لعنة قديمة متجددة عادت لتصيب الحزب الحاكم في الخرطوم، اتسمت ملامحها بالاحباط تارة والنكسات والانكسارات والهزائم النفسية تارة أخرى، ليضحى هاجس الانقاذيين الاخطر منذ قدومهم فجراً على ظهر ال 30 من يونيو، خروج الكثيرين من صفها الاول أو الثاني أو منظريها الفكريين، سواء بتململات داخلية من فرط التناقض بين الشعارات والممارسات أو بسبب نفاد صبر الوطني على ممارسات بعض عضويته وضيق مواعينه عن طموحات البعض الآخر، فيكون الخروج هو النتيجة الحتمية مهما تعددت السيناريوهات. وطبقاً لما نقل من انباء فإن آخر ما شهدته ساحة الحزب الحاكم من خروج جاءت بخطوة وصفت بالمفاجئة لمجدي شمس الدين المحامي سكرتير الاتحاد العام لكرة القدم، وخروجه عن المؤتمر الوطني، مؤدياً قسم الولاء امس الاول للحزب الاتحادي الاصل والطائفة الختمية، أمام مولانا محمد عثمان الميرغني بدار ابو جلابية بالخرطوم بحري، فيما تعلل ل(الرأي العام)أمس عن توضيح مبررات الخطوة وسر توقيتها بانشغاله بأزمة رياضية مسرحها شندي، ليكون السؤال : ما هي مبررات الخروج المتكرر التي يعيشها الحزب الحاكم .. ؟ القانوني الجالس على قمة المؤسسات الرياضية القومية، باعادة تسجيله بالنادي الاتحادي لم يكن أول الراحلين عن النادي الكاثوليكي ، بفعل فاعل أو بمنطق العودة للحق فضيلة، فكانت 12 ديسمبر من العام الماضي على موعد مع آخر صرخات الوطني التنظيمية بفصل فرح عقار مرشح المؤتمر الوطني في آخر انتخابات بالنيل الازرق والوزير السابق بتهمة خرق النظام الأساسي للحزب ودعمه لأفكار المعارضة والترويج لها بحسب قرار لجنة المحاسبة التي أوصت بفصله وأمَّن على توصياتها المكتب القيادي. تاريخياً الخروج عن (طوع) الوطني تعددت محاوره ومبرراته، باعتبار أن الاختلاف سنة كونية تتلازم والتجربة الانسانية - بغض النظر عن الانطباعات السلبية أو الايجابية حيالها - لكن المفارقة في المؤتمر الوطني أن القفز من (سفينة) الانقاذ بدأ وهي لا تزال في بداية المسير، قبل أن تستقر على سدة الحكم في الخرطوم ومنذ بواكير ايامها، فكانت تململات العميد عثمان أحمد حسن أول مسئول سياسي لمجلس قيادة الثورة، التي ادت لتقديمه لاستقالته مرتين متتاليتين قبل ان يوصي بقوبلها د. الترابي في المرة الثالثة، ليرفض العميد الراحل مبكراً تقديم أية افادات عن أسباب الخروج والاختلاف منذ ذلك الوقت .. أوجاع خروج الرجل من مجلس قيادة الثورة (بردتها) بحسب وقائع التاريخ، سيناريوهات الموت الذي حاصر قيادات تلك الحقبة فكان بيو يو كوان ثم الزبير محمد صالح، وابراهيم شمس الدين، واروك طون، قبل أن تفرق السبل البقية الباقية.. داؤود يحيى بولاد، أحد فتيان الانقاذ المدللين، تصدر مشهد المغادرين الراحلين صوب محطات أخرى ، وحمل ذات يوم معوله نافضاً يده عن كل ما آمن به واقنع به أهله كمسئول سياسي لدارفور، ليعلن رحيله صوب الجنوب تحتضنه احدى بنات افكار حركات التحرر الافريقي ببطلها قرنق آنذاك، قبل ان يدير له(إخوة) الامس ظهورهم بالموت السريع. النزيف الاكبر لاسلاميي الخرطوم، وأساس الفواجع لدى آخرين، كانت محطته الزمنية (مفاصلة رمضان) الشهيرة في العام 1999م، وأفضت لخروج عراب النظام د.