حدد يوم الثامن من مايو المقبل آخر موعد…الإتحاد السوداني لكرة القدم يخاطب الإتحادات المحلية وأندية الممتاز لتحديد المشاركة في البطولة المختلطة للفئات السنية    منتخبنا يواصل تحضيراته بقوة..تحدي مثير بين اللاعبين واكرم يكسب الرهان    سفير السودان بليبيا يقدم شرح حول تطورات الأوضاع بعد الحرب    المدير الإداري للمنتخب الأولمبي في إفادات مهمة… عبد الله جحا: معسكر جدة يمضي بصورة طيبة    تحولات الحرب في السودان وفضيحة أمريكا    هيثم مصطفى: من الذي أعاد فتح مكاتب قناتي العربية والحدث مجدداً؟؟    ماذا قالت قيادة "الفرقة ال3 مشاة" – شندي بعد حادثة المسيرات؟    ترامب: بايدن ليس صديقاً لإسرائيل أو للعالم العربي    تواصل تدريب صقور الجديان باشراف ابياه    رئيس مجلس السيادة القائد العام للقوات المسلحة يتفقد مستشفى الجكيكة بالمتمة    إيقاف حارس مرمى إيراني بسبب واقعة "الحضن"    مدير شرطة محلية مروي يتفقد العمل بادارات المحلية    شاهد بالصور.. بأزياء مثيرة للجدل الحسناء السودانية تسابيح دياب تستعرض جمالها خلال جلسة تصوير بدبي    شاهد بالصور والفيديو.. حسناء سودانية تشعل مواقع التواصل برقصات مثيرة ولقطات رومانسية مع زوجها البريطاني    شاهد بالصورة والفيديو.. شاب مصري يقتحم حفل غناء شعبي سوداني بالقاهرة ويتفاعل في الرقص ومطرب الحفل يغني له أشهر الأغنيات المصرية: (المال الحلال أهو والنهار دا فرحي يا جدعان)    مخاطر جديدة لإدمان تيك توك    محمد وداعة يكتب: شيخ موسى .. و شيخ الامين    خالد التيجاني النور يكتب: فعاليات باريس: وصفة لإنهاء الحرب، أم لإدارة الأزمة؟    للحكومي والخاص وراتب 6 آلاف.. شروط استقدام عائلات المقيمين للإقامة في قطر    قمة أبوجا لمكافحة الإرهاب.. البحث عن حلول أفريقية خارج الصندوق    «الفضول» يُسقط «متعاطين» في فخ المخدرات عبر «رسائل مجهولة»    زيلينسكي: أوكرانيا والولايات المتحدة "بدأتا العمل على اتفاق أمني"    مصر ترفض اتهامات إسرائيلية "باطلة" بشأن الحدود وتؤكد موقفها    سعر الدرهم الإماراتي مقابل الجنيه السوداني ليوم الإثنين    سعر الريال السعودي مقابل الجنيه السوداني من بنك الخرطوم ليوم الإثنين    سعر الدولار مقابل الجنيه السوداني في بنك الخرطوم ليوم الإثنين    نصيب (البنات).!    ميسي يقود إنتر ميامي للفوز على ناشفيل    لجنة المنتخبات الوطنية تختار البرتغالي جواو موتا لتولي الإدارة الفنية للقطاعات السنية – صورة    بعد سرقته وتهريبه قبل أكثر من 3 عقود.. مصر تستعيد تمثال عمره 3400 عام للملك رمسيس الثاني    نتنياهو: سنحارب من يفكر بمعاقبة جيشنا    كولر: أهدرنا الفوز في ملعب مازيمبي.. والحسم في القاهرة    صلاح السعدني ابن الريف العفيف    أفراد الدعم السريع يسرقون السيارات في مطار الخرطوم مع بداية الحرب في السودان    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    جبريل إبراهيم: لا توجد مجاعة في السودان    مبارك الفاضل يعلق على تعيين" عدوي" سفيرا في القاهرة    لمستخدمي فأرة الكمبيوتر لساعات طويلة.. انتبهوا لمتلازمة النفق الرسغي    عام الحرب في السودان: تهدمت المباني وتعززت الهوية الوطنية    مضي عام ياوطن الا يوجد صوت عقل!!!    مصدر بالصحة يكشف سبب وفاة شيرين سيف النصر: امتنعت عن الأكل في آخر أيامها    واشنطن: اطلعنا على تقارير دعم إيران للجيش السوداني    ماذا تعلمت من السنين التي مضت؟    