دفع الأستاذ محمد سعيد محمد الحسن الإعلامي اللامع، والصحافي المتميز ضمن طاقم أسطول الصحيفة، للمكتبات مطلع الشهر الجاري بسفره الجديد والمتميز: (الانتخابات العامة في السودان وقائع نوفمبر 1953 ، ملامح أبريل 2010م). وتأتي أهمية الكتاب الذي قدم له البروفيسور علي شمو الخبير الإعلامي المعروف لتزامنه والانتخابات التعددية الشائكة في أبريل، ومقارنتها بالتجارب الإنتخابية الفائتة، وإرتكازاً إلى وعي المواطن السوداني الذي يمثل رأس الرمح في عملية التحول الديمقراطي. (الرأي العام) وعلى عجالة تحاول استعراض الكتاب وتسليط الضوء عليه في حلقات متسلسلة أعدتها للنشر، بغية المساهمة في خروج الإنتخابات حرة ونزيهة وآمنة. ----- العملية الانتخابية بين الاهانة والاستهانة أكثر ما يعكس صحة المقولة المتحدثة بعودة قيادات وقوى متباينة وولوجهم مباشرة الى الساحة السياسية بعد غياب مطول وكأنهم كانوا في فلك بعيد وعادوا، وكأنما الأرض لا تدور والزمن لا يتقدم، عادت الممارسات والمناورات والتقلبات التي عرفها السودان في حقبة الخمسينيات وتجاوزها في فترة الستينيات، بدفعة أكبر وبشكل أكثر حدة في العام 2010م. في 2010 تجري أهم وأخطر انتخابات عامة في تاريخ السودان الحديث بموجب إتفاقية السلام الشامل والتي نصت على فترة إنتقالية لتمتد ل (6) سنوات ودستور إنتقالي وحكومة وحدة وطنية وأعطت بسخاء الحركة الشعبية في الجنوب ثروة وسلطة شبة كاملة، الى جانب مشاركة في حكم الشمال وقيام مفوضيات منها مفوضية الانتخابات العامة لإجراء انتخابات عامة في السودان في منتصف الفترة الانتقالية في فترة اقصاها 2009م.. ولكن التداخلات ومناورات الشد والجذب وصناعة التوتر دفعت بالموعد الى أبريل 2010م. ومع الفسحة المتاحة أمام كافة القوى السياسية الكبيرة كشفت بادائها وأحاديثها وكأنما فوجئت أو صدمت بها وأخذت تمهد الى ما أسمته خيارات وبدائل أو سيناريوهات أو الى المقاطعة أو التشكيك مسبقاً في مدى حيدة ونزاهة وسلامة الانتخابات العامة والتي أخذ العالم كله عبر الفضائيات والاعلام المتقدم في متابعتها منذ تشكيل المفوضية برئاسة شخصية قانونية ذات حنكة وخبرة وشغلت مناصب متعددة من نائب في البرلمان الى وزير الى رئيس حكومة الإقليم الجنوبي الى نائب رئيس الجمهورية السيد أبيل ألير وبجانبه الأكاديمي الكفء ورئيس مجلس إدارة جامعة الخرطوم والوزير الحاكم لعدة سنوات في الاقليم الشمالي البروفيسور عبد الله أحمد عبد الله نائب رئيس المفوضية، وكذلك الخبير والاداري المعروف الأمين العام للمفوضية الدكتور جلال محمد أحمد، وبحضور مباشر من أجهزة المجتمع الدولي والاقليمي والمراقبين والمستشارين وتمويل يفوق المليار دولار وتوفير أجهزة حديثة متقدمة لمراقبة ومتابعة العملية الانتخابية بما فيها التسجيل بحيث يمكن بسهولة كشف اسم الناخب حال ظهوره مرتين في موسكو أو في الكوة، ومع ذلك تساق بمثابرة أقوال للتشكيك في نزاهة الانتخابات العامة في هذا الحجم من الرقابة، وكأنما تعترف هذه القوى السياسة مسبقاً بعجزها وضعفها في مواجهة ذكاء ومقدرة الآخرين سواء المؤتمر الوطني أو غيره على تزوير نتائج الانتخابات لصالحها. ثم جاء مشهد الترشيح لرئاسة الجمهورية وقدمت أحزاب حكومة الوحدة الوطنية والتي تضم التجمع الوطني مرشحها المواطن عمر البشير لخوض