حاوره في الصين : فتح الرحمن شبارقة: تصوير : كمال عمر: هل فعل د. عبد الحليم المتعافي في الزراعة ما يستوجب الاستغفار؟.. وما الذي تغيّر في الرجل بعد نجاته من حادث سقوط الطائرة ، ألا يحتم الاقتراب من الموت على ذلك النحو ترتيب بعض الأوراق في الزراعة على الأقل؟.. ما هي حكاية (البزنس) الخاص به، وقصة ولعه بالاستثمار؟.. كيف يقرأ د. المتعافي الاتهامات التي تلامس الفساد بشأنه أحياناً في صحف الخرطوم؟ وهل صحيح أنه كان يقلد الترابي في زمان غير؟.. أين ذهب وعده القديم بأن يصبح الفراخ طعاماً للفقراء ؟ ومتى سيرتاح المتعافي ويغادر الوزارة، أم يزعجه ربما أن تلتحق باسمه صفة (وزير سابق)؟! تلك الأسئلة، وأخرى تفرعت منها، طرحتها (الرأي العام) في الأيام الفائتة على د. المتعافي بعد ترتيب مسبق في بهو فندق شيراتون الفخيم بمدينة تشانغستو الصينية، فلم يسلك المتعافي أياً من الدروب المفضية للهروب من صيغة الأسئلة، بل واجهها بإبتسامته المعهودة، وبما تحتاجه من إجابات واثقة كما سنرى: إذا كان الزراعي لا ينجح في الطب فما الذي يجعلنا نعتقد مثلك بأن الطبيب قد ينجح في الزراعة؟ - الإدارة لا علاقة لها بالتخصص في أحايين كثيرة، ويمكن أنت تكون طبيبا ناجحا جداً من ناحية أكاديمية ومن ناحية وظيفية لكن تكون فاشلا إدارياً. والعكس كذلك، ممكن أنت تكون غير ناجح إلى حد كبير أكاديمياً أو مهنياً لكن في الجوانب الإدارية يكون عندك دور إيجابي، والوزارة والولاية إلى حد كبير غير مرتبطتين بالتخصص إنما مرتبطتين بالقدرات الإدارية والرؤية لقيادة العمل العام في الولاية أو الوزارة المعينة. والجامعات والمعاهد العلمية هي أدوات لتفريخ القدرات وإظهارها وتنميتها لكن في العمل العام يمكن أن تنتقل من تخصص لآخر طالما ان الرؤية واضحة والتفكير الإستراتيجي بائن بالنسبة للشخص، وأنا لا أرى مشكلة في ذلك، وكثير جداً من القادة العسكريين نجحوا في قيادة العمل المدني ويمكن أن يكون هناك مدنيون نجحوا في قيادة العمل العسكري، وأطباء نجحوا في غير مجال الطب، والعكس كذلك. د. المتعافي عمل وزيراً أكثر من مرة، ووالياً.. أيهما أصعب برأيك الوزارة أم الولاية؟ - طبعاً أصعب الولاية، ومهما تكون الولاية صغيرة أو بعيدة هي أصعب لأن الوزارة فيها تخصص والولاية فيها جملة تخصصات، وأنت في الوزارة تكون أكثر تركيزاً وأكثر إلماماً ومتابعة لعملك. وفي الولاية يكون معك آخرون مسؤولون عن ملفات كثيرة في حين أن المسؤول الأول تكون أنت إذا كنت الوالي والناس يتوقعون منك أنك ملم بهذه الملفات، ويمكن تعتبر الولاية ليس فيها تخصص بينما الوزارة فيها تخصص. عندما تنظر لوالي الخرطوم د. عبد الرحمن الخضر الآن هل تتعاطف معه أم تشفق عليه أم تحسده ربما ؟ - والله أنا إذا غادرت مكان لا أنشغل به أبداً رغم إنني والأخ عبد الرحمن دفعة وأبناء فصل واحد وعلاقتنا ودودة وكثيراً ما أشفق عليه لأنني أعرف مدى الضغط النفسي الذي يلاقيه الوالي. ولكن أعتقد أن المرء إذا عمل في موقع وغادره ينبغي أن يتركه إلا إذا طلبت منه المساعدة، فإن يفكر الشخص في ما هو مُقّدِم عليه أفضل من أن يفكر في ما تجاوزه وتخطاه. مقولتك عن أن الفراخ سيصبح طعاماً للفقراء عندما كنت والياً للخرطوم ما زال مثار تندر، لأن الفراخ لم يصبح بعد وجبة للفقراء، ولم يتحقق وعدك لهم فيما يبدو؟ - أعتقد ان هذه واحدة من الرؤى التي تحققت، والآن كيلو الفراخ ب (22) جنيها، وكيلو الضان ب (60) جنيها، والغرض من هذه المقولة ان اللحوم البيضاء دائماً هي أفيّد وأنفع وأرخص. وعندما بدأنا العمل في التحول نحو أسعار اللحوم البيضاء كانت أسعارها أغلى من اللحوم الحمراء.. =مقاطعة= لكن الذي حدث هو أن أسعار اللحوم الحمراء هي التي ارتفعت ولم ينخفض سعر الفراخ، فأصبح أكل الفقراء للفراخ اضطرارياً لأنهم لا يستطيعون شراء اللحوم الأخرى؟ - أصلاً في كل الدنيا الفراخ بنصف قيمة اللحوم الحمراء، والآن في الخرطوم هي بثلث قيمة الضان وبثلث قيمة البقر، وهذا هو كان المطلوب وقد تحقق. لكن ربما لم يستوعب كثير من الناس ماذا كنا نريد بذلك، فقد كنا نريد أن يكون هناك طعام أرخص سعراً وأعلى جودة وأقل ضرراً وقد تحقق ذلك. عندما يتحدث الناس عن المتعافي دائماً يتحدثون عن الاستثمار وأنك تُغلِب الإستثمار في أي مكان تذهب إليه وتكون حريصاً عليه، فإذا كان هذا إتهاماً هل تراه صحيحاً؟ - لماذا الاستثمار إتهام؟، الاستثمار واحد من وسائل تمويل المشروعات سواء أكانت هذه المشروعات خدمية أو إنتاجية أو صناعية، فلا غني لدولة في العالم الثالث أو حتى العالم الأول من أن تشجع الاستثمار وتحض عليه وتسهل له الإجراءات وتبسطها وتقدم له الحوافز لأن الاستثمار هو محاولة لاستقطاب رأس مال وخبرات وإدارة جيدة بدلاً عن الإعتماد على الإدارات الحكومية والإدارات العاجزة والمتخلفة التقانة. فالاستثمار واحد من وسائل تطوير البنيات، والآن إذا ذهبت لأية دولة متحضرة تجدها تتكلم عن شيئين.. عن سهولة أداء الأعمال وعن حجم الاستثمارات التي استقطبتها الدولة. لكن خطورة الربط بين الاستثمار والمتعافي تجىء من جهة أن للمتعافي (بزنس) خاصا، وربما يخلط هنا بين العام والخاص؟ - حكاية بزنس المتعافي الخاص هذه واحدة من الأشياء التي تم تكبيرها من الإعلاميين، فهل المتعافي الآن يملك إحدى الشركات الكبرى أو العاملة في مجال معروف... =مقاطعة= هل تريد أن تقول إنك ليس ثرياً؟ - الثراء قضية نسبية، فمن تراه أنت ثريا قد يراه آخر فقيرا. لكن أنا أحمد الله سبحانه وتعالى على ما أنعم به علىّ من نِعم كثيرة جداً. هل تشعر أنك محسود ربما؟ - هذه واحدة من صفات البشر التي وردت في القرآن وفي السنة ، وطلب الرسول (صلى الله عليه و سلم) أن يستعيذوا منها وأن يقرأوا المعوذتين وأن يتمسحوا بهما ما تيسر لهما، والقرآن ختم بالتعوذ من الحسد والتعوذ من الجن ،وسورتا الفلق والناس تأتي لتحصين المسلمين. وإدراك الخالق جلا وعلا، ولعلم الرسول (صلى الله عليه و سلم) بهذه الصفة في البشر نبه لها وطلب من الناس أن يتحصنوا ضدها، فهي سمة من سمات البشر. والحسد ليس مسألة خاصة بالمتعافي فكل ذي نعمة محسود. ماذا سيورث المتعافي أبناءه غير المال.. هل ستورثهم العمل السياسي مثلاً؟ - أنا لا أتدخل في اختيارات أبنائي ولا أوجههم، لكن أنا حريص على قضية أساسية جداً وهي أن يتعلموا أفضل تعليم ممكن، فسيدنا عمر يقول علموا أبنائكم فإنهم مخلوقون لزمان غير زمانكم، وأنا واجبي أن أّيسر لهم سبل تحصيل علمي يناسب عصرهم ويناسب ظرفهم ووقتهم وبعد ذلك كل حسب اجتهاده. هناك من يرى إن للمتعافي إمكانات كبيرة لم تستغل على النحو الأمثل بعد، هل ترى أنك أخرجت كل ما عندك؟ - أشكر الذين يشعرون بهذا الإحساس، لكن أنا أعتقد بأن الأمور تجري بقضاء وقدر. والله سبحانه وتعالى يضع العبد حيث يريد ويعلم حجم قدراته وحجم عطائه، فالذي يحدد الحراك والانتقال هو الله سبحانه وتعالى. وفي أي مكان توضع فيه هنالك فرصة للإبداع وليس هناك مجال أقصر من قامة الشخص وأي مكان يكون أكبر من قامة الشخص وقدراته. لكن لم نر شيئاً من هذا الإبداع في وزارة الزراعة تحديداً؟ - لأن المزاج العام والسياسات الكلية في البلاد لا تساعد في أن ترصد الإمكانات للزراعة، الزراعة مازلت قطاعا شبه منسي من الجهات الاقتصادية الكبرى في البلاد سواء أكانت سياسات نقدية أو مالية. والقضية في أن هنالك مشكلتين في الزراعة.. لا يوجد حماس من الجهات المالية والنقدية لتمويل الزراعة، والزراعة بطبيعتها بطيئة والتحول فيها يحدث بهدوء شديد لا يشعر به الناس. لكن الناس يعتقدون أنك بين عشية وضحاها يمكن أن تغيّر الواقع الزراعي، فالتجارب العالمية تقول إن الواقع الزراعي يتغيّر ويقاس التغيير فيه كل عقد من الزمان. ألا ترى ان المعادن مثلاً يمكن أن (تسد فرقة) الزراعة في البلاد؟ - لا يوجد قطاع يمكن أن يسد مكان الزراعة حتى الدول الثلاث الصناعية الكبرى (أمريكا والصين واليابان) هي بها أميّز القطاعات الزراعية وتتقدم رغم أن الزراعة لا تسهم مساهمة كبيرة في الناتج القومي الإجمالي ولكن كانت هي البداية التي انطلقت منها القطاعات الأخرى في الصناعة والخدمات. الحديث عن انتظار عشر سنوات لإحداث تغيير يجعل الزراعة أشبه بالبريد العادي قياساً بالبريد السريع والتقنيات الأخرى؟ - لكن هذه هي طبيعة الزراعة لأنك تتعامل مع ملايين الأشخاص وتريد أن ينتقل هؤلاء الأشخاص إلى تقانات جديدة وإلى أفكار جديدة وإلى أساليب زراعية جديدة وهذه لا تتم بسرعة، يعني أنت في السياسة يمكن أن تحرك الأمة في مظاهرة بها مليون شخص في مدة يوم، لكن في الزراعة لا يمكن أن تحرك مليون مزارع في يوم. فقراءة التاريخ في التطور الزراعي بالدول التي تقدمت زراعياً، هذه القضية أخذت وقتا طويلا جداً حتى بعد رصد الأموال وتجويد السياسات وتدريب الكوادر، وستظل الزراعة إذا لم نغيّر من نظرتنا الاقتصادية والمالية تجاهها ستظل الزراعة على ما هي عليه تتقدم ببطء شديد إلى أن نغيّر نحن تقدُمِنا نحوها والتحرك نحوها بسرعة. طيب .. إزاء وضع كهذا، ما الذي يمكن أن يفعله المتعافي لكي يعيد للزراعة نجوميتها؟ - أي شخص إذا ترك موقعه يتمنى أن يضع خلفه أثراً صالحاً، والأثر الصالح الذي أتمنى أن أضعه هو أن ينتقل المزارع السوداني نحو التقانات الحديثة والتجارب الجديدة في الإنتاج الزراعي وأن ينتقل بسرعة نحو زيادة الإنتاج الرأسي، لأن الإنتاج الزراعي عندنا ظل لفترة طويلة يتم بمعدلات ثابتة لا تكاد تتحرك ولا تتبدل ولا تنطلق أبداً، يعني لو قلت لك أنه منذ عام 1925م إلى الآن وبعد أكثر من قرابة التسعين عاما ونحن ننتج بنفس المعدلات وينبغي أن نكسر هذه الحلقة، حلقة الإنتاج بالمعدلات المتواضعة. أليس هناك مبالغة في حديثك عن ثبات معدلات الإنتاج الزراعي في البلاد منذ العام 1925م أم أنك ربما تستند إلى أرقام في ما ذهبت إليه؟ - أنا أكلمك بأرقام دقيقة، فإنتاج القطن وإنتاج الذرة وإنتاج السمسم إذا لم يتراجع منذ تسعين عاما في 1925م فهو لم يتقدم، فالسودان تقدم في كل شىء إلا في الزراعة. أنت الآن وزير للزراعة، لكن ما هو الموقع الذي كنت تتمناه وتشعر بأنك كنت ستقدم فيه أكثر؟ - أنا في عمري كله ما تمنيت موقعا، وحتى الآن لا أتمنى موقعاً بعينه. وما حصل طلبت وزارة أو قدمت طلبا أو قدمت لوظيفة، وأنا أعتقد ان المرء ينبغي أن يعمل حيث وَُضِع وأن يبذل كل جهده. هل تشعر بأنك محظوظ؟ - جداً، وأحمد الله سبحانه وتعالى وأعتقد ان الله أنعم علىّ بنعم كثيرة جداً وأتاني من كل ما سألت.. (وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها). إذا كنت لم تسعِ لموقع كما تقول، فهل يعني ذلك أنك رجل زاهد ربما؟ - لا أستطيع أن أصف نفسي بالزاهد، لكن لا يشغلني أين أكون أو ماذا سأصبح غداً لأن هذه الأمور تجري بقضاء وقدر،وبتصريفات الله سبحانه وتعالى. يعني لا ينفع فيها الجري خلفها ولا التمني لها. هل يزعجك د. المتعافي أن تلحق باسمك صفة (وزير سابق)؟ - أبداً، وأصلاً لم أكن أتوقع أن أصبح وزيراً، وأنا من أسرة بسيطة ليس فيها عمدة ولا شيخ حِلة، و(ما عندي شغلة بالحكاية كلها). أين سيذهب د. المتعافي إذا غادر الوزارة؟ - أرض الله واسعة، وفي ذهني عشرات الأفكار، ويمكن أن أحقق واحدة من عشرات الأفكار التي أُفكر فيها دوماً، ولا يشغلني ابداً ماذا سيصير حالي غداً. طيب ألا تشغلك الإتهامات من بعض خصومك والتي تصل لدرجة اتهامك بالفساد في بعض الأحيان؟ - أبداً، وأتجاوزها بسرعة. فالصبر على أي إبتلاء هو واحد من أعمال الأجر الواسع، وإذا انتقلت من مرحلة الصبر إلى مرحلة الرضا تكون من أهل الصلاح. وهي لا تزعجني لأن أي إتهام مؤسس ينبغي أن يزعج المرء، أما أي إتهام غير مؤسس ينبغي أن لا يشغل المرء عن أداء واجبه والانطلاق نحو أهدافه. في لحظة إحباط ما، أو ربما إنزعاج من مثل تلك الاتهامات هل فكرت في أن تضع القلم وتمضي؟ - طبعاً كبشر كثيراً ما يفكر المرء في أن يترك عمله أو أن يسلك طريقا أسهل في كسب الأجر من الله سبحانه وتعالى، ولكن دائماً أُراجع نفسي وأعتقد أن العبد المؤمن إذا سار حيث طُلِب منه أن يسير وقام بأداء الواجب الذي كُلِف به فإن الله سبحانه وتعالى سيعينه عليه إن شاء الله. هل حدث أن فكرت في الاستقالة؟ - أنا استقلت قبل ذلك عملياً وليس تفكيراً. ما قصدته هو التفكير في الاستقالة على خلفية الاتهامات والاشكالات الأخيرة في وزارة الزراعة؟ - أبداً، وما يراه الناس اشكالات لا أعيره كثير إهتمام خاصة إذا كان غير مؤسس على منطق، وأنا أحياناً أعرف ما هي الدوافع التي تجعل الآخرين يفعلون ذلك، فإذا تبينت لي أسباب الهجوم أعتبره جزءاً من الابتلاء الذي يؤجر عليه المرء ويثاب. ألم تحقق معك القيادة أو تستفسرك عما يثار بشأنك من اتهامات في الصحف ؟ ضحك قبل أن يقول: - لم يسبق أن سألني أحد، والقيادة لها وسائلها في التعرف على مثل هذه الأمور ولا تحتاج لأن تقرأ أحياناً في الصحف، فهي تعرف كل من تُكلف . نواصل...