حسن عبد الله الترابي مع جملة من الاسماء، أهتزت لها عروش الوطني، لولا بعض من سلطة وكثير مال، قبل ان تبدأ رحلة الاستقطابات والاستقطابات المضادة في محاولات بين السر والعلن، فكانت الغنيمة الحاج آدم وحاج ماجد سوار ومحمد الحسن الامين، وعشم في آخرين.. النزيف المتواصل والمتصل في الوطني، أرجعته دوائر الغاضبين كلما خرجوا للقبضة التنظيمية الصارمة في الحزب الحاكم التي استوى عليها د.نافع علي نافع ومولانا احمد ابراهيم الطاهر من قبل، وبحثهم في اخطاء عضويتهم، ليتسنى الحسم، فيما يرى كثيرون ان صرامة الوطني لم تكن وليدة ارتباط د. نافع بالمنصب التنظيمي كنائب لرئيس الوطني لشئون الحزب، وانما استبق ذلك ضيق الحزب والدولة بآراء أبناء الحركة الاسلامية المدللين وفي مقدمتهم مكي علي بلايل، ورفيقه في تأسيس الحزب الجديد أمين بناني نيو واسم للعدالة لم يلبث أن انقسم، قبل ان تعصف اشواق دارفور للتغيير بخليل ابراهيم ليحل في مقعد العدو بحثاً عن شعار العدل والمساواة، فيما استبق د.رياك قاي رئيس دائرة وأمانة الجنوب بالمؤتمر الوطني، جرح الجنوب معمقاً نزيف الوطني باعلانه عبر تلفزيون جوبا حل مكاتب الحزب بجنوب السودان معلناً انحيازه لابناء جلدته بالانتساب للحركة الشعبية.. (ستر الفضيحة) الوطني كحزب سلطة فقد بسببها أو كانت دافعاً لاخراج البعض من (الحوش) الملتحي، فكانت فضيحة بورتسودان في رمضان المبارك قبل الماضي من العام الماضي، التي أدت لاجبار الحزب الحاكم على فصل نائب رئيس المؤتمر الوطني بولاية البحر الاحمر بعد القاء القبض عليه في احدى شقق ضاحية المعمورة بالخرطوم وبصحبته 4 فتيات ، ليعقد المؤتمر الوطني بالبحر الاحمر اجتماعا قرر فيه فصل نائب رئيس الحزب . عموماً الاحلال والابدال، احد ملامح التجربة الحزبية السودانية، ولم تكن حكراً على الوطني بل شملت جل أحزاب الساحة السياسية، بيد ان التركيز على الوطني ، يرجعه كثيرون الى أن الحزب الحاكم يقدم قياداته التنظيمية كرجالات صف أول بالدولة ما يربط الدولة بالحزب ويذوب كل منهما في الآخر، دون تحسب للاختلاف النوعي بين التجربتين على كرسي الحكم وكرسي الحزب، لتتزايد المخاوف إزاء تصاعد محتمل لحالة الاستنزاف، وان لم ترتبط بالضرورة برجالات الصف الاول، ففي ديسمبر من العام 2009 م غادر برلمانيان كردفانيان صفوف الحزب الحاكم وانضما للمعارضة الكردفانية بالاراضي التشادية وهما احمد وادي الذي شغل منصب نائب رئيس المجلس التشريعي بشمال كردفان ومحمد يوسف محمد حسين رئيس الهيئة البرلمانية لنواب الحركة الشعبية بتشريعي شمال كردفان قبل أن ينضم للمؤتمر الوطني في شمال كردفان خلال جلسة افتتاحية لمؤتمر الولاية في سبتمبر من ذات العام بحضور د. نافع علي