشمال و تحقيق التعاون الامنى والعسكرى بين الشمال والجنوب وارساء أسس راسخة للتبادل الثقافى والاقتصادى والتعاون السياسى بينهما والحفاظ على الروابط النفسية والتاريخية بين الشعبين. فليت الحكومة توقفت عن بتبديد موارد البلاد بحملات الوحدة العبثية والمناورات وعن تعميق الجراح فى الشمال بالاجراءات التعسفية والقمع و السجون واغلاق الصحف واتجهت لاطلاق الحريات وتوسيع المؤسسات واشراك الجميع فى القرارات المصيرية. وليت المعارضة توقفت عن الاصطياد فى الماء العكر والتهرب من المسئولية وتغليب الانتصار للنفس والمصالح الذاتية على مصلحة الوطن فى هذه الظروف الاستثنائية. ولا يفوتنى فى الختام أن أذكر أخوتنا فى المعارضة الذين أشاركهم جلّ مآخذهم على الحكومة بمقولة الفيلسوف الالمانى جوته ابان احتلال نابليون للااراضى الالمانية بأن سلطة الاحتلال أمرا فى غاية السوء وتجب أزالتها بكل الوسائل ولكنها بأية حال أقل سوءا من الفوضى وانتشار العنف والانهيار الكامل للنظام العام. والله الموفق' الدكتور عمر إبراهيم الترابى – سويسرا