المسار المستقل للتعليم التقني والتقاني والتدريب المهني فكر اعتصره ويتبناه المجلس القومي للتعليم الفني والتقني بغية توفير نظام تعليمي فاعل يواكب احتياجات سوق العمل، يلبي متطلبات التنمية الاقتصادية والاجتماعية ويستطيع باقتدار احداث التطوير طبقاً لتسارع التكنولوجيا وتطورها، اعتماداً على مرجعية علمية مدروسة ومنتقاة من مفاهيم وحزم وقواعد التعليم التكنولوجي يلاحظ في تنفيذها خصوصية السودان زماناً ومكاناً. ان توجه المسار نحو مواكبة احتياجات سوق العمل من حيث التخصصات، والاهتمام بتنمية حب العمل واحترامه كقيمة عليا يتوفر وراءها الكسب الشريف، وسعيه لتلبية متطلبات التنمية من المهارات والقدرات والكفاءات العلمية، وقصده لاستدامة القدرة على التحسين والمواكبة واستيعاب المتغيرات والمستجدات، يجعله طرحاً منطقياً يبعث الامل ويجدد العزم في نفوس الحادبين على تحقيق الرفاء والنماء لهذا البلد. ولطالما سألت نفسي: ما هي حصيلة ما جنيناه من نظامنا التعليمي الاكاديمي - الأوفر حظاً والاحب الى نفوسنا - بعد أكثر من مائة عام خلت منذ أسس للتعليم النظامي في السودان؟ ألسنا الى هذا التاريخ عضواً بارزاً في قائمة ما يسمى بدول العالم الثالث نستوفي بجدارة كافة شروط الانضواء تحت لوائها؟ أليس حرياً بنظامنا التعليمي القائم - ان كان نظاماً كفؤاً - ان يكون قد أوجد رصيداً من الاجيال تتعاظم معه وتعلو ركائز البناء والتنمية والتطوير؟؟ ها هي صناعاتنا الوطنية بعد كل هذه المدة تتلمس اول الطريق ولا يزال اقتصادنا يتأثر سلباً بركوننا الى الاستهلاك وضعف قدرة منتجاتنا - سيما في قطاع الصناعات التحويلية - على المنافسة بسبب تحديات الجودة ومطابقة المعايير.. ها هي امراض خدمتنا المدنية المزمنة رغم وضوح اعراضها ومعلومية اسبابها ومضاعفاتها تتفاقم لتقف عائقاً يعترض خططنا ومشروعاتنا التنموية.. ها نحن لا نزال - عملياً - فاشلين في رتق المسافات واقامة الاواصر بين مكوناتنا البشرية المختلفة على أساس من الدين والمواطنة - اقوى دواعي وموجبات التوحد - حيث تشكل الميول القبلية والجهوية الجزء الاساسي والغالب من تكويناتنا النفسية، الشئ الذي يشكل وقوداً لتسعير او تأجيج الصراعات بين مجتمعاتنا، وها هو عدد غير قليل من خريجي نظامنا التعليمي وحملة الشهادات والدرجات العلمية المرموقة يعمل - باستمرار - على تعكير الصفو العام وإثارة الفتن وادارة الصراعات وتسعير النزاعات المسلحة والحروب الاهلية هنا وهناك في تهديد مزدوج لامن امتنا من الداخل والخارج، لاطماع ومكاسب شخصية !! وها هو الفقر لا يزال يمثل السمة الغالبة في اغلب تكوينات مجتمعنا على الرغم من توافر الموارد في هذا البلد الفسيح وتنوعها وغناها!! وها هي هويتنا تستلب وقيمنا تتهاوى . فما ننتظر؟ إن ما ذكرناه وما لم نذكر من بوائق نظامنا التعليمي العتيق تعتبر نتائج حتمية لكل نظام تعليمي يفشل في تبني الثلاثية - احتياجات سوق العمل، متطلبات التنمية والمواكبة التي يطرحها المسار المستقل المقترح. فالعلم هو جوهر وجود الانسان ومعيار قدرته على الخلق والابداع والاعمار، ما يجعل التخطيط له وحفز الهمم للقيام به على اكمل وجه من الامور التي يجب ألا يخطئها او يخطئ فيها أي منهج تعليمي. وهذا ما لم يحدث في مناهجنا التعليمية، حيث انعدم التخطيط الذي يتحسب لتطور نمط حياة الانسان وما يستجد تبعاً لهذا التطور ويستحدث من انشطة بشرية، وما يتطلبه ذلك من معارف ومهارات وقدرات.. وفشلت منهاهجنا التعليمية في تنمية حب العمل واحترامه كقيمة