إنهيارالقطاع المصرفي خسائر تقدر ب (150) مليار دولار    إصابة 6 في إنقلاب ملاكي على طريق أسوان الصحراوي الغربي    تسابيح!    مفاجآت ترامب لا تنتهي، رحب به نزلاء مطعم فكافأهم بهذه الطريقة – فيديو    راشد عبد الرحيم: دين الأشاوس    مدير شرطة ولاية شمال كردفان يقدم المعايدة لمنسوبي القسم الشمالي بالابيض ويقف علي الانجاز الجنائي الكبير    وصفة آمنة لمرحلة ما بعد الصيام    إيلون ماسك: نتوقع تفوق الذكاء الاصطناعي على أذكى إنسان العام المقبل    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    تداعيات كارثية.. حرب السودان تعيق صادرات نفط دولة الجنوب    بعد نجاحه.. هل يصبح مسلسل "الحشاشين" فيلمًا سينمائيًّا؟    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    الجيش السوداني يعلن ضبط شبكة خطيرة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



قراءة في أزمة وطن مزمنة..قضية- السودان....إلى أين المصير ؟ (3)
تصاعد مطالب الجنوبيين وتبديل قواعد اللعبة
نشر في الرأي العام يوم 10 - 01 - 2010

تصاعد مطالب الجنوب رغم ذلك التاريخ المأساوي ظل الكثيرون يرددون: «الجنوبيين عاوزين شنو؟». هذا السؤال العبثي ظل يترى رغم معرفة المتسائلين حق المعرفة ما كان يريده الجنوب في 15 ديسمبر قبل إعلان الإستقلال، وما كانوا يطالبون به عند إقرار الدستور في ابريل 1956، وما دعوا له في مؤتمر المائدة المستديرة، وما رضيوا به وتراضوا عليه مع الرئيس نميري في 1972. هذه التساؤلات اللولبية قادت في نهاية الأمر إلى كل ما حذر منه قادة الجنوب منذ الأيام الأولى للاستقلال، وما تبع ذلك من تصاعد في مطالبهم السياسية. اللولبية هي إستدارة الجسم حول محور ثابت، فما هو ذلك المحور الذي ظلت سياسة الشمال تتلولب حوله؟ في ظننا، أن الوحدة التي كان يتغيأها ساسة الشمال هي وحدة كتلك التي تجمع الحصان مع راكبه. هذا وضع يدفع الحصان كلما واتته الفرصة للتخلص من اللجام إلى البحث عن المزيد من الضمانات التي تكفل الوفاء بالعهود، وتستوفي حقوق المعاهدين. وهكذا دواليك، كلما إستمسك أولئك الزعماء بمحورهم الثابت، وأفكارهم المغلوطة حول فرادة السودان الذي لايصدق عليه ما صدق على غيره من الأمم، دفعت البلاد ثمناً أعلى. رفضت أحزاب الشمال، وهم على اليمين واليسار عِزون، الفيدرالية باعتبارها نقيضاً للوحدة، ولكن عادوا إلى ما هو أوسع نطاقاً منها: الحكم الاقليمي في مؤتمر المائدة المستديرة. كما أدى الفشل في تطبيق مقررات المائدة المستديرة إلى مطالب أوسع في مفاوضات أديس ابابا إنتهت بحكم ذاتي إقليمي توفرت فيه للجنوب حريات لم تتوفر له من قبل، بل لم يُحظ بها الشمال في ظل نظام مايو. مثال ذلك حق المجلس التشريعي الجنوبي في ترشيح رئيس المجلس التنفيذي وحجب الثقة عنه دون تدخل من رئيس الجمهورية ، فدور رئيس الجمهورية، حسب نصوص إتفاقية أديس أبابا، هو إعتماد قرارالمجلس دون تعديل أو تبديل. وفي نهاية الأمر، أدى إلغاء الرئيس نميري لذلك الإتفاق إلى بروز الدعوة لحق تقرير المصير، بصوت خافت في البدء، ثم علا من بعد ذلك الصوت وظهر. حق تقرير المصير، أقرت به أحزاب السودان «التقليدية» وقواه «الحديثة» في أسمرا، وكأنا بها قد سعت بذلك لأن تعالج مجتمعة بثمن باهظ الأخطاء التي