فى العلاقات الدوليّة ظاهرة استثنائية هى ظاهرة الدولتان المتجاورتان المتنافرتان اللتان لا تستطيع دولة ثالثة مصادقتهما معاً، لا تستطيع مُصادقة الأولى إلا بمجافاة الثانية! ظاهرة الدولتين التى لن تنجح دولة ثالثة فى صداقة الاولى دون مجافاة الثانية لا يحتكرها اقليم فهى فى كل قارة، ربّما لا تنجو منها غير القارة القطبية: (دولة) الاسكيمو! المثال العربى الأشهر هو سوريا والعراق ذلك منذ أيام الفينقيين والسومريين، ثمّ أيام كانت الأولى مقراً للخلافة الأمويّة والثانية داراً للخلافة العباسيّة، ولم يتغيّر الحال حينما صار الاثنان تحت (الخلافة البعثيّة)، فقد كانت الأولى موطناً لمؤسّس حزب البعث ميشيل عفلق والثانية ملجئاً سياسيا له لحين رحيله... مثالان عربيّان مشوبان بالدم الافريقى، أحدهما ثقيل والآخر خفيف، المثال الثقيل: المغرب والجزائر، والمثال الخفيف: الصومال وجيبوتى! الهند وباكستان أو الشحمة والنار، إذا أجرتْ واحدة منهما تجربة نوويّة على الأرض تُسبقها الثانية فوق الأرض، وإذا أجرت الأولى مناورة بحريّة أعقبتها الثانية بمناورة جويّة! أيّة دولة مهما أُوتيت من دهاء استراتيجى لا تستطيع مصادقة الصين وتايوان فى وقتٍ واحد ولن تحلم بإبرام بروتوكول تعاون ثلاثى معهما، أقصى ما تطمح اليه بروتوكولا ثنائيّاً! للظاهرة وجهٌ اوروبى: تركيا واليونان، فلن تحظى دولة ثالثة بصداقة الاثنين حتى لو حازتْ على الميداليّة الذهبيّة فى سباق السباحة الطويلة فى بحر ايجة، أو لو باتت فى قبرص أربعة ليال اثنتان منهما فى قبرص التركية واثنتان فى قبرص اليونانية فلن تنال رضا الدولتين، ستحظى برضا واحدة! السودان لم تقف الجغرافيا السياسية معه حينما رمت باثيوبيا واريتريا جارتين حدوديّتين له، ففى كل لحظة استراتيجيّة عليه دائماً الاختيار ما بين مُخاشنة أو مُناعمة اثيوبيا أو اريتريا، لكنْ ليس بوسعه الجمع بين الأُختين، ومشهد الدبلوماسيّة السودانيّة يقع فى زاويةٍ حَرجة حين تحاول الجمع بين (الزغنى) الاثيوبى و(الباستا) الاريترية، حتّى وقع السودان ذاته أخيراً فى براثن هذه الظاهرة الجيوبوليتيكيّة حين صار دولتين: السودان وجنوبه... اللهمّ يا خالق الجغرافيا السياسيّة جَنّب السودان وجنوبه شُرور هذه الظاهرة الجيوبوليتيكيّة الجَهنميّة!!