رغم النيران المشتعلة في جنوب كردفان والنيل الأزرق بين الحكومة والحركة الشعبية- قطاع الشمال، إلا أن كثيرا من القيادات الرفيعة في الحزب الحاكم والدولة ظلت تتفادى الحديث بنبرة قاطعة بشأن التفاوض مع من يحملون السلاح بتلك المناطق، وبدت تلك القيادات كمن يريد أن يحتفظ لنفسه (بخط رجعة) عندما يتركون باب التفاوض موارباً مع القطاع مستفيدين في ذلك ربما من تجربة اتفاق (نافع/ عقار) التي كانت أشبه بهبوط غير آمن من فضاءات التعبئة والمواجهة إلى أرض الواقع والاتفاق. لكن ، الرئيس البشير بدا واضحاً بصورة فوق المعدل صبيحة الجمعة الماضية عندما أكد بصورة لا تحتمل المجادلة بأنه لا وجود لمسعى أو توجه لتوقيع إتفاقية جديدة مع قطاع الشمال أو غيره فيما يتعلق بقضايا منطقتي النيل الأزرق وجنوب كردفان. وأنه متمسك بما تم التوقيع عليه من بروتوكول حول تلك المناطق مشدداً على إنفاذ المشورة الشعبية والعمل من أجل معالجة أمر حملة السلاح من أبناء السودان. وكان مجلس السلم والأمن الأفريقي قد دعا الطرفين (الحكومة وقطاع الشمال) لجولة من المفاوضات غير المباشرة، وشرعت الوساطة في ترتيب ورقة تفاوضية تمهيداً لطرحها على طرفي الصراع بالمنطقتين بهدف الوصول لحلول تنهي الأزمة المتطاولة هناك، لكن ذلك لم يحدث في الموعد المحدد مسبقاً بالتزامن مع عيد الحب في (14 فبراير)، بعد تأجيل الاجتماع إلى أجل غير مسمى. ويبدو أن الحكومة التي يشاع أن سياستها تقوم على رسم خطوط حمراء ثم التراجع عنها بعد تكاثف الضغوط عليها قد تمسكت هذه المرة بموقفها الرافض للجلوس مع قطاع الشمال، بينما سارعت الحركة الشعبية لتأكيد استجابتها لدعوة الوساطة الأفريقية، وأكد مالك عقار رئيس الحركة ترحيبه بالجلوس مع الحكومة وتوجهه للقائها في أديس للتفاوض حول الشؤون الإنسانية، وهو الأمر الذي أراد أن يرسل من ورائه رسالة ماكرة للخارج مفادها أن الخرطوم وليس الحركة الشعبية بالشمال هي من تعرقل جهود التسوية السلمية في المنطقتين. دعوة الوساطة للطرفين بالجلوس لحل أزمة جنوب كردفان والنيل الأزرق، هي ليست الأولى من نوعها فقد سبق أن رفعت تصوراً بذلك لمجلس الأمن الدولي بعد أن ظلت المفاوضات بين الخرطوم وجوبا تراوح مكانها بينما العلاقات بينهما تمضي نحو الحضيض. وفي أعقاب ذلك صدر القرار الأممي رقم 2046 الذي نص كذلك على جلوس الحكومة مع من يحملون السلاح لمعالجة قضايا المنطقتين. ويبدو أن الحركة الشعبية بقيادة عقار وعرمان والحلو تراهن كثيراً على الضغوط الخارجية في إجبار الخرطوم على الجلوس معها والوصول معها لتسوية تحقق لها ما فشلت في تحقيقه عبر السلاح منذ إندلاع الطلقة الأولى من إحدى بنادقها في جنوب كردفان عند الساعة السادسة من يوم 6/6/2011م. إلى جانب مواصلة القطاع في تهويش الحكومة ومحاولة الضغط عليها سياسياً بميثاق كمبالا، وعسكرياً بتسخين الأوضاع على الأرض. لكن ، الحكومة