ارتكبتها فرادى في عام 1955 حين لم يتجاوز الثمن الفيدرالية. وفي منتصف الستينيات من القرن الماضي تردد الإسلاميون في قبول نظام الحكم الإقليمي المحدود الذي أقره مؤتمر المائدة المستديرة، بل إستنكفوا حق الجنوبي في الولاية عند وضع ما كان يسمى الدستور الإسلامي بدعوى أن لا ولاية لكافر على مسلم، ولأياً عرفت تلك «الفئة الناجية» في مطالع القرن الجديد ان الولاية الكبرى في السودان متعدد الاديان هي حق لكل مواطن دون إعتبار لملته، كما أقرت أن للجنوب حقاً في أن يبقى متحداً مع ، أو منفصلاً عن، الشمال بإرادة أهله. رغم ذلك، لا يريد الواحد من أولئك الواهمين بلا جدوى، أن يعترف بالعُلقة السببية بين فعل الأمس ورد فعل اليوم، وفي ذلك زوغان عن الحق، وجور في المنطق. الجور في المنطق تبعه ايضاً هَربانٌ من الحقيقة، ولا يهرب من الحقيقة إلا من يشتد ذعره منها. فمنذ منتصف ثمانينات القرن الماضي أخذت بعض الأحزاب السياسية وبعض المثقفين الشماليين في إنشاء العديد من الدراسات والمقترحات حول الفيدرالية بوصفها النظام الأكثر ملاءمة لحكم السودان. وحتى لا ينسب هؤلاء الفضل لغيرهم جاء الحديث عن الفيدرالية وكأنها الهام، أو نور قذف الله به في القلوب كما كان الإمام الغزالي يقول عن العلم اللدني. هذا التحول الرؤيوي، أو ان شئت اللدني، لم يفرضه أى تحول مادي أو معنوي في السودان حتى تصبح، بسببه، «مزايا» الفيدرالية أكثر من «مضارها». وفيما بين اعتبار الفيدرالية أمراً ضاراً بوحدة السودان، واكتشاف مزاياها في توحيد البلاد، دخلت البلاد في حروب عديدة ، وفقدت موارد عزيزة ، وأضاعت فرصاً للتنمية لا تُحصى دون أن يتحمل أحد المسئولية الأدبية عنها. السودان .. ياهو ده السودان سودان عام 1956 (عام الإستقلال) لم يتبدل كثيراً عن سودان 1965 (عام مؤتمر المائدة المستديرة). وسودان (1983) عام إلغاء نميري للإتفاقية بتحريض ممن تعزز بهم من معارضيه السابقين من الإسلاميين والحزبيين الآخرين الذين جاءت بهم المصالحة، لا يختلف كثيراً عن سودان مطلع القرن الحادي والعشرين، عام إتفاقية السلام الشامل. هو أيضاً نفس السودان الذي يقع بين خطي العرض أربعة (4) إلى إثنين وعشرين (22) درجة شمالاً وخطي الطول إثنين وعشرين (22) إلى ثمانية وثلاثين (38) درجة شرقاً، لم يتحول أبداً عن موقعه. كما هو ذات السودان الذي تسكنه قبائل الدينكا والنوير والشلك في الجنوب، ويسكنه النوبيون والجعليون ببطونهم المختلفة في الشمال، ويسكنه النوبة والبقارة والأباله في الغرب، ويسكنه البجة بأفخادهم المتعددة في الشرق بل أن بعضاً من هؤلاء مازالوا على الحال التي كانوا عليها منذ أن أنشأهم الله في الأرض واستعمرهم عليها. هو، دون شك، ذات السودان الذي ما فتئت تغالب فيه طائفةً سياسية، طائفةً أخرى وتنازع الواحدة منهما الأخرى في غير منزع. كما هو السودان الذي ظل فيه من عصم ربي من صراعات السياسة يتلهى بمبارزات أخرى في عالم الافلاك: الهلال ، المريخ ، الزهرة، ولم يهدهم الله، بعد، إلى كواكب أخرى في المجرة. ما الذي حدث، إذن، حتى يستوجب في عام 2005 تحقيق ما أعيا الناس - نفس الناس تحقيقه طوال نصف قرن من الزمان ؟ أو ليست الفيدرالية هي ما نادى به بنجامين لوكي عند وضع اللبنة الاولى للإستقلال ؟ او ليس حق تقرير المصير والإنفصال هو ما أنذر به الأب ساترنينو ان لم تتحقق الفيدرالية ؟ أو ليس الخيار الفيدرالي هو الذي إستعاده وليام دينق للذاكرة الجمعية في مؤتمر المائدة المستديرة فرفضه بعض وأغضب آخرين غضباً جماً حملهم على إغتياله. بل أو ليس الدستور الفيدرالي هو ما بشر به الأستاذ النصيح محمود محمد طه وصاغه في مشروع دستور أسماه دستور السودان الديموقراطي الإشتراكي الفيدرالي في 15 ديسمبر 1955. عقب الحرب العالمية الثانية ، قال السير ونستون شيرشل عن إخوته في الشط الغربي من الأطلسي: « الأمريكيون قوم يمكن الإعتماد عليهم دوماً لإتخاذ القرار الصحيح وفعل العمل الصائب ، ولكن فقط بعد استنفاد كل الخيارات الفاسدة» . هل نستطيع القول بأن حكم شيرشل على الأمريكيين يسرى أيضاً على الذين أمسكوا ويمسكون بمقاليد الحكم في الخرطوم منذ الاستقلال ؟. نرجح هذا، ولكن مع فارق. فقد أثبتت التجارب أن الطبقة الشمالية الحاكمة لم تتخذ أي قرار صائب في موضوع الجنوب الا بعد أن حُمِلت على ذلك، ثم سرعان ما أرتدت إلى عوائدها القديمة متى ما ظنت أن إستقراراً نسبياً ساد الجنوب دون إستبصار لما تحت الرماد من وميض نار. لقد فعلها من قبل الرئيس نميري رحمه الله، ويسعى آخرون لفعلها اليوم. تبديل قواعد اللعبة بروز الحركة الشعبية لتحرير السودان في عام 1983م هو بداية مرحلة جديدة تبدلت فيها قواعد اللعبة بصورة جذرية ، كان ذلك فيما يتعلق بالرؤية لجذور المشكل السوداني، أو الوسائل التي تتحقق بها تلك الرؤية. ورغم أن المفجر المباشر للثورة التي أشعلتها الحركة هو تداعيات إلغاء الرئيس نميري لإتفاق أديس أبابا، خاصة فيما يتعلق بتكوين القوات المرابطة في الجنوب، إلا أن قرنق لم يقف في إطروحته الجديدة عند معالجة اخطاء الرئيس الراحل، بل ذهب لتحليل تلك الأخطاء كجزء من، أو إمتداد، لأخطاء سبقتها، أي ذهب إلى تحليل «الحالة السودانية» منذ الإستقلال. تلك حالة كادت السموات يتفطرن منها ، ولكن أهل الأرض إستسلموا لها وبقيوا بها راضين. وتجدر الإشارة إلى أن ضابط الانانيا الصغير جون قرنق، والذي كان واحداً من الضباط اللصيقين بجوزيف لاقو، قد إعترض على توجهات قائده نحو السلام فعزله القائد من وفد التفاوض في اديس أبابا. لم يكن قرنق يومها يعترض على مبدأ السلام، وإنما على منهج الوصول إليه. قال لقائده أن إستدامة أي سلام يقتضي أخذ التجارب السالفة في الإعتبار، كما يتطلب إخضاع الإتفاق لمشورة شعبية وتوفير ضمانات وثيقة لإلتزام طرفي الإتفاق بما تعاهدا عليه. وعندما عاد قرنق ليلتحق بقوات الأنانيا التي أدمجت في الجيش سأله لاقو: «ما الذي اعادك؟»، قال «مازلت عند رأيي في أن الإتفاق لن يكتب له النجاح ولكني أردت أن أغلب الشك لمصلحة الإتفاق، وسنرى». وقد رأى ورأينا. الغايات والوسائل الأطروحة السياسية التي جاء بها قرنق رفضت منذ البدء، إنفصال الجنوب عن الشمال كحل لما يسمى «مشكلة الجنوب» لسببين: السبب الأول هو أن تلك المشكلة المُدعاة هي نتاج للمشكل السوداني ككل. والسبب الثاني هو أن مطالبة الجنوبيين بالإنفصال هروب في رأيه، بل هو تعبير عن عقدة نقص. لهذا أسمى قرنق إنفصاليي الجنوب «الجماعات التي إرتضت إختصار نفسها في نويع بشري إقليمي متحجر (a fossilized regional human sub - specie). فالسودان، في رأيه، مِلك لكل اهله في الشرق والغرب، والشمال والجنوب. الحل عنده، لكيما تكون وحدة، إضمامة من الشروط أهمها: الاعتراف بتنوع السودان، الفصل بين الدين