(ان يكن للعدل في الارض وجود فليكن دمنا هو المقياس) ربما كانت العبارة وقود قوة دفع لمولانا محمد بشارة دوسة وزير العدل واضعاً عرقه كمقياس للعدل بدلاً عن الدم في اضخم معاركه التى اعلنها بشروعه الفورى في تطبيق قانون الثراء المشبوه المعروف ب(من أين لك هذا)؟ كاشفاً عن عزمه اعلان أسماء محتالى البنوك (الجوكية) باعتبارهم مجرمين تحصلوا على أموال عامة دون وجه حق، ليقرن قوله بالعمل ، بنقله مكتبه لمبانى نيابة الثراء الحرام منذ غد الخميس بهدف المتابعة اليوميه للملف.. دوسة سعى لتوضيح خطوته المفاجئة مطلقاً تعهداته أمام البرلمان أمس الاول ببدء رحلة استعادة المال العام ، كاشفاً في الوقت ذاته إتجاهه لإستدعاء مديري البنوك والضرائب لاستفسارهم عن اي شخص او جهة مدينة للبنك عبر شيكات او ترفض إرجاع أموال هذه البنوك لها.. خطوة الرجل فجرت العديد من الاسئلة حول سببها وتوقيتها ، ولم يخف كثيرون دهشتهم من مسارعة الرجل للإشراف بنفسه على الملف ، فى الوقت الذى تتناثر ملفات لا تقل خطورة على طاولته، كمحاكم جرائم دارفور التى لا يستقر مدعيها على مقعد المنصب إلا ويغادره كالملدوغ ، دون مبررات واضحة ، ما خلق نوعاً من التوقعات بوجود موانع تعترض أداء المدعين لمهامهم في الاقليم الملتهب.. بالإضافة لملف التعديلات القانونية المعنى بالإشراف عليها لتسهيل مهمة الرئاسة في اعلان التشكيل الحكومى الجديد المرتبط بإصدار تعديلات قانونية لبعض المؤسسات الدستورية، طبقاً لما قاله نائب رئيس الجمهورية د. الحاج آدم يوسف، كما ينتظر الرجل البت في قضايا الفساد المباشر سواء القادمة عبر المراجع العام أو تلك المحالة من آلية مكافحة الفساد التى كونها الرئيس برئاسته ، بالإضافة لامتحانات تخوضها وزارته نفسها داخلياً وعلى مرأى ومسمع من الرأى العام السودانى ، ممثلة في قضية المستشار مدحت ، وملف التقاوى الفاسدة .. ناشطون حقوقيون يرون أن تبديل أولويات وزير العدل وتركيزه على الثراء الحرام ، تبدو متوافقة مع ضغوطات البلاد الاقتصادية وتحركها نحو الانهيار الاقتصادى بمتوالية هندسية في سياق (كفر) جماهيرى بنجاعة المعالجات الحكومية ، عبرت عنه بالاحتجاجات في الفترة الماضية ، وأعتبروا أن الهدف منها اعلامي فقط ومحاولة لتخفيف الضغط على الحكومة هذه الايام، وقال القانونى أنور سليمان ل(الرأى العام)(أى- هى محاولة من دوسة لإنقاذ الإنقاذ) . وبرر سليمان تقديم دوسة لأولويات ملف الثراء الحرام على غيره من الملفات بإضافته(الحكومة تصدت للحديث عن الفساد طيلة الفترة الماضية، بأنه مجرد دعاية من المعارضين والمناوئين لها) وتابع(لكن يبدو أنها أكتشفت أن تكتيكها غير مجد، فأقرت بوجوده وتسعى لمعالجته). مراقبون أجمعوا على صعوبة معركة دوسة التى اعلنها على الثراء الحرام، قاطعين بأن أكبر وأخطر الصعوبات تتمثل في التقاطعات الاجتماعية للشريحة المستهدفة من المعركة مع العلاقات التنظيمية للحزب الحاكم نفسه، موضحين فرضيته