.. عبدك المسكين.. يقف بين يديك خالي الجراب، مقطع الأسباب، ما عنده شئ يضعه في ميزان عدلك سوى المحبة الطاهر ود الرواسي شفت بي عيني سكة النجاة وسكة الهلاك مريود -1- متى، ياسادتي نغرب مع الغاربين؟ إلى متى موقف الحزن الذي أوقفنا فيه السابلة وقالوا: لا تذرفوا دمعاً، فإن الذي رجل كان هو الواقف عينه، وأنه لم يكن مطلقاً مثل العارف الذي ينبغي ألا يكون مثل العالم «وأن غصة الصامت تدفع بنا إلى حيث تتطاوح الأوساع وتقصر العين.. اللهم إن معرفتنا بك بعدنا عنك. هل يا ترى نساق بالطبيعة إلى الموت ونساق بالعقل إلى الحياة كما تساءل سيد المقام النثري أبي حيان التوحيدي؟ أو لم يكن هو القائل: إن أغرب الغرباء من كان غريباً في وطنه وأضاف أحد سادة المقام الشعري: أن الأغرب ان تكون و فياً للكتابة فتشردك الكتابة. ذلكم هو موقف سيد المقام السردي الطيب صالح. -3- ولد الطيب صالح قرب النهر، يا سادتي، وعلى بعد بضعة فراسخ دفن حيث «إن الموت ولا شك يسكن في تلك البقعة من النهر»، مثلما ذكر مريود في أحد منولوجاته. وترك كرموكول وهو يافع وظل «طعم ماء النيل أيام الفيضان وطعم الأخشاب المبتلة، وأوراق الأشجار، والطين، طعم الموت، صافي فى أماكن الرمل، عكر في محلات الطين «يلاحقه، جاء إلى المدينة يلاحقه أيضاَ صوت جده وإلفة المكان. دفعته تلك الذاكرة دفعاً، غير باغ، في أن يندغم في أزمنة المدينة التي ظلت تلاحقه حيثما ذهب، والسرد ومقاماته ولدت في المدينة على الرغم من زعم النقاد ان برجوازية المدينة وليبراليتها قد إنتهتا بظهور الرواية. -3- تعلم درس الكتابة من رجلين فنانين لهما دين علينا في تنويرنا يوم لا ينفع سوى الوعي بالعلم والتاريخ والانسان. فنانان لأنهما فتحا باباً للضوء ليتسرب ويضئ عتمة المكان وجهل الإنسان بالآخر الإنسان. قال الراحل حين سؤاله،من من الكتاب تأثر به مطلع شبابه، أجاب: تأثرت بنثر إثنين من السودان هما أحمد الطيب وجمال محمد أحمد الذي كان أول من قدمه «على لسانه في حوار الراحلة ليلى المغربي مطالع ثمانينيات القرن الماضي» للقاريء العربي. إعترف بأنه نهل من لغتهما وأسلوبهما وتعلم درس الكتابة العربية بأسلوب حمل من سواد أهل السودان وعربيتهم، مما ميزه عن عربية البيضان وأضاف إلى أنه تأثر فيما تأثر بالذي غيبته شمس المتطاوحين مؤلف «مولد النسيان» وحدث أبو هريرة قال» للكاتب التونسي محمود المسعدي: انظر ما كتبه الطيب عنه حين وفاته. -4- حينما وطئت أقدامه بلاد الإنجليز، فتح علي تيارين في التفكير، أولهما روايات فرجينيا وولف والآخر الكتابة البريطانية التي نزعت نحو صيغة من صيغ الاشتراكية كانت شائعة آنئذ «برناردشو وكتابات هارولد لاسكي». إلا أن أهم من كل ذلك كان قصص البريطاني سومرست موم الذي أعد الطيب صالح عنه برنامجاً إذاعياً، نشر لاحقاً في مجلة هنا لندن. ما ذكره في سياق عرضه لقصصه إنه فتن بطرائق نسجه للقصة وأنه تناول فيما تناول حكايات شائعة في بريطانيا وقام بإعادة صياغتها «قصصياً/ سردياً»، وأغلب الظن أنه حالما كتب «نخلة على الجدول»، سرعان ما توارت حماسته لموم وأطل بصوت قوي وناضج في أن يصوغ من ذاكرته قصة تشبه قعر ذاكرة السودان وخاصة «ترابلته» ورائحة وطعم أزمنتهم الاجتماعية التي خصها بكثير من «العناية السردية». منذ تلك اللحظة رفع الطيب إلى مراتب/ مقامات السرد ومدارج الساردين. -5- الطيب صالح من أدباء السودان، هكذا قدم في مجلة «أصوات» العدد الثالث من السنة الأولى «1691»، حيث نشرت إحدى أجمل قصصه «دومة ود حامد» والتي أدارها مترجمه فيما بعد دينيس جونسون- ديفيز وكانت تصدر من جامعة لندن. وعرف المحيط العربي، لأول مرة، أن هنالك صوتاً سردياً قادماً ليست له علاقة البتة بذاكرتهم وأن هذه لغة عربية لا تشبه، في أي مستوى من مستوياتها، صياغاتهم وأسلوبهم ونحتهم، فهنا رجل يفتتها وينسف قوالبها الراكدة ويستل منها ما يوافق مزاجه ويرسم لوحة لأهله صارت في تلك «القصة المحورية» إلى دفق أسس به الطيب لاختلافه وتميزه في أفق الكتابة السردية بل وأكثر من ذلك فإن الدلالة «الجغرافية والسياسة» تكشف، ولأول مرة، ان هنالك فناناً مبدعاً، فتح له في مقامات السرد، قد رصد «الحداثة»، وبكل محمولاتها الفلسفية والتاريخية. وتجلياتها في مكان مغرقٍ في بداءيته وعفوية أهله، في نص علامة فارقة زينت جبين ذكاء أهل السودان ونبلهم وأصالتهم. -6- هنا، لا بد ان نقف على سيرة الراحل والتي ربما ستظل ملتبسة لبعض الوقت، بمعنى أنها متناثرة ومتجلية في العديد من نصوصه، الإبداعية وكذلك موسوعته التي صدرت في تسعة أجزاء بالإضافة لحواراته العديدة في أجهزة الإعلام المختلفة، وأخيراً هنالك «على الدرب مع الطيب صالح «للصحافي الاستاذ طلحة جبريل وأخيراً جداً العديد من الأصدقاء، منهم من هم على قيد الحياة ومنهم من ينتظر: محمود صالح عثمان صالح وعثمان محمد الحسن وحسن أبشر الطيب. ولكن دعنا نندفع في أفق مادي لأن إرث الطيب المكتوب هو «النص الحيّ» الذي حمل فيما حمل طفولته وذاكرته وحياته ما ظهر منها وما بطن. أي نصوصه التي حددت قراءها بل شكلتهم منذ البداية، هذا بالإضافة المهمة للدكتور أحمد محمد البدوي «سيرة ونص»، الذي أزال الغموض والإلتباس وتقاسم معنا «القراء» همومنا وهواجسنا بنبشه الصارم في سيرة الراحل.