? هذه الكتابة التي تضئ فكر عالم سوداني اجتهد في حقل علوم التربية والتعليم، فهي ايضاً تضئ عصراً ثقافياً كاملاً وتحدد ملامحه الاساسية في أطار حركة الفكر الاجتماعي والتربوي السوداني. كما تعتبر الكتابة هنا نصاً جمالياً مكتملاً. «المحرر» ----- خيرُ الصحاب هم من يألفون ويؤلفون، وكان «الشايقي» واحداً من هؤلاء. الشايقي نعت كنا نطلقه على الدكتور محمد خير عثمان، فقلما كان ينسب إلى أبيه عثمان، رغم ان في ذلك الاسم يمناً وبركة عند الشايقية. لا أحسب ان إلحاق ذلك النعت بمحمد خير كان من قبل تسمى كثيررن بعشيرهم حتى أضحى النعت إسماً علماً مثل المحسي والكباشي، كان لسبب آخر. فللشايقية علومه على وجوهم تميزهم عمن عداهم، ولا يشاركهم فيها أحد. تلك الاعلومة كانت كثيفة الحضور في وجه محمد خير لدرجة جعلت رفاقه يعرفونه بها، ويستدلون بها عليه. بيد أن ذلك «الشايقي» الذي أعرف حق المعرفة لم ينكمش أبداً في قبيل معين. كان فوق كل قبيل بل حواءً لكل ما في أهل السودان من نبل وفضل. لقاءونا الأول تم في جامعة الخرطوم في عهدها الزاهر في منتصف خمسينيات القرن الماضي، جاء إليها من بخت الرضا قلعة التربية دون ان يعبر المرحلة الثانوية. ومن دلائل نبوغه وطموحه سعيه «من منازلهم» للحصول على الشهادة التي تؤهله للإلتحاق بالجامعة. دلائل النبوغ ومخايل النجابة تلك تفرسها المعلم البريطاني ثيوبولد عندما إنتقاه من بين آخرين في مدرسة القضارف الأولية للإلتحاق ببخت الرضا. ما كان محمد خير أيضاً بحاجة إلى تلك الشهادة أو ذلك العبور إذ عمل بعد تخرجه من بخت الرضا العام 1946م بالوحدة الفنية بمكتب النشر «مجلة الصبيان» تحت إشراف نفر من الجهابذ: مكي عباس، جمال محمد أحمد، أبو القاسم بدري، فخر الدين محمد، محاياة هذه الكوكبة من نوابغ المعلمين تقدم لطالب العلم ما لا تقدمه أية مدرسة، ومن اولئك نهل محمد خير المعارف والخبرات حتى روى. محمد خير، إلى جانب ما فطر عليه من نجابة، وما لاحت عنه من بوارق ذكاء في الصغر، كان ايضاً بحراً طموح الموج، يتطلع إلى كل ما هو أعلى، ويستشرف من الآفاق ابعدها. فبعد تخرجه من جامعة الخرطوم إلتحق «الشايقي» بجامعة لندن لينال منها درجة الماجستير في التربية، ثم انتقل إلى جامعة كاليفورنيا ليحصل منها على درجة الدكتوراة في المجال المحبب إلى نفسه: التربية. من كل ذلك التحصيل لم ينشد محمد خير تهيئة نفسه للإرتحال عن التعليم إلى مرعى أكثر إخضراراً، ففي مجال التعليم شب وشاب، وعليه برك وواظب. الشايقي واحد من أمثال المعلمين، والمعلمون جيل من الناس ولع بمهنته وتعلق بها كثيراً. ومع كل ما لقيه المعلمون من غبن ظلوا راضين بغبنهم دون كرب أو غيظ. محمد خير واحد من سدنة المعرفة ومروضي العقول هؤلاء، لم يرض بأية مهنة أخرى بديلاً عن التعليم. ما ان اكمل دراسته في معهد إلا وعاد منه إلى التعليم. فعقب إكمال دراسته في بخت الرضا أنضم إلى هيئة التدريس بمدرسة المؤتمر الاهلية، وبعد تخرجه من كلية الآداب بجامعة الخرطوم عاد إلى رضا معلماً حسن التأهيل، وما أن أضاف إلى تأهيله ما حصل عليه من معارف في جامعتي لندن وكاليفورنيا حتى عاد إلى ميدان التعليم الفسيح استاذاً مساعداً في كلية التربية وأستاذاً زائراً في جامعتي ام درمان الاسلامية والاحفاد. تلك الخبرات المتراكمة، والأعداد الأكاديمي الجيد، ثم الصيت الذائع، جعلت من محمد خير الرجل الذي تتجه إليه المنظمات الدولية للاستفادة من قدراته في مجال تطوير التعليم. مثال ذلك، توليه إدارة مشروع منظمة العمل الدولية لتطوير مركز الإدارة والإنتاج بالسودان، أو الإشراف على مشروع اليونسكو/ البنك الدولي لإنشاء جامعة قابوس بسلطنة عمان والتي أصبح، فيما بعد، عضواً في لجنة تأسيسها، فعميداً للطلاب فيها بعد إكتمال إنشائها، ثم مستشاراً لمدير الجامعة حتى نهاية تسعينيات القرن الماضي. وفي مرحلة سابقة «5791-2791م» تولى محمد خير موقعاً كان مؤهلاً له بكل المعايير: وزارةا لتربية بالسودان. لقد نمت بيني وبين «الشايقي» علاقة وريفة تبادلنا فيها الود وتساهمنا الصفاء. تلك العلاقة لم توشجها رحم متصلة، وإنما أنضرها حب وتقدير. ومن ذا الذي لايحب رجلاً ملك ناصية البيان، وفضيلة