والسياسة، الاقتسام العادل للثروة وصولاً للقضاء على التهميش الاقتصادي والاجتماعي ، إنشاء نظام حكم لا مركزي يُنهي الهيمنة القابضة للمركز ويُخول السلطات إلى المستويات الادنى للحكم بحيث يصبح توفير الخدمات أكثر سهولة ومواتاة ، وأخيراً إبتناء وحدة القطر على الإرادة الحرة لكل السودانيين. وفي واقع الأمر فان أول دم أريق في معارك الحركة الكُثر دم جنوبي: دم رفاقه في الأنانيا الثانية الذين أرتأوا أن وحدة السودان ينبغي أن لا تكون هدفاً يموت من أجله الجنوبيون ولهذا فمن الخير أن يتفرغ المحارب الجنوبي لفصل الجنوب. ولكن تقتضي الأمانة العلمية أن نضيف أن بين رفاق قرنق الذين راحوا في تلك المعارك كان أيضاً بضع أفراد قادهم إلى حتفهم الصراع على السلطة. أجندة عملاقة كتلك التي دعا لها قرنق لا تتحقق الا بوسائل فاعلة. وفي هذا كان الراحل يردد يستشهد كثيراً بالقانون الاول والثالث لنيوتن حول الحركة (motion) (جون قرنق: رؤيته للسودان الجديد وإعادة تشكيل الدولة السودانية تحرير وترجمة د. الواثق كمير). يقول القانون الأول أن الجسم يظل على حالته الحركية، إما سكوناً تاماً أو تحركاً في خط مستقيم وبسرعة ثابتة، ما لم تؤثر عليه قوة تغير من هذه الحالة. أما القانون الثالث فيقول: «لكل فعل رد فعلٍ مساوٍ له في المقدار ومعاكس في الاتجاه بشرط ان لا يلحق بمن تلقى الفعل أي عامل سلبي يؤثر على رد فعله». ما الذي كان يعنيه قرنق بهذه المقاربة بين الحالة السودانية وأحكام نيوتن حول فيزياء الحركة. أراد أن يقول أنه لو سارت الإمور في السودان على نسق واحد ستستمر في السير على ذلك النسق حتى تكبحها قوة أشد وطأة. ولاشك أن الذي كان يتحدث عنه ليس هو قوة جماعة ضد جماعة اخرى، وإنما قوة تيار جديد يملك القوة لحماية نفسه في ذات الوقت الذي يُغَير فيه من نسق سير التيار القديم الذي مَرِئه البعض ولم يحسب حساباً لسوء عاقبته. صدور هذه الرؤية من قائد جنوبي ومن حزب يمثل الجنوبُ قاعدةَ إنطلاقه هو، في حد ذاته ، تبديل في قواعد اللعبة. على أن تحقيق الغايات الطامحة يستلزم وسائل تتوازى مع الطموح. هذا هو ما حمل قائد الحركة على إبتداع حزمة من أدوات النضال منها المسلح كما منها الدبلوماسي والسياسي، بل منها أيضاً الإصطلاح مع الخصوم على مخرج صدق عبر التفاوض. لهذا، من سوء التقدير الظن أن إفلاح الحركة في الوصول إلى الإتفاق على حل ناجع للمشكل السوداني كان لبراعتها في التفاوض، أو لقوة الدفع التي وفرها الوسطاء الخارجيون لذلك التفاوض. فالاتفاقيات لا تتحقق ابداً بفضل حذاقة المفاوضين، أو مهارة الصائغين، أو دفع الخارج. فالوسطاء الخارجيون، مثلاً، ظلوا يتدافعون للتأثير على هذا الطرف أو ذاك منذ منتصف ثمانينات القرن الماضي، ومن بينهم وسطاء من ذوي الوزن الثقيل: الرئيس موي، الرئيس جيمي كارتر، الجنرال أوباسانجو، الرئيس نلسون مانديلا، الرئيس حسني مبارك، القائد معمر القذافي، الوزير الهولندي يان برونك، إلى جانب آخرين. الحقائق السياسية والعسكرية التي فَرضَت نفسها على أرض الواقع هي التي جعلت، في نهاية الأمر، اللقاء للتفاوض الجاد ممكناً. لانريد بهذا الإنتقاص مما قامت به كوكبة من النابهين من
كلا الطرفين في المفاوضات وإنما لنكشف عن التبسيط، بل التسطيح، في مقولات القائلين أن الإتفاق صناعة خارجية.

انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.