تصلح العلاقة بين الرئيس عمر البشير ود. حسن الترابي كدراسة حالة لتقلب السياسة وأمزجة الكبار في البلاد. فقد قال الترابي قبل المفاصلة إن البشير هبة السماء إليهم، وأن العلاقة معه سمن على عسل، وأنه أفضل رئيس مرّ على السودان، أما بعدها، فقد تحولت العلاقة بينهما إلى نقيض السمن والعسل، وأصبحت المرارة هي المذاق الذي تبقى في حلوق مناصريهم الذين انقسموا بين القصر والمنشية، فلم يعد الرئيس الذي كان هبة السماء برأي الترابي أحسن رئيس، فقد تحول فجأة إلى أسوأ رئيس برأيه ولذلك انخرط الترابي في معارضة محمومة للإطاحة بالنظام الذي يترأسه البشير، فكان جزاؤه سلسلة من الاعتقالات وغير القليل من غضب التلاميذ. وحدها الصور هي التي توثق للعلاقات السياسية الودودة بين الترابي والبشير في عشرية الإنقاذ الأولى، أما في الواقع، فإن المسافة بينهما تبدو بعيدة جداً، فالمؤتمر الشعبي الآن هو أبعد الأبعدين سياسياً عن المؤتمر الوطني ويسعى بإلحاح لاستغلال الأوضاع الحالية للانقضاض عليه بكافة الوسائل السياسية، والحربية فيما يبدو. الذين يتحدثون مع الترابي الذي فلح كمال عمر أخيراً بإقناعه بالصمت مقابل أن يتولى هو مهمة الحديث في كل شىء، يلحظون مرارة لم تزلها السنوات من تلامذته الذين أخرجوه من دوائر الفعل السياسي، فهو حسب تلميح للدكتور أمين حسن عمر في وقت سابق مثل (شمشون الجبار) يريد أن يهد المعبد على من فيه. لكن ما يجدر التوقف عنده هنا هو أن الترابي لا يضع كل قادة الإنقاذ في سلة واحدة من الهجوم، فهو يرى في د. نافع مثلاً خيراً كثيراً، ويقول تعليقاً على تصريحاته اللاذعة إن دواخله ليست كتصريحاته التي تبدو قاسية على خصومه، والرئيس البشير نفسه ينظر إليه د. الترابي من منظار شبه متصالح فقد أكد أكثر من مرة أنه لا توجد بينه وبين البشير مسألة شخصية. وفيما يفضل البعض في قيادة الحكومة عدم مواجهة الترابي، ويتفادون لقائه في المناسبات الاجتماعية المختلفة، فإن هنالك آخرين يلتقون به بالضرورة، وقد قال الترابي نفسه في حوار سابق مع (أفريقيا اليوم) عندما سُئِل عن علاقته بالرئيس البشير وما يفعله عندما يلتقيان في مكان واحد: (عندما نلتقي مرات في (بكا) يسلم علىّ ويقول لي شيخنا بصوت عالٍ). بيد أنه ضحك على طريقته وهو يضيف: (أما من ورا بسمع بيقول حاجات تانية). مهما يكن، فمن الجميل أن يكون هناك تواصل بين الخصوم السياسيين في الفضاء الاجتماعي رغم ما بينهما من خلافات، لكن الأجمل أن يمتد ذلك التواصل في الفضاء السياسي بهدف الإلتقاء عند نقطة ما في منتصف الطريق لمواجهة التحديات التي تجابه الوطن وتهدد بنسف استقراره الذي تتربص به الكثير من الجهات، بينما لا يعلم حتى إخوان الأمس ضرورة التفريق بين التكتيكي والإستراتيجي، والوطني والوطن، فيسعون لانتياش الوطني من ذات القوس التي يرمي بها الأعداء الوطن نفسه.