بأنه من غير المعقول أن يقدم اى بنك قروضاً لأشخاص لا يملكون (ظهرا) حسب تعبيرهم، مستدلين على ذلك بحديث الرئيس البشير عن عهد التمكين ، ما يعنى سيطرة الحزب الحاكم ومنسوبيه على كل مؤسسات الدولة بما في ذلك القطاع المصرفى، بالاضافة لإرث المجتمع السودانى نفسه في تعزيز قيم القرابة التى تجعل الجميع يهرع لتغطية الامر أو إنكاره، معززين رؤيتهم بقضية المستشار مدحت وعدم معرفة أين وصلت.. بينما يرى المحلل السياسى د.مصطفى عبد الله أن حديث الرئيس البشير نفسه دليل على أن معركة وزير العدل ستكون يسيرة وبصلاحيات تتجاوز كل الخطوط الحمراء، استناداً الى تعهد الرئيس بانتهاء عهد التمكين .وقال ل(الرأى العام)( حديث الرئيس البشير وقتها كان بمثابة الضوء الاخضر بأنه لا أحد فوق المحاسبة، بالتالى فدوسة يمتلك الحق في استدعاء كل من يراه مذنبا في حق الشعب فلا كبير اذاً إلا الشعب). واضاف(كما أن الظروف الاقتصادية القاهرة التى تعيشها البلاد لا تسمح بالمجاملة في ظل الغضبة الجماهيرية الماثلة، ما يجعل أى تواطؤ من مدير بنك أو مسئول على مغتصب لحقوق الشعب محل اقالة وفقدان لمنصبه) . وزاد(الحكومة ستكون شرسة في التعامل مع الامر لتأكيد جديتها في حربها على الفساد عامة). مطالبات دوسة للمسؤولين أمس الاول بتقديم اقرارات إبراء ذمة جديدة، تشى بأن تحت الرماد وميض نار، فمن جهة ترسل رسالة للمسئولين بأنه لا أحد خارج نطاق المساءلة، ومن جهة أخرى تؤكد جدية الحكومة في وضع حد للفساد، الامر الذى قلل منه سليمان، معتبراً المطالبة بإقرارات ذمة جديدة تعنى بشكل أو بآخر إعادة تكييف اوضاع المسؤولين المالية قانونياً، ما يفسح مجالاً للتحايل والتهرب.. غض النظر عن نوايا دوسة واجراءاته في ترتيبه لأولوياته تلك، ثمة ما يشير الى أن الخطوة جيدة وان كانت متأخرة، كما أنها عملياً تكشف استراتيجية الحكومة في التركيز على ملفات دون غيرها في وقت تحتاج فيه البلاد للتفاعل مع كل الملفات في وقت واحد بفعل ارتباطها، كما أن فكرة انتقال دوسة بمكتبه الى مبانى نيابة الثراء الحرام قوبلت بالنقد من قانونيين يرون أن خطوته تلك من الناحية الادارية والقانونية غير موفقة وليست ذات قيمة. ويرى أنور أن وزير العدل مسئول عن العدل في السودان كله بالإضافة للادارات الكثيرة في الخرطوم وخارجها، ما يجعل منطقياً ابرازه لاهتمامه بملف ما أو منطقة ما، يعنى ذهابه الى كل ادارة واصفاً الخطوة بغير المنطقية وغير العملية وغير المجدية. وقال(هذا يؤكد وجود خلل في نظام الاشراف والمتابعة وهو ما يتسق مع الخلل في الخدمة المدنية برمتها). تعدد جبهات ومعارك الرجل القانونية في مواجهة القضايا والملفات كثيرة، وتجعل وجود استراتيجية وخطة أمراً ضرورياً يفرضه واقع المرحلة التى تعيشها البلاد طبقاً للمراقبين، ويذهب بعضهم الى ان غيابها تجعله دون كيشوت السودانى في مواجهة طواحين السياسة والإقتصاد، فهل ينجح الرجل في إيجاد الفردوس المفقود بنشر قيم العدل؟!