منذ توجيه البشير بإغلاق أنبوب نفط الجنوب عصر السبت الماضي، بدت الأجواء بين الخرطوموجوبا مواتية لتوالد المبادارات وتدخل الوسطاء من المشفقين والراعين للاتفاق، وحتى الباحثين عن دور كذلك. فالأوضاع بين البلدين قد سلكت فيما يبدو المنعطفات المفضية للتصعيد، وربما الحرب فيما يبدو، فتأكيد سلفا كير في مؤتمره الصحفي أمس على استمرار اتفاقيات التعاون، جاء مصحوباً بإنكاره القديم لدعم المتمردين وهو الأمر الذي يجعل ذات الاتفاقات تقبع في غرفة الإنعاش بسبب تواصل دعم المتمردين والتوجيه بإغلاق الأنبوب الذي تم كرد فعل غاضب لاستمرار دعم الجنوب الذي ينذر بسيناريوهات ملغومة يتطلب نزع فتيلها تدخل الوسطاء والحكماء للحيلولة دون إنهيار تلك الاتفاقات وانزلاق البلدين إلى مواجهات عنيفة ستكون أكثر ضرراً، وضراوة عن سابقاتها. أمبيكي يبتدر التدخل التوتر بين البلدين، لم يفسد أجواء الوساطة تماماً، ومن المتوقع تدخل كثير من الجهات في الأيام القليلة المقبلة لنزع فتيل الأزمة بين الخرطوموجوبا ومحاولة إنقاذ ما يمكن إنقاذه، بينما يتوقع قبول الدولتين بأية وساطة جادة تعيد الأمور إلى نصابها من جديد ولكن بعد معالجة انشغالات الخرطوم وتوفير ضمانات لعدم استمرار الدعم الجنوبي للجبهة الثورية وقطاع الشمال بوجه خاص. الرئيس ثامبو أمبيكي، رئيس الآلية الأفريقية رفيعة المستوى التابعة للإتحاد الأفريقي والراعية للاتفاقات بين دولتي السودان كان أول المبادرين بالتوسط بين الجانبين، فقد بعث أمبيكي حسب مصادر واسعة الإطلاع بخطابين منفصلين للرئيسين البشير وسلفا مساء أمس الأول بهدف إحتواء الأوضاع والحيلولة دون إنهيار الاتفاقات الهشة أصلاً بين دولتي السودان وجنوب السودان. مقترحات الوساطة الأفريقية في الخطاب الذي سطره ثامبو أمبيكي من (12) صفحة للبشير وسلفا كير، وضح أن هنالك جهودا كبيرة تبذل لإحتواء التصعيد، وشدد أمبيكي على ضرورة رعاية الدولتين للاتفاقيات المختلفة الموقعة بينهما والجلوس لمناقشة أية مشاكل تطرأ في التنفيذ، ودعا في هذا السياق لتفعيل آليات الحلول وإنعقاد اللجنة السياسية الأمنية المشتركة، ولم يكتفِ أمبيكي بذلك بل لوح - من قبيل التهديد فيما يبدو- بإستشارة مجلس السلم والأمن الأفريقي ومجلس الأمن الدولي بشأن التصعيد الأخير بين الخرطوموجوبا. ويتوقع أن تلتئم في الأيام المقبلة الآليات التي تم الإتفاق عليها في 13 مارس الماضي على كافة المستويات للنظر في إتهامات الخرطوم ومعالجة المشاكل المختلفة، حيث تعنى هذه الآليات بعملية التقييم والتقويم وهي كجسم قانوني تعالج أية مشاكل تطرأ من قبيل قفل الأنبوب في مستويات مختلفة منها مستوى رئيسي البلدين. تدخلات الدول الست عند تأزم العلاقات في وقت سابق بين الخرطوموجوبا لعدم تنفيذ اتفاقيات التعاون الموقعة بين الجانبين، سارعت ست دول أفريقية لعقد اجتماع مشترك لإحياء التعاون وإزالة العقبات التي تقف في طريقها بإعتبار أن ما تم كان عملاً، بل إنجازاً أفريقياً خالصاً ينبغي المحافظة عليه ، و في مقدمة تلك الدول كانت أثيوبيا وجنوب أفريقيا ونيجيريا وساحل العاج وزيمبابوي، ويتوقع أن يبادر العقلاء في تلك الدول بالتوسط ونزع فتيل الأزمة بين الجانبين خاصة وأن المهددات التي تعترض طريق إتفاق التعاون هي الأخطر من نوعها فيما يبدو. لكن، في حال عدم تكرار