كان هنالك من انشغل في دوائر النظام الجديد في الكيفية التي تنشر وتنقل بها الصحف نبأ وفاة الزعيم الأزهري في صباح اليوم التالي أي «28اغسطس 1969» وجاءت نصيحة بعدم التعرض لها أو اصدار توجيهات في ذلك ومتابعة ما تنقله وتكتبه وإذا جاء تجاوز، حسب رؤيتهم في النشر، ويقصدون الاشاده بسجله وتاريخه يكون هنالك بعدها تدخل وقرار، وكنا في صحيفة «الرأي العام»، الاستاذ اسماعيل العتباني، وحسن نجيلة، وعلي حامد والفاتح التيجاني، وتوفيق صالح جاويش وابن خلدون وشخصي واستقر الرأي على ان نفرد جانباً كبيراً من الصحيفة الأولى لكلمتين فقط «مات الأزهري» وتحتها خط كثيف اسود. ونشرنا النبأ وقلنا ان وفاته احدثت رنة حزن وأسى عميقين بين كافة المواطنين، الذين هرعوا بعد سماعهم نبأ وفاته، جماعات، جماعات وفرادى، نحو منزله بام درمان وظلوا يتجهون إلى داره إلى ساعة متأخرة من الليل وقد اضطر العديدون من اصحاب السيارات إلى ايقافها في أماكن بعيدة ثم السير على الأقدام للعزاء، وقد أجهش الكثيرون بالبكاء وظلت النساء يولولن بحرقة، ورغم هطول الأمطار في ام درمان فإن احداً لم يعد إلى منزله وظل المواطنون يتقاطرون من كل صوب واتجاه، وفي كلمة «من يوم إلى يوم» التي اشترك فيها الاساتذة إسماعيل العتباني وحسن نجيلة وعلي حامد، ووصفته «الرأي العام» بأنه إلى جانب سجله ورصيده الوطني الحافل في مناهضة الاستعمار، فإنه كان رجل دولة مهيباً ومحترماً، وكان سمح الخلق واسع الصدر حاضر البديهة رقيق العبارة، ذكي الفؤاد، تجمعت عنده كل صفات الزمالة الصافية والابوة الحانية العطوفة، والخصال السودانية الاصيلة، وفي اليوم التالي «28/8/1969م» واصلنا تغطية الحدث الحزين، وحمل المانشيت الرئىس «تشييع جثمان الازهري» الجموع في العاصمة والاقاليم تشارك في التشييع، فتضيق بهم الشوارع والساحات والطرق المؤدية لمقره الأخير» «النعش ينتقل من اكتاف إلى اكتاف دون ان يتوقف أحد» المشيعون جميعهم يرددون لا إله إلا الله محمد رسول الله «صلى الله عليه وسلم» «عاشت ذكرى الأزهري» اما صحيفة «الأيام» فقد كان المانشيت الرئيسي « في ذمة الله إسماعيل الأزهري» وقالت في مقدمة الخبر انه بوفاته انطوت صفحة هامة في تاريخ السودان الحديث، وتناولت في افتتاحيتها «كلمة الأيام» دور الأزهري منذ بداية الحركة الوطنية كسكرتير لمؤتمر الخريجين وكرئىس للمؤتمر وحمله لقضية السودان إلى المجتمع الدولي واستعرضت كافة مراحل نضاله حتى توجت باعلان استقلال السودان الذي رفع علمه في أول يناير 1956م. ولكن أياً من الصحف اليومية لم تستطع نشر اعتقال عدد من المشيعين الذين نقلوا إلى سجن كوبر حيث وجدوا ان السجناء السياسيين وغيرهم قد اقاموا بدورهم مأتماً لتلقي العزاء في الفقيد باعتباره فقداً للوطن كله. وكانت «الرأي العام» التي أخذت على عاتقها التزاماً بالتغطية الأمنية لتمكين القارئ من متابعة هذا الحدث الجلل من خلال صفحتها الأولى واعمدتها وافتتاحياتها، وكان اشد ما اثار حفيظة بعض قيادات النظام الجديد أن جريدة «الرأي العام» نقلت خطاب السيد محمد عثمان الميرغني بعد ان وورى جثمان الزعيم الثرى الذي تناول التاريخ الوطني الناصع لاسماعيل الازهري ودوره المؤثر في الحركة الوطنية وفي كافة مراحل العمل الوطني حتى نال السودان استقلاله وسيادته، واشاد به كرجل دولة مقتدر وكقيادة تاريخية حملت المسؤولية بكل الجدية والتجرد والاخلاص، وقال السيد محمد عثمان الميرغني «ان تاريخ الازهري ومواقفه لن يستطيع احد ان يسلبها او يطمسها، وقال ان المبادئ والقيم والرايات التي رفعها لن تسقط أبداً»، واثارت الخطبة الاحزان والحماسة والغضب معاً وقيل آنذاك لو ان السيد الميرغني اشار للجماهير بالاتجاه نحو القصر لاندفعت دون خوف او وجل او تردد ولتغيرت الصورة لا محالة، ولكن السيد محمد عثمان الميرغني خشى لحظتها من الصدام والدم والضحايا، وظلت الجماهير تهتف «نحن على طريق الازهري» وكان الغضب يزداد ويتفاقم كلما لمحت الجموع بنات الأزهري ونجله محمد الذين اجتاحتهم نوبات البكاء الشديد وفي اليوم التالي للتشييع لجثمان الزعيم الازهري إلى مثواه الأخيرة اصدر مجلس قيادة الثورة بياناً من الراديو وعبر التلفزيون ونشرته الصحف، وكان هذا البيان آنذاك ولا زال يعكس بصيغته ومضمونه ابلغ وثيقة للطريقة وللتفكير وللسلوك التي سادت التعامل مع الازهري في الاحتجاز القسري في منزله، ثم نقله إلى سجن كوبر ثم التعامل معه كمريض في مستشفى الخرطوم- ثم خلال وفاته وقبل التشييع ثم بعد تشييعه وياله من بيان!