يواجه المعلقون السياسيون والصحافيون المهتمون بالشأن السوداني معضلة. عليهم ان يتحلوا بصدقية مهنية تجعل القارئ يهتم بمتابعة ما يكتبون. لكن عليهم ايضاً ان يفكروا في مستقبلهم، عالمين بأن ما يسطرون يرصد وانهم (اذا خرجوا عن خط معين) قد يدفعون ثمناً باهظاً في المستقبل. البعض لا يستحي وعلى رأس هؤلاء اريك ريفز الذي يستحيل ان يذكر أي أمر يضفي قدراً من التوازن في احكامه على قضايا السودان. فهو منحاز بسفور ولا تهمه مسألة الصدقية ولا يحاول وضع قناع يستر موقفه. يتأرجح الآخرون بين الهجوم على السودان (لكي يبرهنوا اوراق اعتمادهم) وبين سرد بعض الحقائق التي ترضى ضمائرهم وتضمن لهم قدراً من الصدقية. كتب ستيف بلومفيلد تحت عنوان: «متمردو دارفور على وشك الاستيلاء على الخرطوم» (الاندبندنت 11 مايو ) ان حركة العدل والمساواة تقول انها تسيطر على أم درمان ويبدو انها تتحرك للسيطرة على الخرطوم! كرر بذلك (من مقره في نايروبي) دعاية الغزاة. ورغم انه اورد ما ذكره التلفزيون السوداني من ان الهجوم سحق الا ان تقريره كان يميل بوضوح لصالح التمرد. لكننا نتذكر ان ستيف بلومفيلد كان واحداً من الصحافيين الذين قالوا بصراحة في اكثر من مناسبة ان قوات الاتحاد الافريقي محرومة من التمويل وان الاتحاد الاوروبي الذي وعد بتوفير رواتب الضباط لم يف بوعده الأمر الذي اثر على اداء تلك القوات. ذكر ذلك في وقت كانت فيه الدعاية المضادة للسودان تتهمنا بعرقلة القوات الافريقية. أما افضل مثل للتأرجح بين النقد الجارح للسودان - تأكيداً لاوراق الاعتماد الملتزمة بالخط العام - وبين دس حقائق (نعم دس هي الكلمة!)، تضفي قدراً كبيراً من الصدقية وتبرهن على الامانة المهنية، فإننا نجده عند الدكتور اليكس دي وال. يمتاز هذا الخبير بشؤون السودان ودارفور بأنه بدأ الاهتمام ببلادنا منذ مطلع الثمانينات ولم «يجنده» احد ضمن الحملة الحالية التي تضم بعض من لا يكادون يعرفون موضع السودان في الخريطة مثل الممثل جورج كلوني والجاهلة ميا فارو. القى د. اليكس دي وال محاضرة عن مصير السودان في اعقاب هجوم المتمردين على أم درمان. امتلأت كل مقاعد قاعة بروناي بمدرسة الدراسات الشرقية والافريقية (ساواس) بجامعة لندن يوم 12 مايو. انتقد السودان وقادته (كما هي عادته)، لكنه دس في ثنيات النقد بعض ما لا يجرؤ الآخرون على الاعتراف به. قال ان د. خليل يعلم ان النقد يتكاثر على السودان اذا ما هاجم المتمردين ولا ينتقد احد المتمردين اذا هاجموا، لذلك فأحد الاحتمالات انه حاول غزو العاصمة لكي يستفز الحكومة لترد بقوة وبشدة فتجلب السخط المتوقع. قال ان قوات «يوفور» في تشاد يمكن ان تزيد شكوك السودان في حياد بعض القوى الكبرى وفي نياتها. وقال ان الاغاثة في دارفور توفر الطعام ليس للنازحين فحسب بل للمتمردين وقطاع الطرق الذين يستولون على الشاحنات. وقال ان الجماعة الدولية بالغت في اضفاء أهمية على موضوع قوات حفظ السلام وعالجت الأمر بطريقة سممت جو العلاقات مع السودان. وقال إنه يختلف مع الكاتب الامريكي نيكولاس كرستوف الذي يدعو صراحة الى الهجوم على السودان وليس الحل السياسي. انتقد اليكس دي وال ايضاً «لعبة الارقام» التي يمارسها بعض الذين امتهنوا التلاعب بعدد القتلى في دارفور. واعترف بأن التمرد يجد دعماً من تشاد وان حركة العدل والمساواة هي الوحيدة التي تقاتل بفعالية في الساحة ولذلك خلفية هي ان الزغاوة صاروا الآن قوة اقتصادية كبرى في تشاد والسودان. وانتقد ايضاً حركات التمرد وقال إنها اثناء مفاوضات السلام في ابوجا 2006م كانت تهتم دائماً بالسؤال: «ما هو نصيبنا؟». خلص د. اليكس دي وال إلى أن السودان لن ينهار اذا تمكن من ازالة الفرق بين الوسط والهامش ووفر تنمية متوازنة. أكرر ما قلته في المداخلات التي اعقبت المحاضرة من ان الاختلاف في الرأي مع أليكس دي وال لا يحجب أعيننا عن الإعتراف بأمانته المهنية والعلمية (مقارنة بغيره).