طرفة الجعلي المغترب ( الحمش ) التي تقول إنه حينما بلغه تلفونياً نبأ زوجته التي أساءت للأسرة وخرجت عن الأدب ... أسرع إلي قطع عمله واستعجل في إجراءات سفره ليؤدب هذه الناشز ويجعلها عبرة لمن يعتبر ... وبعد وصوله مطار الخرطوم وعلى إثر سؤال إجرائي عن المرافقين وهل معه زوجة أجاب الرجل : أنا ما متزوج حينها أدرك أن كل ما تم لا داعي له وضحكنا من نكتة تحاول تصوير الجعليين شجعان غيورين فتصورهم أغبياء مضحكين ! بعض من شكل هذه النكتة يظهر في سلوكنا العام فنحن غيورون جداً عجولون أكثر،وقد أحسن أخونا العربي حينما وصفنا بقوله : ( السوداني كالبيبسي مليح وزين لا ترجو )، والنص واضح فإذا رججته فار و( اندلق ) و( لخبط ) الدنيا .. لاحظوا ذلك في صحافتنا ... ألا تتابعون المعارك الصحفية التي تدور من حين لآخر بين الكتاب، تلك المعارك الضارية التي تتجاوز دور الصحافة وسيلة إصلاحية ومرآة نقدية ومنبراً للأدب فتجعلها منبراً لغير ذلك ! ذلك ليس بسبب كوننا لا نجيد الصحافة ولا كوننا لا نجيد الفنون والآداب فنحن من أفضل الشعوب في هذه النواحي ولكن السبب طبيعة تركيبتنا ( الحارة ) الفوارة، ولذلك فإن مسيرة صحافتنا هذه ستعاني كثيراً من العراقيل التي تعيقها في سبيل أن تكون صحافة ذات طابع ثقافي تثري الساحة الفكرية والأدبية .. الحقيقة التي لا يستطيع أحد أن يتجاوزها هي أننا متأثرون جداً بالمجتمع المصري وأن الرعيل الأول من أدبائنا وساستنا رضعوا من ثدي الآداب المصرية، أقولها وأعلم أنها النقطة الأكثر إثارة لقطاع كبير من القراء، لكنها الحقيقة ! ونحن هكذا تأثرنا بالصحافة والثقافة المصرية ونقلنا بعض صورها مثل كتابات العقاد ومصطفي صادق الرافعي وطه حسين وغيرهم ونسينا أن نراعي فروق البيئة، فالمصريون شعب يختلف عنا كثيراً فهم أميل للمزاح ونحن أقرب للجد وهم أسرع للنكتة ونحن أسرع لغيرها، والمصري لا يحز في نفسه كثيراً إذا وصف ببعض الأوصاف ونحن ( ندخل في النار ) لمجرد إشارات خفيفة بأية صفة حتى لو كانت إيجابية ولكنها جاءت على صورة تنم عن عيب كأن نقول : ( فلان هذا يخاف مخالفة القانون ) فإنها تسمع : فلان يخاف من القانون وهي عيب كبير في حق السوداني بينما كل الناس يخافون مخالفة القانون .. والمقارنة بيننا واخواننا المصريين توضحها نكتتان .. تقول الأولي : إن السوداني قال للمصري ( انتو تأكلوا مال النبي )، فرد المصري : طب ما لو مش جيبنا برضو ؟ والثانية تقول : إن السوداني صرخ في وجه المصري : تغشني أنا ؟ أنا واقع من السما سبعة مرات ! فرد المصري بهدوء : حمد الله على السلامة يابي ! والمصريون حبايبنا والله يصل الرجل مع مخالفه إلي ألد الخصام ثم يتجاوز الأمر إلي غيره، ونحن لا نتجاوز بسهولة ... صحيح أن هذا الأمر ليس على أطلاقه لكن هذه هي الصفات الغالبة ! أقول : إن الصحافة السودانية وهي تعالج القضايا الحساسة والمهمة يجب أن تتخلص من الروح السودانية الخاصة، فالصحافة منبر لممارسة الأدب والأدب لا يمكن أن يأتي بلا نقد فالنقد مرآة الأدب . ومؤكد أن مخالفة الرأي واردة ومؤكد أن أسلوبك الذي تكتب به أو مفرداتك التي تستخدمها أو موضوعاتك التي تطرحها لا تعجب كل الناس .. يا أخي صلاتك يمكن ألاَّ تعجب بعض من صلي خلفك والناس مختلفون ولا يزالون مختلفين فما المشكلة في أن ينتقدك أحدهم ؟ هذا السؤال يوجه إلي النفس أولاً ليحدث التصالح مع الذات ثم للغير ثانياً ليحدث التصالح مع الآخر ! كثيرون هم الذين يكتبون فينتقدون ويضيفون لمسيرة الثقافة والأدب وقليلون هم الذي يكتبون ليهاتروا وليسيئوا وكل إناء بما فيه ينضح ! فماذا يضير صحافتنا لو تجاوز كاتبوها الاسفاف والمهاترات وعملوا بمبدأ أن ( تقرش ) الكتابات غير الموضوعية في خانة الجهل أو خانة السفه أو أية خانة تجعلها تعبر عن صاحبها لا عن المكتوب عنه ... أنا معجب جداً بطريقة أبي الطيب المتنبئ في مرافعاته عن نفسه أمام الوشايات والمكايدات والمهاترات .. أبو الطيب يحس بأن الأمر لا يعنيه من قريب ولا بعيد فنجده يقول : قد تنكر العين ضوء الشمس عن رمد وينكر الفم طعم الماء عن سقم والحلم ؟ إنه الذُل يا بني كما قال العربي الحكيم قديماً لكنه ذُل الواثق من نفسه ! وهذه الطريقة الأدبية البحتة حينما ( تتسودن ) تصبح غير أدبية وتفهم أنها استخفاف بالآخرين و( حقارة ) واستفزاز .. السبب بسيط فصحافتنا تسيطر عليها الصبغة السياسية وصراعاتنا السياسية تسيطر عليها روح ( أركان النقاش ) والمسافة بين انتقال كثيرين منا من بين مرحلة الطلب إلي مرحلة ( الأستاذية ) لا تتجاوز السنة أو السنتين وهي بلا شك ليست كافية لصقل الموهبة وزيادة الثقافة وإتقان المهنة وليس بالضرورة كل من يستطيع أن يشتم أو يسئ للآخرين أو أن يقول ما لا يقال يصبح أستاذاً صحفياً متميزاً وسياسياً محنكاً وليس بالضرورة أن من لا يسئ ولا يجرح صحفي فاشل وسياسي ضعيف .. حدثوني عن موقف واحد أساء فيه الأزهري رحمه الله لخصمه .. الأزهري الذي استقبله معارضوه في بعض المناطق بذبح الكلاب .. أليس الأزهري أستاذاً ؟ أليس سياسياً ؟ لقد كان في منتهي الأدب وأغني ساحتنا بنموذج رائع ! إذا كنا نعجب بالأقلام الحادة فلا بأس ... لكن فلنعجب بالأقلام الحادة المؤدبة فالأدب الساخر واللاذع ضرب من ضروب الأدب والذي يقرأ ( على السفود ) أو يقرأ خطبة المحجوب الشهيرة يستمتع بهذا الضرب من الأدب .. دعونا في الصحافة نكتب وخارجها ( نتشاكل ) فهنا مقام الأدب والأسلوب وهنا مقام النقد !! وما بين هذا وذاك تخلصوا من ( الصابونة ) اتدرون ما هي الصابونة؟ تقول نظرية الصابونة التي أطلقها أحد أساتذتنا الأجلاء : يكتب الكاتب في السودان بموضوعية شديدة فيكتب آخر مخالفاً له متعرضاً له بالإساءة والتجريح فيرد الكاتب الأول ويدافع عن نفسه، فيفهم الآخر الأمر إساءة له ... فيرد عليه ويتعرض له بالإساءة أكثر من قبل ويترك الموضوع الرئيسي ويعزل القارئ عنه وتتحول المساجلات إلي إساءات والأدب إلي ( قلة ) فذلك مثل الذي دخل الحمام وعند خروجه زلقته ( الصابونة ) ... لقد اتسخ !!