نافع مساعد رئيس الجمهورية ونائب رئيس المؤتمر الوطني.. كذلك شهد ديسمبر من عام الانفصال اعلان ضو البيت يوسف احمد حسن أحد ابرز شباب الاسلاميين خروجه عن الوطني وانضمامه لحركة العدل والمساواة عبر بيان صادر من كمبالا، وشغل الفتى في وقت سابق بتجربته منصب الامين العام للاتحاد العام لطلاب ولاية غرب كردفان 1998م بالاضافة لمنصب أمين قطاع الطلاب بالمؤتمر الوطني محافظة لقاوة 1999م ، ورئيس لجنة العمل السياسي والتدريب بالاتحاد العام للطلاب السودانيين المركزي 2001?2003، ثم الامين السياسي لحركة الطلاب الاسلاميين بجامعة النيلين 2003م وكذلك شغل منصب أمين قطاع الطلاب بالمؤتمر الوطني بولاية شرق الاستوائية وعضو المكتب القيادي بتلك الولاية 2005?2008م، بالاضافة لعمله مشرفاً لقطاع الجنوب بأمانة الطلاب الاتحادية بالمؤتمر الوطنة 2009 عضو اللجنة العليا للسجل الانتخابي ومشرف الاستوائية الكبرى 2010م ، قبل أن يحل مشرفاً على ولاية غرب الاستوائية باللجنة العليا لاستفتاء جنوب السودان 2010 م.. حالات أخرى رصدتها(الرأي العام) لم يتم فيها ابتعاد منتسبي المؤتمر الوطني أو أعلنوا فيها خروجاً نهائياً، بقدر ما أنهم مثلوا تعبيراً عن تململ داخلي فبرزت مجموعات الاصلاحيين تحت العديد من المسميات كالالف أخ، وسائحون، وشكل شباب الاسلاميين معظم عضويتها وعلا صوتها في أعقاب المؤتمر العام الثامن للحركة الاسلامية، بالاضافة للعديد من حالات الابتعاد والخفوت بسبب احتجاجات تنظيمية ظلت أسيرة نوايا المبتعدين مثل محمد عبد الله شيخ إدريس، أو المناكفين مثل د. غازي صلاح الدين أو متحدثين عن الاصلاحات من داخل المؤسسات بصوت عالٍ مثل د. أمين حسن عمر ود.قطبي المهدي، بالاضافة للمطالبين بالاصلاحات قسراً مثل الفريق أول صلاح عبد الله قوش و ود ابراهيم.. ويذهب المحلل السياسي المقرب من دوائر اليسار محمد سيف النقر الى أن حالات التملل في الوطني لم تكن قيد الاطر التنظيمية بسبب عدم السماح بالخروج على خط المؤتمر الوطني وقال ل(الرأي العام)أمس (بل ايضاً لأن خط المؤتمر الوطني أخذ تدريجياً يتطبع بطباع من صعدوا عبر الاذرع الامنية على حساب السياسيين، ما اسهم في استمرار ذات وضعية المربع الاول ابان مجئ الانقاذ وممارستها لما يعرف بالشرعية الثورية، ما أنهى آمال الانفتاح التي يجنح لها السياسيون ومفكرو الاسلاميين) .. حديث الرجل لم يكن بعيداً عن الواقع في سياق ما لوحظ عن ابتعاد أو خفوت اصوات العديد من مفكري الحركة الاسلامية ومنظريها ، وبرز اسم د.عبد الوهاب الافندي ود.الطيب زين العابدين والبروفيسور حسن مكي. وتوقع النقر أن تتواصل عمليات الخروج من الوطني بسبب ما يعيشه الوطني من حصار بسبب الضائقة المعيشية الاقتصادية والتحذيرات المتكررة عن المخاطر الامنية المتزايدة بفعل الحركات، ما يجعل غرق سفينة الانقاذ على وشك في ظل ارتفاع الاصوات المنادية باسقاط وتغيير النظام، ويزيد بالتالي أعداد المغادرين..