الانتخابات المفصلية وكان اللافت ان الحركة الشعبية الشريك مع المؤتمر الوطني بنص إتفاق السلام أقدمت على ترشيح أحد رموزها السيد ياسر سعيد عرمان (من المحرر: انسحب لاحقاً) والذي أعتبرته منافساً لرئيس الجمهورية ورئيس الحكومة الوطنية ورئيس المؤتمر الوطني الذي خصصت له إتفاقية السلام (52%) في السلطة والبرلمان ومؤسسات أخرى، والأهم من ذلك هو الرئيس النافذ الذي أقر المضي في المفاوضات الصعبة والشاقة وحسم كل أزمة في وقت الحرب وبعد إحلال السلام. وربما أخذ على الرئيس أنه أعطى الحركة الشعبية أكثر مما تستحق ويتجاوز وزنها وقدراتها الفعلية وربما تجاوز حساباتها ومفاهيم (وتقاليد الشراكة)، الى مواقف صعبة خاصة مع إنتقال الحركة إلى خانة الخصم إبان الحملة الانتخابية وليس كشريك. عرمان والقول الجهير السيد ياسر عرمان أعتبر منافسته وإختياره من جانب الحركة الشعبية بمثابة (هدية) للشمال والذي يعرف أن لأهله ثوابت وسوابق وتجارب وحنكة قادرة على النفاذ وتفصح أحيانا في الصمت بأكثر من القول الجهير. وتجاه هذا النوع من الخروج، يجوز القول إن الحركة الشعبية ربما التفتت الى قرار المؤتمر الوطني بمساندة رئيس الحركة الشعبية الفريق سلفاكير ميارديت لانتخابات رئاسة حكومة الجنوب على أنه مناورة، وفسر الأمين العام للحركة الشعبية السيد باقان أموم قرار شريكه بأن المؤتمر الوطني فشل في إيجاد منافس لحكومة الجنوب وأوشك على القول بأن الحركة الشعبية أفلحت في تسمية رمز من جانبها السيد ياسر عرمان لمنافسة الرئيس عمر البشير الذي سلمها إدارة الجنوب بأكمله وأشركها في حكم الشمال على مستوى السودان كله طوال الفترة الانتقالية طيلة ال (6) سنوات، بل ومضى الى أبعد من ذلك وتعهد في إحتفالات يامبيو على المضي في ما تبقى من نصوص إتفاقية السلام الشامل وإجراء الاستفتاء وتقرير المصير في 2011 والقبول بخيار أهل الجنوب والاعتراف بالاستقلال إذا صوتوا للانفصال مع الالتزام التام بانتخابات حرة ونزيهة وشفافة بحضور ومراقبة المجتمع الدولي والاقليمي، وفي نفس الوقت مناشدة كافة القوى السياسية السودانية للانخراط في العملية الانتخابية وطرح برامجها لصالح الوطن وأهله. لقد تخلت الحركة الشعبية عن مفهوم الشراكة والمسؤولية المشتركة استناداً الى نصوص اتفاقية السلام وقررت منافسة مرشح أحزاب حكومة الوحدة الوطنية، والرئيس الذي فتح لها أبواب السلطة والثروة وحق تقرير المصير وتعهد بالايفاء بمستحقاته واستخدمت ردا يفتقر الى الحصافة بقول الأمين العام السيد باقان أموم: (إن المؤتمر الوطني فشل في تقديم منافس لرئيس حكومة الجنوب الفريق سلفاكير) وهو يعلم أن الشريك بمقدوره تقديم منافس أو على الأقل يمكن دعم قيادة سياسية بارزة كالدكتور لأم أكول، ولكن مسؤولية (الشراكة الناضجة) حتمت مساندة الفريق سلفاكير. وجاءت المفارقة الأخرى للحركة الشعبية أنها تنكرت لقوى إجماع جوبا 30 ديسمبر 2009 التي استخدمتها في الضغط والتسريع لإجازة قوانين الاستفتاء وتقرير المصير ثم تخلت عنها تماماً والتفت الى شأنها وحدها كما فعلت بالتجمع الوطني الذي طوعته لأجندتها ورفضت مشاركته في نيفاشا. بيد أنه يمكن الكشف الآن، بأن رئيس التجمع الوطني السيد محمد عثمان الميرغني هو وحده الذي وقع إتفاقية جدة ثم القاهرة مع النائب الأول الأستاذ علي عثمان