بدت متمسكة بموقفها الرافض للجلوس مع قطاع الشمال ، وجددت نفيها القاطع على لسان الرئيس البشير الذي قال لدى مخاطبته الجلسة الافتتاحية لأعمال مجلس الشورى بالحزب الحاكم في المركز العام للمؤتمر الوطني أمس الأول (لدينا شباب سودانيين حاملين سلاح الآن والتوجه نحوهم إن هؤلاء نتعامل معهم لحل مشكلتهم بعملية ddr)) أي يسلموا سلاحهم ونقوم بعملية دمجهم واستيعابهم في المجالات المختلفة ليتحولوا لمواطنين صالحين). وأضاف البشير أنه ليس بمقدور أي أحد أو جهة أن تفرض رأياً أو قراراً على السودان، وزاد: (قرارنا عندنا ونحن أحرار ومافي مصلحة البلد، وما نقتنع به سنفعله، ولا أحد يفرض علينا شيئا مهما تعاظمت الضغوط التي تعودنا عليها، فكل أنواع الحصار جربناها ولا شىء جديد). والناظر لحديث الرئيس البشير مع حديث مواقف قطاع الشمال المتعنتة إزاء الخرطوم، لن يجد حيثيات تدفعه على الإعتقاد بقرب الوصول لتسوية سلمية لأزمة المنطقتين، فمن الواضح إن لغة الرصاص ستستمر إلى أجل غير مسمى، وسيعمد كلا الطرفين- على الأرجح - لتحقيق تقدم في الميدان بهدف كسر شوكة الطرف الآخر، حتى يأتي في النهاية إلى طاولة التفاوض بوزنه الحقيقي وليس وزنه الإعلامي الذي يحاول التهويش به. وفي الخرطوم، ترى المعارضة - أو بعضها على الأقل- إن موقف الحكومة الرافض للجلوس مع قطاع الشمال لا يسهم في حلحلة أزمة المنطقتين ولن يزيدها إلا تعقيداً. وقال محمد ضياء الدين القيادي في قوى الإجماع الوطني والناطق الرسمي باسم حزب البعث إن رفض الوطني للحوار سيعجل بتطبيق قرارات مجلس الأمن تحت الفصل السابع لفرض واقع جديد وفقاً لرؤية المجتمع الدولي. ووصف ضياء الدين في حديث مع الزميلة (آخر لحظة) أمس، موقف المؤتمر الوطني بالمتناقض فيما يتصل بالحوار مع قطاع الشمال, وأضاف: (الوطني سوف يجلس مع قطاع الشمال شاء أم أبى تحت الضغوط الدولية). وفيما رصدت (الرأي العام) في الفترة الفائتة بعض الأصوات الخجولة في الحزب الحاكم تتحدث عن ضرورة الجلوس مع أبناء المنطقتين أو الحركة الشعبية بقطاع الشمال لحلة الأزمة المشتعلة في جنوب كردفان والنيل الأزرق، فقد تناقلت العديد من المراصد الصحفية أخباراً عن اختلاف وانقسامات عديدة بشأن النظرة المتقاطعة لهذا الملف وسط قيادات الوطني، وقد نقلت هذه الصحيفة في الأسابيع الفائتة العديد من التصريحات لقيادات ترى صحة اتفاق نافع / عقار الإطاري وصلاحيته لإحتواء الصراع في ذلك الوقت. (لا) البشير للتفاوض مع قطاع الشمال تستبطن تحدياً رئاسياً للقائلين برضوخ الحكومة أمام الضغوط الخارجية، أو تخوفها من استعراض القطاع لعضلاته السياسية والعسكرية في الفترة الفائتة، كما ترسل رسالة واضحة مفادها إن الوطني الذي يشاع انقسامه إزاء هذه القضية، يتحدث بصوت متناغم. مهما يكن من أمر، غياب التفاوض لا يعني غير استمرار لغة الرصاص رغم نتائجها الكارثية لحين إشعار آخر.