لا أكون سعيداً بالمرّة حين تأتى علامات تؤشّر إلى أنّ السياسة فى السودان صارت تُمارس بالعاميّة... عاميّة السياسة ليست هى لغة الخطاب فقط، فبعد قليل سَتجّرنا عامية الخطاب إلى أن تتحوّل السياسة كلها إلى عاميّة فى أدواتها ومُدخلاتها، والأفظع من ذلك مُخْرجاتها! وزير الدفاع فى توضيحٍ صحفى قال إنّه التقى الرئيس قبل سفره إلى السعوديّة لتبادل الأفكار حول جولة المفاوضات القادمة التى تُسأنف قريباً فى اديس ابابا، فقال إنّ الرئيس نصحهم بمد حبل الصبر التفاوضى، أجملَ الوزير (رؤية) الرئيس لجولة التفاوض القادمة فقال: الرئيس قال لنا أنّ الفورة ألف، وهو تعبير سودانى عامى أظّنّه لا يُستخدم إلا فى جلسات لعب الورق التى لا يرتادها إلا العاطلون الذين لديهم مشكلة مع الوقت فلا يجدون حلاً غير قتله! كثيرون جدّاً لا يلجون السياسة فقط لأنّهم يرونها لُعبة نخبويّة، منْ أراد دخول ناديها عليه أنْ يرتفع إلى مستوى النُخبة، لا أنْ تهبط النُخبة إلى مستواه، وهو ظن غير خاطئ فى كثير من حيثياته، وهو ما جعل السياسة وحامليها وصانعيها ومفكّريها ومدبّريها هم أعلى الناس إنشغالاً بما يشغل الحياة العامة ويملأ العالم... لم تكن السياسة دائماً شأناً يشغل كل الناس إلا على جانبى الثورات، وما أن تهدأ الثورة يعود النادى السياسى إلى حاله، للأعضاء فقط! استعراض أشكال الممارسة العاميّة للسياسة فى السودان يمنح الأعوام العشرة الأخيرة درجة الجائزة التقديريّة من مجمّع العامية، حيث تَدنّى الخطاب السياسى بشكل لافت على الضفتين: ضفة الحكم وضفة المعارضة، وجارتهم فى ذلك الصحافة المطبوعة فى مانشيتاتها، بعد أنْ كان المانشيت فنّاً وعِلماً وأدباً! دعواتى فى هذه الأيّام (المُفترجة) أن تعود لغة السياسة فى السودان إلى رصانتها وأدبها دون أن تحتاج للصعود إلى البرج العالى أو الهبوط إلى النفق الواطى، حتى لا نُفاجا فى الأيّام القادمة بأنّ الرئيس التقى الدكتور كمال عبيد ووفده لمفاوضات قضايا النيل الأزرق وجنوب كردفان، المشهورة إعلامياً بالمفاوضات مع قطاع الشمال، وأنّ الرئيس زودّهم بالنصائح المهّمة وأهمها أنّ الفورة مليون!!