عملت بعد تخرجي لفترة وجيزة بإحدى الدول الخليجية بغرض التزود بالعلم والمال لإكمال رحلة التخصص بأوروبا كنا جلوسا في احدى الليالي الرمضانية وكان بجواري حارس المستشفى تحدثنا عن الامساك فكانت اجابة الحارث يا شيخ تمسك عندما تتبين العبد من الحر وأشار الىّ عند ذكر العبد وأشار الى نفسه عند ذكر الحر ، ايقنت حينها بفوائد السفر ( سافر ففي الاسفار خمس فوائد ) وتعلمت حينها رحابة الصدر وسعة الافق فالرجل جاهل متمترس في ثقافة اجداده ، حزمت بعدها حقائبي الى جمهورية ايرلندا ومنها الى انجلترا وكان عمر ابنتي سارة عامين اخذتها الى الروضة سألتني المدرسة الانجليزية عن اسمها قلت سارة فقالت لي هذا اسمها الانجليزي نريد اسمها السوداني وأعطيتها محاضرة عن مصدر اسم سارة ام سيدنا ابراهيم واعتذرت لها عن تسجيل ابنتي في روضتها وقلت لها سوف ابحث عن روضة ذات افق واسع ، مرت الأيام وبلغ ابني معز المولود بمدينة نيو كاسل عامه الثالث اذ خرج لنا يوما من الحمام كما ولدته امه وجسمه مغطى برغوة الصابون وهو يصيح (now I am white ) (الآن انا ابيض ) وقطعا حس بفارق لونه من خلال اقرانه في الروضة . كنت قد قرأت قبلها بيومين في احدى الصحف الانجليزية ان سيدة نيجيرية وجدت طفلها الأسود بالمطبخ ممسكا بسكين وبدأ في تقشير جلده ليصل الى الطبقة البيضاء حينها أكبرت رجاحة عقل ابني معز الذي اكتفى بالصابون ولم يحمل سكيناً . استرجعت شريط الذكريات تلك وانا أقرأ عن خبر الطفل (موسى ) فقد ولد مجهول الأبوين رعته قابلة في ايامه العشرة الأولى وتبنته اسرة جنوبية تقطن مدينة كسلا وفرت له هذه الأسرة أجواء اسرية منها الحنان والعطف وأدخلته الى الروضة حينما شب عن الطوق حتى بلغ سن السابعة ،قررت الأسرة الرحيل الى جنوب السودان بعد انفصاله وقد فوجئت بالسلطات في المطار تمنع موسى عن السفر لان ملامحه شمالية وليست جنوبية واعترفت السلطات بانه الحالة الأولى التي تمر عليها وتم ايداع موسى لاحدى دور رعاية الأطفال مجهولي الأبوين . موسى كأي طفل في عمره بريء تفتحت عيناه على هذه الأسرة ولم ير منها غير الحب والحنان والرعاية فهذه الأسرة بالنسبة له هي الوالد والوالدة والأخوة وببراءة الأطفال قطعاً لن ولم يسأل عن أبويه الحقيقيين لأنه ليس هنالك ما يدعو لذلك (ولا تزر وازرة وزر اخرى)، وعندما دار الهرج والمرج لمنعه من السفر كان منشغلاً بأشياء أخرى وعند لحظة الفراق بكى وبالتأكيد ابكى من حوله ، نشرت الصحف صورة لموسى وما لفت انتباهي من الصورة كمال هندامه ولبسه الانيق وشعره المصفف بعناية وبشرته الصحية وانا اتفحصها بعين الطبيب تدل على عناية تامة بتغذيته وراحته وسلامة صحته العقلية وخلصت من تقييم الصورة ان هذه الأسرة قد قامت بكامل واجب الرعاية والعناية بهذا الطفل وكان تقرير السلطات ان أوراق كفالته لم تكن سليمة ويودون ان ترعاه اسرة شمالية بأوراق سليمة ، تألمت غاية الألم للمصير الذي آل اليه هذا الطفل البريء وكان خياره الفطري والطبيعي والمنطقي ان يكون بين الأسرة التي عرفها منذ ميلاده ولو أتينا بلجنة من سبعة أطفال في عمر موسى لكان قرارهم بالاجماع ان يبقى موسى بين أسرته وهذا هو الوضع الطبيعي .. ويبقى تساؤل ما هي القيمة او المردود في ان يتخلف موسى عن أسرته الطبيعية ، وكان من الممكن ان يكون بذرة لتوحيد السودان شماله وجنوبه مرة اخرى واتمنى ان يصاب العالم بعمى الألوان عندما ننظر لبعضنا البعض حتى نتبين الخيط الأبيض من الأسود وليس العبد من الحر . بعد كتابتي هذا المقال بيومين سررت غاية السرور عندما علمت ان احد القضاة حكم لصالح الطفل موسى وألحقه بأسرته الجنوبية ، فللقاضي التحية والتجلة والاحترام ولموسى كل ودي بحسن الختام .