قبل أسابيع انتقل إلى رحاب الله ثلاثة من فرسان الكلمة في السودان هم مصطفى سند ومحيي الدين فارس ومحمود أبو العزائم، وللأسف الشديد فإن رحيلهم جاء في وسط أحداث كان وقعها على السودان أشد من قرع الطبول، لذلك استولت على كل انتباه الناس فلم يبق ما يمكن أن يدخروه لغيرها. جاءت محاولة الغزو الفاشلة للعاصمة في 10 مايو ففتحت للرأي العام أبواب للجدل في عدد من المواضيع المصيرية، وقبل أن تهدأ ضجتها جاء احتراق طائرة الخطوط الجوية السودانية مساء الثلاثاء 10 يونيو الحالي، فأحدثت ضجة أخرى ما زالت تغطي على سواها من أحداث. للأسف الشديد ضاع وسط كل تلك الزوابع أخبار تغييب الموت لهؤلاء الفرسان. في السودان اعتدنا أن ننتهز فرص غياب أمثال هؤلاء النجوم فنبدأ الكلام عنهم. وبالفعل تكلم عن هؤلاء بعض التلاميذ وبعض المهتمين بأمر القلم ولكنه لم يكن اهتماما يعكس حجم هؤلاء وتأثيرهم في وقت لم يكن المزاج العام يميل لسماع أو قراءة أي شيء سوى الحديث عن تلك الأزمات الكبيرة مثل غزو أم درمان. محمود أبو العزائم ربما وجد قليلا من الاهتمام بالحديث عنه بعكس كثير من إنتاجه المنشور بشكل يومي في الصحف بعد رحيله، وهذا حدث لسبب خاص، وهو شيء جميل، فإظهار الوفاء للراحلين العظماء إن كان في شكل وفاء الوعاء الثقافي العام بمبدعيه، أو في شكل وفاء التلاميذ لشيخهم، أو في شكل وفاء الأبناء لأبيهم .. كله يشكل نوعاً من العرفان والتقدير المقبول. محمود أبو العزائم، بشكل خاص، وجد عناية زائدة لأنه ترك وراءه إنتاجا غزيرا لا يحتاج لبحث أو تنقيب أو مراجعة، فيكفي أن يغرف من يريد من هذا الإنتاج الغزير ويعرضه، وذلك بعكس الشيخين الآخرين. فهمها مقلان في الكتابة، ومقلان في الظهور الإعلامي، خاصة الشيخ الأول عمرا وبداية، فقد قضى الجزء الأخير من حياته، وهو، يصارع المرض، وقوته تضمحل شيئا فشيئا حتى صرعه المرض في النهاية. لكنه في المقابل ترك وراءه ثروة وطنية، ترك (أنا سوداني) الأغنية النشيد التي نادرا ما يمر يوم لا تطرق فيه أذن المستمع العادي. رحيل هؤلاء المبدعين ترك وراءه تساؤلات : أين المنظمات الثقافية والأدبية؟ وأين إنتاجها الاستعراضي والنقدي، وأين المنتديات، وأين الندوات، وأين الملفات الثقافية والصفحات الأدبية؟ وبعد .. أما آن للمجتمع الثقافي أن يبكر قليلا في الاحتفاء بمبدعيه فيقدم جزءا من هذا الاحتفاء في حياة المحتفى به بدل أن يضن على المبدع أن يرى في حياته تقدير المجتمع له؟!