فيما أتنقل بين محطاتي، أهداني أخي القاص، عمر الحويج مجموعته القصصية الأولى والأخيرة ( إليكم أعود وفي كفي القمر )، الصادرة في مائة صفحة، عن دار عزة للنشر والتوزيع، فوجب الشكر علينا. حكايته معي ذكرتني بأهل القرى المنتثرة على جانبي الطريق من الخرطوم إلى قلب الجزيرة الفيحاء. أولئك حين يأتي رمضان يقطعون على المسافرين دربهم بكرم مسلّح بالضيافة الحارة، والشمس تميل إلى الغروب. يلتمسون البركة والمثوبة يغشاهم الصوّام. يتم القِرى على جانبي الخط السريع. يطيب المقام بالعصيدة. باللبن. بالبليلة. بالشاي والقهوة. يعذب الأنس ويحصل البسط والانشراح. ثم يلح أهل القرى أن يقضي الظاعنون الليل معهم: الدنيا ملحوقة. يتراخى المسافرون إلى قبول دعوتهم متكئين على مساند أو مفارش لولا أن البعوض يلسع الأطراف والرقبة. يهرعون إلى مطاياهم، لكن ذلك البعوض يواصل الركوب معهم. يلازمهم في الحل والترحال لا يفارق. يترنم: في الضواااااحي وطرف المدااااائن. تجده تحت الكنب في الحافلات رطبة ويابسة. ويعرفك مستوياً بساقين تتدليان. أوصيكم ونفسي بلبس جوارب السفر ريثما يتم تركيب طفايات البعوض بالمركبات بدلاً عن طفايات الحريق. هذه رشة أولى لابد منها. قُطع عليّ الطريق بهذه المجموعة فتمهلت شيئاً. قضيت ليلتي قارئاً الهدية. هذا الإهداء نفسه صعّب مهمة التناول حتى بدا لي أن أقول خيراً أو أصمت. وفوق ذاك حصّن صاحبي كتاباته بعنصرين من المحترفين العبادلة: ( جلاب وعلي إبراهيم ) وثالثهما أحمد عبد المكرم. ولما حاله حشْد هذه الكوكبة في الدفاع، لم يكن ميسوراً أن أنفذ إلى المرمى إلا تسللاً وخلسة. بدا لي هذا التقديم مأخوذاً عن سوق التعلم والعمل، حين يُصار إلى طلب تزكية تشفع وقت رفع الأوراق. مازحت الكاتب أن الكلفة مرفوعة، وله حق العودة إلى مريديه متى أراد حولاً بعد حول. بيننا وبينه، في سوق الأدب، يفتح الله ويستر. لم تخل فاتحة التقديم، على كل حال، من فوائد جمة، أقلها أن عطّرنا الأساتيذ الكرام بعطرهم، قبل رشنا. جلوا بأقلامهم بعض ظلام أحاط. الدكتور جلاب دهن خلفية مسرح المجموعة بطلاء شرقي، وإبراهيم الدكتور وقد كان من أهلها أعطانا معتذراً: ( فهذه مقدمة لم أرد بها غير وضع اسمي على كتاب لصديق قديم عشقنا على عهد الباكر فن القصة وكتابتها في سياق حلم بأن نمتلك العالم ). ذلك الحلم الذي سوّق له الفيتوري، وجيّره. قضى في صكه الشعري بأن دنيانا يملكها من لا يملكها، سادتها الفقراء. أعلى كفتهم وتوّجهم سلاطين. استأنف الأغنياء الحكم عليهم: رفسوا الأرض. برطعوا. ناطحوا السحاب. أخذوا النجوم، فباعدت المسافة. دفعوا.. أن الحكم عليهم غير ملزم، وما تنفيذه إلا برضا الطرفين. وحتى يتم التراضي فعلى السادة الفقراء تناول ذلك الشعر منقوعاً ( حلواً مراً ) . عبد المكرم من جهته أورد حين نُودي للشهادة: ( اللافت في قصص عمر الحويج .. تلك القدرة المدهشة على تقطير التجربة الإنسانية عبر أدوات القص الناجز... ). تُرفع الجلسة للتأمل. بصعوبة تسللت بين غلافي الكتاب، ووجدتني كمن يمشي على طريق طويل غير مرصوف. لفت نظري تواريخ النشر الملحقة بالقصص حتى أنها نحت العناوين