ذات سيناريو التوسط السابق، فمن المتوقع أن تبادر بعض تلك الدول منفردة بالتوسط بين الخرطوموجوبا، خاصة دولة أثيوبيا التي ظلت وسيطاً مقبولاً ومسرحاً لكثير من اللقاءات بين البلدين، فقد أفلح رئيس الوزراء الأثيوبي الجديد هايلي مريام ديسالين في التوسط بين البشير وسلفا كير وجمعهما في طاولة واحدة أكثر من مرة في أجواء شديدة التعقيد. تدخل دول الجوار كثير من دول الجوار الأفريقي، يعنيها ملف العلاقات السودانية الجنوبية بصورة مباشرة، ومثلما هناك دول مثل يوغندا تسعى للإستثمار في تأزيم الأوضاع، فإن هناك دولاً أخرى مثل كينيا وأريتريا ومصر قد تسعى للتوسط لتجنيب البلدين مواجهة محتملة بعد إغلاق أنبوب نفط الجنوب. وربما كانت الفرصة سانحة لتوسط مصر في تقريب وجهات النظر بين الخرطوموجوبا واقناع جوبا بوقف الدعم والخرطوم بفتح الأنبوب، وفي حال فلحت في هكذا أمر، فإنها تحرز نصراً دبلوماسياً سينعكس عليها إيجابياً في معركة سد النهضة الأثيوبي، وربما استطاعت كسب مواقف السودان وجنوب السودان، أو استمالتهما على الأقل لموقفها من هذه القضية الإستراتيجية بالنسبة لها. الصين .. واللاعبون الدوليون الإمام الصادق المهدي قال في أجواء مماثلة من التوتر بين الخرطوموجوبا إن الوسطاء الأفارقة والغربيين مشكوك في نزاهتهم وحيادهم، فالوسيط الافريقي متهم بالقبض والرشوة والوسيط الغربي متهم بالانحياز. ورغم هذا التصنيف الحاد إلا أن تأرجح العلاقات السودانية الجنوبية لا يستغني عن الوسطاء، وتبدو الحاجة إليهم ملحة الآن أكثر من أي وقت مضى. صحيح ان دولة مثل أمريكا لا تتوسط وإنما تهدد وتنحاز على الأرجح، إلا أن هنالك دولاً أخرى كروسيا مثلاً تقف في نقطة واحدة من الدولتين وتتمتع بمقبولية هنا وهناك تؤهلها للعب دور كهذا. بيد أن أكثر الدول قدرة على التدخل والتوسط هي الصين، فهي لديها الكثير من القبول والمصالح الحقيقية في إنسياب النفط واستمرار التعاون بين الخرطوموجوبا دون أي معكرات تهدد مصالحها الكبيرة هناك، فمن واقع حماية مصالحها على الأقل من غير المستبعد أن تبادر بكين بالتوسط وإقناع البشير بالتراجع عن إغلاق الأنبوب، وإقناع سلفا كير بالكف عن استمرار دعمه للجبهة الثورية المتمردة على الحكومة في الخرطوم. توقعات بحدوث اختراق مما سبق، يبدو أن باب التوسط لنزع فتيل الأزمة بين الخرطوموجوبا موارباً أمام العديد من الجهات من واقع مصلحتها أو مخاوفها أو ربما لرغبتها في البحث عن دور، لكن نجاح أي من الوساطات رهين بإلتزام دولة الجنوب بالوقف التام لدعم المتمردين، وتغيير نبرة الإنكار التي تحدث بها سلفا كير في مؤتمره الصحفي أمس بجوبا عن أنهم لا يدعمون المتمردين على حكومة الخرطوم ، بينما الخرطوم توثق ذلك الدعم الذي يصل إلى الجبهة الثورية بالإسماء والأرقام والمواقيت وكافة التفاصيل التي يستعصي القفز من فوقها لأي وسيط منصف. مهما يكن من أمر، فمن المتوقع أن يفلح الوسيط ثامبو أمبيكي في تهدئة حدة المواقف بين الخرطوموجوبا، فهو، بخلاف كثير من الوسطاء يمتلك التفويض والمعرفة والأوراق والعصي الكفيلة بتعقل كل من يخرق الاتفاق، فهل يفلح أمبيكي في نزع فتيل الأزمة ويحول دون إنهيار الاتفاقات أفريقية الصناعة والرعاية ؟ أم سيضع يده على خده، و(يتمحن) كمحنته المعهودة التي كثيراً ما وثقتها له عدسات المصورين ؟