في مطالع السبعينيات الماضية كتبت مطولاً مع آخرين حول مشكلة اللغة الانجليزية بالمدارس وكانت هذه اللغة يومها في أول مدارج الهبوط حتى استقرت اليوم على الحال التي هي عليه. وقد يتعذر اليوم فرز العوامل والاسباب التي أدت إلى هذا الحال المريع من الضعف بل التردي والانهيار، وهي عوامل وأسباب متراكبة لا تعرف بأيها تبدأ، ولا أيها أفضى إلى الآخر، هل بؤس المنهج أم بؤس التدريب أم بؤس الاهداف التعليمية أم قدرات الطالب؟ وفي عرف البحث التربوي فإن أياً من هذه العوامل يفضي بالضرورة إلى كوارث تعليمية فما بالك إذا اجتمعت وتراصت، كل حذو الآخر في مسيرة كارثية واحدة؟ وكنا -جماعة من المعلمين- نكتب مطلع السبعينيات بإشارة «أرى تحت الرماد وميض نار، وأخشى ان يكون لها ضرام»، ولم نكن نشايع الرأي السائد يومها الرابط بين تدني مستوى الانجليزي وعملية تعريب المواد الدراسية بالمدرسة الثانوية رغم اعتقادنا ان التعريب تم على عجل وبوتائر متسارعة لم تمكن من إيجاد بديل لفاقد اللغة بالمدارس ولم يكن تدريب المعلمين وقتها من المآخذ، فكان الاساتذة بالمدارس الوسطى هم خريجو المعاهد التربوية المتخصصة وكان اكثر معلمي الثانويات من خريجي معهد المعلمين العالي أو ممن تلقوا تدريباً وافياً من خريجي اقسام اللغة بجامعة الخرطوم. وقتها كنا نكاد نحصر إشارتنا إلى عاملين اثنين أولهما ضعف :الاهتمام باللغة من قبل الرسميين وجهات الاختصاص بالتعليم.. وجيلنا يذكر ان حالات هياج سياسي غير محسوبة كادت ان تلغى تدريس اللغة الانجليزية بالسودان نتيجة نزاع بين السلطة وهيئة الاذاعة البريطانية. السلطة لم تلغ تماماً اللغة الانجليزية لكن طرح الموضوع باستفاضة في الإعلام ولدى دائرة التربية وما صاحب ذلك من إشارات انتمائية، قومية وثقافية تأصيلية كل ذلك دفع باتجاه توهين العزائم واضعاف توضع اللغة إن لم يكن من حيث وزنها ضمن المناهج والمتطلبات فعلى الأقل في نفوس الطلاب. ونذكر محاولة الوزارة إحلال اللغة الفرنسية مكان الانجليزية، وربما كان لأستاذنا المغفور له الدكتور محيي الدين صابر يد طولى في هذا التوجه كونه من حذاق الفرنسية، وما زلت أذكر تعليقاً لصديقي تيراب الشريف «كان يعمل بالمعيلق الثانوية وهو استاذ الأدب المقارن الآن بالجامعات الامريكية» محدثاً عن زيارة الوزير د. صابر للمدرسة ووقوفه ملياً أمام الصحيفة الحائطية باللغة الفرنسية في حين مر مرور الكرام على الصحيفة الانجليزية وهي الحافلة بالموضوعات لا الأخرى فأثاب طلاب الفرنسية وأحبط غيرهم. وأشرنا في مقالاتنا وقتها إلى أن اكثر ما يحزّ في النفس ويشعلها غيظاً ليس فتور الهمم الرسمية إزاء اللغة الانجليزية، بل المؤازرة والدعم الذي يلقاه مثل هذا المشروع غير الراشد وغير المستنير- من بعض اساتذة اللغة الانجليزية انفسهم الذين دبجوا المقالات المطولة في مدح الخطوة وحسنوا للقائمين بها ذلك القيام. والمؤسف ان هذا الدعم كان يتم على خلفيات عقدية وثقافية مما يترك آثاراً تظل باقية، وكنت شخصياً اعتب على زملاء مثل الاستاذ عبد الرحمن الزومة وآخرين أبدوا حماسة منقطعة النظير لإقصاء اللغة الإنجليزية عن المنهج وإنما اتكأت على الأخ «الزومة» باعتبارنا أبناء دفعة، ثم لعلمي بإجادته اللغة «تظهر طلاوتها الآن في عموده الصحفي باللغة الانجليزية» والجهد الرصين الذي كان يبذله في تعليم الطلاب. كان هذا حديثاً عن اضعاف متعمد لمنزلة اللغة لاسباب رآها المسؤولون وقتها ضمن انفعالات طارئة وهيجان وقتي- وكان المأمول ان يكون وقتياً أيضاً أثرها لكن مثل هذه التقاطعات بخاصة في مجال التعليم، متى ارتسمت حينا فإن آثارها المدمرة تتوالى وتنداح بغير توقف مهما بذل من تداركها لاحقاً، وكان أن أفضت هذه الأجواء إلى تقليص ساعات اللغة الانجليزية، وأيضاً إلى اختلال التوازن المعهود قبلها بين عدد الطلاب والمعلمين، وكنا نرى في مدارسنا مكاتب تكتظ بمعلمي مادة أخرى حتى لا تكاد تتسع لهم، في حين يخلو مكتب «الانجليزي» إلا من معلمين اثنين أو معلم واحد بمدارس الاقاليم يقضي في ظل حيرته اكثر ما يقضي من وقت وكان المعلمون - وان افراداً لا جماعات وعلى صفحات الصحف لا م منبر النقابة- التي ما زلنا نتساءل عن دورها إزاء المناهج- ظل أفراد المعلمين يدفعون باتجاه وقف ذلك الخليط المتنافر من المقررات الدراسية التي تعوزها الخطة السليمة وتفتقر إلى قواعد التخطيط الصحيح من حيث اختيار المادة التعليمية والتدرج والتنظيم في ظل طرق للتدريس لا يمكن تصنيفها تحت أي عنوان من عناوين الطرق المعروفة .ا