عن ذاكرتي. السنوات كما أعمدة الهاتف على درب العمر. تأمل هذه القوائم والتباعد بينها (1964/ 1965/1969/ 1973/1995/2008 ). سنوات قطعها الحويج برفقة المسافر في قصة المطارات. كتب: ( حزمت حقيبتي.. حملت جواز سفري.. وتأبطت كتابي، هي أشيائي التي سترافقني في سفري هذا.. متعدد المحطات. وغادرت ). كشف الحساب يقول بأن عمر قد أنجز مائة صفحة على مدى أربعة عقود ويزيد. وله لا شك انجازات أخرى. ربما امتلك عقاراً، أطياناً، ورصيداً في بنك الحياة. كفة المقبوضات والمصروفات لا تخلو هي الأخرى من استحقاقات له وهموم عليه. ذلك جله لا يعنينا وإن كان عصب الحياة. نثمّن جداً هذا المقبوض بأيدينا. أليس عجيباً أمرنا أن نعنى بهذه الهوامش ولا نحفل بالمتون، الأطيان، الزرع، والأرصدة؟ الجيل الحالي قد لا يجد الطعم على اللسان في قراءته تلك النصوص. لا ينحازون لها مثلما نحن. يحتاجون إلى عون. الشريف قاسم ينفعهم، لإجلاء ما عَمِي من مفردات، وما غمض من كلمات. وفي هذا المقام فيما أحس ليس مرغوباً الإفراط في العامية. ذلك شأن محلي، محدود الأثر، ضحل المياه. ظني عمدتنا المحبوب: الانفتاح على الآخرين جيئة وذهوباً على طرق سريعة، وبين هنا وهناك، تسديد، مقاربة، وبين بين. قصصنا حدثت في غابر السنوات إلا واحدة تأخر ميلادها. بعضها أنجبته القرية، أخريات وُلدن في المدينة، وثلة ( في الزمن الذي كانوا ينتزعون فيه الطفل من رحم أمه المعلقة على الحبل.. ) ص ( 57 ). على الأقدام مشوا. الدراجات ركبوا والحمير. القطار مضى. الباخرة مخرت. الطائرة أقلعت. على مدى نصف قرن بعد الاستقلال جرت تحت الجسر مياه كثيرة، نميرة ودميرة . ما تغيرت الأيام في حر الصيف وبرد الشتاء. مطر الخريف وزهر الربيع، ولكنا تغيرنا. تبدلت المفردات والعملات. من عملات الأمس المتناثرة في قصص المجموعة: ( الشلن. العرضة. العنقريب. الفوانيس. كسرة بايتة. العطشجي. اللمبة أم عوينة. السقو. الرتينة. البمبر. القرقاب... ). كما قطار على قضبان تنزلق الجمل. هذه محدثات جلبها الصحافيون. الإرث اللغوي، قبل خلافتهم، كان وضع النقط على الحروف وتحتها. لكن سواداً كثيراً من الكتاب نثروا النقاط بين الجمل. أهملوا إلا القليل منهم الشولة السادة، والأخرى المنقوطة. لا تعجب، لا استفهام ولا ملح طعام. هجروا لوازم أخرى مهمة. جعلوا النقطة نقطتين فاتصلت كتاباتهم خرزاً ودرراً. تحبيرهم الورقَ قطارُ الحروف يمضي على سكة حديد هكذا: ( .. .. .. .. .. .. ). تأمل هذه العينة على قضبان المجموعة: (هو.. الذي يستثيرهم.. بصمته ويستفزهم، يخيفهم.. بغضبه، وإن كان، صمته.. لا يفصله، عنهم.. بل يجعله قريباً منهم، فغضبه يبعده عنهم.. يختفي عنهم، بالأيام.. ). هل هو التحرر من قيود اللغة، أم موضة هذا الزمان؟ أفي اللغات الأخرى مثل صنيعنا، أم الأمر تجديد؟ كلمات الحويج يكررها بإصرار حتى تضئ، مثل من يقدح عود ثقاب على ظهر تمساح خشن: ( الطفل.. إنه يعود.. إنه يمشي.. إنه يجلس.. إنه يقف.. إنه ينظر.. إنه.. إنه.. ). يكررها حكاية مكواة فحم. ينفض رمادها. يوقد جمرها. ثم يكوي بها القصص حتى تستقيم. أثر قلمه على الصفحات: ( هو.. الذي يركض، ويركض، وجهته الأفق البعيد.. هو يركض، وكلبه يركض خلفه.. هو، الذي يركض، وكلبه، هو الذي يلهث.. ). الفن مكواة بشرط ألا تحترق الثياب بجمرة تسقط أو تتلوث برماد. وبعض الكتابة أعواد ثقاب تتوقد أو تخبو. بهذا القدح والكي تتوهج بعض قصص المجموعة، وبعضها بالكاد. أخذتني القصص الأولى إذ استوت سليقة بعيداً عن الصنعة والدسم: ( حين اشتد بهم الفقر أكثر، قررت أمه، أن ترسله إلى الخرطوم، أودعته يومها القطار، ووقفت بعيداً عنه، تحتضنه بعينيها، والدموع تحجب عنها شبحه، فلا تراه كما ترغب، وحين بدأ القطار في إعلان تحركه، مطلقاً صافرته: تذكّر لحظتها.. الفتى الصغير حضن أمه الدافئ.. والحنون، وهذا ما دفعه والقطار يتحرك، أن يحاول الارتماء، على هذا الحضن، ولكن الأرض الصلبة هي التي احتضنته، وكان دم.. وجرح غائر في جبينه.. لا يزال. ضمدته أمه بحفنة تراب.. وبعض أعشاب، وأودعته بعدها قطار اليوم الثاني. ) كان ذلك في عام 1965م. متعتها أن الكاتب كان يغرف وهو مقبل على الحياة. مبهوراً ليس يدري ما يدخره القدر من مفاجئات الطريق. وبعد أن يصبح العالم قفا يفقد الإنسان الطعم. لا شيء يدهش. لا شيء يحزن، كما لو كل الأمور سواء. السنوات سلسلة الظهر الفقرية وهنت. توجع هذه المجموعة كما غضروف. يحتاج التعافي إلى زمن وعلاج طبيعي طويل الأمد حتى تسكت الآلام. يعود عمر والعود أحمد. ظنه أن يتمدد هانئاَ على ( عنقريب ) مرتخي الحبال. يشرب القهوة مع الغالي ( تمر السوق ) وقت الشروق. سوق ( التلاتة )! هيهات يا صديقي. الأطباء يوصون بالرقاد على مسطح. وصفتهم الخشب. وإذ أنت تعود لعلك تلمس الفرق أوان الغروب. زمن الصبا كنت ترتع مقبلاً على جبل الحياة أمامك شامخاً. واليوم أراك ترنو من أعلى سقف العمر. لعلك تكتب العشية شيئاً، إن وجدت الشهية. أو أنت تبني بيتاً في الوادي الأخضر. عنوان المقال ونجومه سقطت عليّ من رف لقصة في المجموعة، يتمتع فيها ( أحمد ) بعنقريب، يرقد عليه بمفرده منذ أن سافر أخوه الأكبر إلى الخرطوم ليلتحق بالجامعة.. الآخرون كل اثنين في عنقريب. ص ( 82 ). كم كانت الدروب صعبة وقتذاك، والسكة حديد. الحياة قابضة والنفوس منشرحة. ثم إني يعلم الله احترت في العنوان كيف يكون: أجلست السرائر وهي ضيقة على السرر الفسيحة. ولما أصبح الصباح وجدتها في السُفل، فتركتها سباتها الذي ترون. حين توقظها شمس الضحى تتزحزح. اليوم ثمة سرر شواغر، كثيرة، متسعة، وبرغم ذلك يرفس بعضنا بعضاً. تقاربنا: ( زح من جنبي ). سلامنا: ( محارباك ما تكلمني ). أنسنا: ( ضيّقت خلقي ). وفاؤنا: ( يا خائن.. سرقت قلبي ). غرامنا: ( أنا الليل وأنت النجوم. أنت الضحك وأنا الهموم ). صحفنا خمسون. أحزابنا ستون. جنيهنا سبعون. عاصمتنا خرطوم. نشرة الأحوال السياسية في أبريل: ارتفاع الموج متر ونصف متر. الحلم امتلاك العالم. إني أتوجس خيفة: الشجر يسير. المطر غزير. البحر لجي. أهي كذبة؟ نكون أو لا نكون؟ تلك هي المسألة. ثمانون. تسعون. مائة كاملة، فهلاّ بعد التعب انجمينا؟ عجيبة قصصنا القصيرة. وأكثر عجباً منها، رواية هذا الكون، الذي ناموسه يتمدد يتمدد. والإنسان فيه يسعى ملسوعاً، ليس يسعد.