في أواخر العام2010م، تحديداً عقب الجدل الكثيف الذي أثارته تصريحات وزير المالية علي محمود بواشنطن لصحيفة »الشرق الأوسط« ودعا فيها الشعب السوداني للتقشف والعودة لأكل (الكسرة) بعد أن أًصبح انفصال الجنوب وقتها في حكم المؤكد، وبتروله في حكم الضياع. غضب البعض من تلك التصريحات وأعتبروها قريبة من حديث ماري إنطوانيت، تلك التي قالت - وبراءة الملكات في عينيها - عندما رأت الفرنسيين ثائرين بسبب ارتفاع أسعار الخبز : (ولماذا لا يأكلون جاتوه ؟!!). وجه الشبه بين جاتوه إنطوانيت، وكسرة وزير المالية، أن كلاهما غالٍ. ولذلك حاورت (الرأي العام) وزير المالية حول تصريحاته تلك وكان أول سؤال في ذلك الحوار هو (هل ما زلت تأكل الكسرة؟)، إجابات الوزير كشفت عن معرفة عميقة فيما يبدو فقد قال: (نعم، ما زلت آكل (الكسرة) والعصيدة لعدة اعتبارات، منها أني نشأت في بيئة أصلاً كانت تعتمد على العصيدة. وإبتداءً في الفطور ما كنا نأكل غيرها، وحتى عندما نتناول (الكسرة) كانت كأنها وجبة محسنة، وبالأمس تعشّيت بالعصيدة ورغم أن مرض السكري يحرمني من تناولها أحياناً لكن العصيدة وجبة ثابتة بالنسبة لي يومي السبت والجمعة خاصةً بملاح »أم رقيقة والبامية والخدرة المفروكة«، و(الكسرة) بالنسبة لنا وجبة اساسية في الغداء، فهذه مسألة أعرفها جيداً وأعرف كيف تصنع، فنحن اعتدنا على (الكسرة) حتى قبل الصاج منذ أن كانت تُصنع في الدوكة). تلك المعرفة العميقة، أغرت (الرأي العام) حينها بسؤال آخر، وهو: (إذا كنت بهذه الدرجة الكبيرة من المعرفة ب (الكسرة)، ألا يفترض أن يجعلك هذا على ذات الدرجة من المعرفة بأسعارها كذلك وأنها أصبحت أغلى من الرغيف)؟ فقال وزير المالية رداً على ذلك السؤال: (لا.. هذا هنا في الخرطوم. وصحيح في الخرطوم في فترة من الفترات ممكن تكون أسعار الذرة في لحظة ما بسبب شح الإنتاج في الخريف الماضي أغلى. لكن القمح المستورد مدعوم وليست عليه رسوم وضرائب والذرة لأنّ أغلب سكان السودان يستخدمونها ، نجد أن الطلب عليها مرتفع وحدث فيها شح في وقت من الأوقات، لكن الذي يذهب الى الأقاليم ومناطق الإنتاج هذه الأيام حيث حدثت وفرة كبيرة في الذرة لا يمكنه ان يتحدث عن أنها أغلى من الرغيف، فنحن نتخوف هذا العام من انخفاض أسعار الذرة بكميات كبيرة لأنّ هذا يكون فيه عَدم تحفيز للمنتج، فاذا انخفضت الأسعار في هذا الموسم، فالمزارع في العام المقبل لن يزرع. لذلك نحن خطتنا ذات اتجاهين : الأول - أن نشتري مخزوناً إستراتيجياً من الذرة ونوفره، والثاني - هو الصادر). (الرأي العام) لم تكتف بطرح السؤال عن وجه الشبه بين ما قاله، وبين ما قالته ماري إنطوانيت، وهو ما نفاه الوزير بشدة، وقال لا علاقة لما قلته بماري إنطوانيت، وللتدليل على ذلك أوضح أسعارا تفصيلية لأسعار الذرة في زريبة العيش، وكشف أنه عمل في السابق في تجارة الذرة ويعرفها بأنواعها: ( الدبر - وقدم الحمام - ود أحمد وطابت والفيتريتة وما يُسمى بالماريق وما يزرع في الجباريق)، ونوه إلى أنه فتّش العيش بالفتاشة وهي حديدة تدخلها في الجوال ويخرج لك ما بداخله إذا كان عيشاً او قمحاً او سمسماً او أياً كان، وتعرف إذا كان قديماً أو جديداً، وإذا كان مخزناً في مخزن أو مطمورة، وحفر المطمورة وعمل »البتاب« فهو جاي من قاعدة المجتمع وجاء في عام 1995م ليسكن في الكلاكلة. مناسبة كل ذلك ما رشح من حديث بشأن وزير المالية مؤخراً نفى فيه وجود غلاء في المعيشة، قبل أن ينفي الحديث نفسه بعد أكثر من أسبوع على اطلاقها انتاشته فيها الكثير من الأصوات الناقدة، عندما حاولت أن تجلسه في الموقع الوحيد الذي لا يناسبه، موقع الشخص الذي لا يدري أوجاع المواطنين البسطاء، رغم أنه منهم، ويعتز بذلك. مشكلة الوزير علي محمود في تعاطيه مع الإعلام، فكثير من تصريحاته تحتمل تفسيرات مختلفة وتشكل خطوطاً حمراء لصحف الخرطوم في اليوم التالي لإطلاقها. فقط عليه ضبط تصريحاته، والتقليل منها مع العمل على الإكثار من الإنتاج، مع ضرورة أن يكون لديه مستشارون من أهل الخبرة والدراية في مجال الإعلام يقدمون له المشورة في الوقت المناسب، أما أن يتركوه لسياط النقد لأسبوع تام دون أن يتمكن أحد في إعلام الوزير والوزارة من معالجة الأمر أو نفيه، فإن هذا يتطلب مراجعة أداء البعض ونقل آخرين لإدارات لا علاقة لها بالإعلام، فلا يمكن أن يتسع وقت الوزير لمعالجة الإشكالات المالية المعقدة في البلاد، ومعالجة قضايا الإعلام، بينما المستشارون يطالعون الانتقادات بالحق والباطل الموجهة للوزير وهم يرتشفون قهوتهم الساخنة.