التواضع، وعفة الدخلة، ثم السخرية الجامحة من كل شئ وعلى كل شئ. ولا خير في صديق لا يواسيك أو يسليك، أو يتوجع لك. وعندما شتت بنا الديار وتفرقنا أيدي سبأ كانت بيننا رسائل أترقبها بلهفة وأنبسط بوصولها وأستأنس بما تضمنته من هزء وأستسخار. سخرية محمد خير مكنته ان لا يقع في ظنة المداراة، أو يخضع عقله لسيطرة الهوى، لا سيما وقد كان له رأي في كل ما يدور من حوله وهو رأي لم يكن يسعد كثيرين. وإن كنت -وما زلت= أوثر المجابهة دون لدد «ففي اللدد ميل عن الحق»، كان صديقي محمد خير يؤثر السخرية اللاذعة على بعض المواقف والأشخاص وهي، في أغلب الأحوال، سخرية ممعنة في التلغيز: يسخر بلسانه، ويسخر بقلمه، ويسخر بريشته إذ منحه الله، إلى جانب اخريات، موهبة الرسم والتصوير، لم يفعل محمد خير ذلك بحثاً عن خيار أقل كلفة، بل لإدراكه ان السخرية وجه من وجوه الإبداع. الحياة في الجامعة آنذاك كانت نشطة جياشة يختلف فيها الطلاب ويتفقون في حواراتهم، ويجتمعون ويتفرقون في منتدياتهم، دون ان تشوب حواراتهم عنافة، أو يأخذ بعضهم بعضا بشدة وقسوة فيما يتجادلون بشأنه. كان ذلك قبل ان تهب على الجامعة، بل على السودان كله، رياح سواهج أصبح الحوار فيها بالنبوت، أو أن شئت فبالسيخ، وأزعم ان بين ما كانت عليه حياة الطلاب بالأمس واما انتهت إليه اليوم رابطة عضوية. وعلى أي، ففي خمسينيات القرن الماضي بدأت الأيديولوجية تتطاغى على المسرح السياسي السوداني، وما كان للجامعة ان تكون بمنجاة من تلك الطغوى إذ هي مرآة للمجتمع الذي تعيش فيه. كان في الجامعة من الطلاب من تياسر وغالى في معارضته، ومن تيامن وتطامن بتيامنه، وليس في اتخاذ المذاهب ما يشين، ولا في تركها ما يزين. بيد ان اصحاب هذه المذاهب، في تقديرنا، كانوا يعيشون في عالم خرافي تهيأ لهم أو هيأوه لأنفسهم. عالم يوازي ذلك الذي يعيش فيه بقية البشر، الخيال ليس بدعاًً، بل هو أمر مرغوب حتى في السياسة، ولكن عندما يذهب الخيال بالمرء إلى السعي لتطويع الواقع لكيما يتوافق مع النظرية، بدلاً من القبول بالواقع كمعطى ثابت يتم تشريحه وفقاً للنظرية، يصبح الأمر «عنادية». والعنادية طائفة من الفلاسفة كانت تحسب الحقائق خيالاً وأباطيل. كما من حق من أراد ان يعاند في الأمور ويحسب ما تشبه له وتصوره علماً يقيناً ان يفعل ذلك. الأزمة بدأت عندما ظن أولئك المياقين «والميقان هو الذي يصدق كل ما يسمع» أنهم وحدهم الفاضلون، وكل من عداهم مفضول. تلك كانت هي البيئة التي أستشرت فيها تهم التخوين لكل مخالف لجماعات اليسار، وتفاقم فيها تأثيم جماعات اليمين لكل من لا يعشق ما يعشقون في حياتهم الدنيا، فعمل الآخرة لا رقيب أو حسيب عليه إلا رب العباد، أو هكذا ينبغي ان يكون الحال. كلاهما، إذن، كان يتجنى على خصومه الذنوب، بل الخطايا، والتجني صفة لا تزكو بالمرء. ولكن، بانحسار تيار اليسار على أختلاف مذاهبه، وعلو شأن تيار اليمين ومن تبعه بإحسان أو بغير إحسان، انتهى التأثيم إلى تكفير وابلسة. هكذا تحول العنف اللفظي القديم إلى عنف جسدي واغتيال روحي في الحاضر الذي نحن فيه. غلواء قادت إلى غلواء أخرى اقتبست من الأولى تجاربها وحيلها. تلك هي العلقة العضوية بين التوجهين، ولكل آفة آفة من نوعها،و ولا نقول ذلك إفتعالاً للأسباب لتبرير ما أانتهينا إليه في أخريات أيامنا، وإنما لما وقر في قلوبنا من يقين بأن صعود نجم الأصولية الدينية هو نتاج طبيعي لعجز المشروع المدني التحديثي، أممياً كان أم قومياً، عن تحقيق غاياته أولاً لطبيعتها الإقصائية، وثانياً لإصراره على إستزراع أفكار وتطبيق مناهج في غير تربتها. جماعة منا يومذاك- كان محمد خير واسطة العقد فيها. رأدت أن من كانوا عزوناً عن اليمين وعن اليسار، أخطأوا الحساب بسبب من الأدلجة السياسية التي لا تأخذ في الإعتبار معطيات الحياة السودانية المعاصرة والتاريخية. ذلك منهج يحول، دون شك،و عن خلق وعي ذاتي متوازن، فالتوجه القومي، أو الأممي، أو الديني الكوني الذي يغفل تلك المعطيات لن تستقيم حجته أو تثبت قدمه على أرض الواقع، طال الزمن أم قصر. مهما يكن من أمر، فإن تلك الجماعة وثقت عرى العلاقة بيني وبين محمد خير، في مجال لم يكن له كبير اهتمام به: مجال السياسة.