عليا، فكرست من خلال ممارسات وتقديرات خاطئة لطغيان الجوانب المادية المترتبة اساساً على العمل لتكون هي الاساس! فتلاشت قيمة العمل في مجتمعاتنا. وكما ينقلب السحر على الساحر تلاشت قيمة التعليم والتعلم كعمل للمؤسسات التعليمية والطلاب فكان الوبال عاماً والموبقات جمة. أما متطلبات التنمية من المهارات والقدرات والكفاءات العلمية، فقد قُضي عليها في ساحات نظامنا التعليمي يوم انقلبت الماديات على قيمة العمل، فلم تعد هذه العناصر اهدافاً جدية يبذل لها الجهد اللازم من قبل المؤسسات التعليمية والطلاب على حد سواء، فاتسعت الهوة بين متطلبات عصرنا من المعارف والمهارات والقدرات وبين ما يتوافر لدى مخرجات عملياتنا التربوية والتعليمية، واستمر اتساع الهوة بوتيرة متسارعة ولا يزال، واصبحت الشهادات والدرجات العلمية المجوفة تمثل نسبة متعاظمة لدى خريجي نظامنا التعليمي في كافة المجالات والتخصصات الشئ الذي يجسد تهالك وفشل هذا النظام. ولأن الامور بمقتضياتها، ما كان لنظام يفتقر الى الكفاءة ان يمتلك القدرة على التطور والمواكبة . وقد أدى عجز كوادرنا ومؤسساتنا التعليمية عن التحول الى بواتق لاختبار المعارف والعلوم واعتماد البحث العلمي وسيلة اساسية للتنمية والتطوير الى استحالة مواكبتنا للتطور الاقتصادي والتكنولوجي المطرد الذي ينتظم العالم، حيث ظل نظامنا التعليمي كما السكة الحديدية لا مجال فيه للتفكير الابداعي الخلاق، ولا افق يتسع للاكتشاف والاختراع!! وقد أدى فصلنا بين العلم والعمل وانزواء قيمة العمل في حياتنا الى تحديد سقف لعملية التعلم! وتلك قاصمة الظهر لمبدأ المواكبة والتطوير. فها هو مفهوم الفرق بين الحياة الطلابية والحياة العملية مفهوم سائد في مجتمعاتنا، ولا ينفك الذين انتقلوا من (مرحلة الدراسة) الى (مرحلة العمل) يتحدثون بفخر عن نجاحهم في اجتياز تلك المسافة بسلام! وهناك مؤسسات تعمل على تقديم الاستشارات والنصائح للانتقال السلس من هذه المرحلة الى تلك !! وهكذا ظلت مؤسساتنا التعليمية معزولة عن الحياة تجتر ما يتساقط حولها من فتات المعارف والعلوم التي عبر الآخرون عليها الى فضاءات لا محدودة من المعارف والمكاسب والفتوحات العلمية. الى ذلك فان المسار المطروح ضرورة قصوى وحاجة ملحة تقتضيها وتحتمها مآلات اوضاعنا التعليمية الراهنة ومنتهياتها، ولا نملك إلا ان نحيّي القائمين عليه العاملين على انفاذه مخلصين متجردين يرجون لهذا البلد النماء والسؤدد، فلهم منا التحية والتجلة. إننا بحاجة الى عقول متفتحة واعية للتحديات التي تتهدد امتنا حتي نتمكن من تحديد خياراتنا مع قدرة على التفضيل المترتب على النقد البناء المتجرد، لنعبر.. والسودان بحاجة - حصرية - الى القادرين على احتواء نفوسهم واهوائهم فيسمون ويكبرون عليها حتي لا تساوي عندهم شيئاً فيصيرون كباراً ، لا الى من تحتويهم نفوسهم واهواؤهم ، ليتقدم ويزدهر. ان المسار المستقل للتعليم التقني والتقاني والتدريب المهني يجب ان يستقل كما خطط له مدخلاً ومخرجاً واهدافاً ، لبناء نظام تعليمي جديد قادر على تحقيق آمال وطموحات هذه الامة.. والمسار المستقل يجب ان يستمر، لايجاد الكوادر والاطر والنظم والسياسات والآليات والوسائل التي توائم متطلبات الحياة في عصر التكنولوجيا على بصيرة.. والمسار المستقل يجب ان يستقر في آخر المطاف كنظام تعليمي فاعل يعني بتوفير احتياجات سوق العمل في كفاة المجالات، ويلتزم بمواصفات احتياجات التنمية، ويعمل على استدامة التحسين والتطوير .. فلا بد من هذا المسار وإن طال السفر.