محمد طه بدون الالتفات أو إخطار مسبق للحركة الشعبية، وقد أدرك الراحل د. جون قرنق مغزى هذا الموقف وحاول اللحاق بالمفاوضات بالقاهرة والقيام بدور ما، وفعلا أتيح التوقيع لدكتور جون كشاهد على وثيقة مشاركة التجمع في المفوضية القومية للمراجعة الدستورية. أقوال ومواقف: ويمكن القول بأن قيادة الحركة الشعبية من واقع الأقوال والمواقف تجنح بما يمكن وصفه بالتجاوز الحاد والاستخفاف في الممارسة السياسية، ولكن هذا لا يقتصر عليها وحدها وهي حديثة عهد بالممارسة السياسية والانتخابية بوجه خاص في سوابق وثوابت العمل العام في السودان وهو أمر لا يقتصر عليها وحدها ويتعداها لأحزاب ذات خبرة وعراقة، فماذا يمكن أن يقال عن أداء حزب عريق كحزب الأمة أو حليفه القديم الحزب الشيوعي السوداني؟ دقت طبوله ولم يعد مسكوتاً عنه من المفارقات أن إتفاقية السلام الشامل التي أقرت في نصوصها صلاحيات وسلطات الدولة المستقلة حيث منحت الجنوب الدستور والقانون والبرلمان والحكومة والجيش والشرطة والقضاء والخدمة المدنية والبنك المركزى والعلاقات الخارجية ثم نصت بنهاية الفترة الانتقالية ليجرى استفتاء عام، والجنوب (في واقع الحال الآن يعتبر دولة مستقلة باستثناء العلم، ويستخدم عوضاً عنه الآن علم الحركة الشعبية). وفي الفترة الانتقالية التي مضى نحو ثلثيها انطلقت وتدافعت أحداث وتطورات وتغيرات كبيرة وكثيرة بما فيها أزمات حادة بين الشريكين جعلت من الشراكة مشاكسة، ما تكاد تطوق أزمة أو مشكلة حتى تنفلت أخرى أشد ضراوة، ونظمت مداولات وندوات لخبراء وأكاديميين وسياسيين بمختلف مشاربهم إنتهت الى نتيجة تفضى الى ما يشبه القناعة أن مشروع الوحدة الجاذبة بين الشمال والجنوب قد طوي وفشل بسبب المشاحنات وأسلوب الشد والجذب، وأحيانا إنعدام الثقة الى جانب غياب الارادة السياسية النافذة لتطبيق المكونات الحيوية في إتفاق السلام الشامل، وبات الرأي العام في الجنوب أكثر ميلاً وجاهزية في حسم علاقته مع الشمال وأصبح مع خيار الانفصال. وملف «الشرق الأوسط» في تناوله لقضية الوحدة والانفصال ينقل بتركيز شديد مواقف الأطراف المعنية وآراء وكتاب ومراقبين قانونيين وأكاديميين طرحت علناً تجاه أخطر قضية في السودان وتمثل المهدد بالفصل والتجزئة والفشل في الحفاظ على الوحدة. ويمكن وبوضوح الامساك بموقف الحركة الشعبية الشريك في السلطة وفي إتفاقية السلام الشامل من خلال تصريحات قيادتها متمثلة في الفريق سلفاكير ومن هذه التصريحات أقواله: (السودان حالياً في مفترق طرق تاريخي)، (وجود أمكانية حقيقية لاستقلال جنوب السودان)، (العرب يبحثون عن الوحدة في الزمن الضائع)، وربما أخطر ما أدلى به على لسانه في كنيسة كتور بجوبا وموجهاً للمواطنين ومفاده (إذا صوتم في الاستفتاء الشعبي للوحدة، فهذا تصويت لتكونوا مواطنين من الدرجة الثانية)، (أما إذا أردتم التصويت للاستقلال لتكونوا أحراراً في بلدكم المستقيل فذلك إختياركم وسوف نحترم خيار الشعب).. سلفاكير وعلى ذات النهج وفي جولة أوروبية شملت هولندا وبلجيكا وفرنسا قال: (الحكومة لا تعمل على وحدة السودان)، وهو ما جعل المحللين يفسرون الهدف من الجولة إبلاغ العواصم الأوروبية بقرب إحتمال انفصال الجنوب عبر تقرير المصير والاستفتاء وبمثابة إخلاء مسؤوليات من أي ترتيبات تحدث عند الانفصال. ونواصل...