أصدقكم القول، لقد تفاجأت جداً بمستوى الجرأة والصراحة الذي أصبح السودانيون يعبرّون به عن آرائهم في قضايا ومواضيع كانت في السابق ضمن محظورات «ممنوع الاقتراب والتعليق»! وأنا بالسيارة استمع - بدهشة - في مرات لمناقشات في إذاعات (الأف. أم) حول موضوعات بالغة الحساسية في القاموس الاجتماعي. والغريب أن المشاركين والمشاركات لا يضعون أسماءً كودية، بل يشاركون بأسمائهم الحقيقية للجد الثالث! المشكلات والأزمات الأسرية تُذاع على الهواء الطلق. المواضيع العاطفية تُناقش بكل تفاصيلها في حضرة الجمهور! من أهم البرامج التي سارت على نهج وضع كل الأشياء على طاولة النقاش واستنطاق المسكوت عنه برنامج (عدد خاص) الذي يُبث بقناة النيل الأزرق، الذي تناول في عدد من الحلقات قضايا ذات صلة بالثقافة الجنسية وأسرار الحياة الزوجية وكيفية الإجابة على الأسئلة الحرجة للأطفال. البرنامج من إعداد وتقديم الصديقين العزيزين الدكتور عبد اللطيف البوني والأستاذة منى أبو زيد. المهم ان برنامج (عدد خاص) بجرأته المحمودة ومعالجته الموضوعية، قد كسر كل الحواجز والتابوهات التي كانت تحول دون إخضاع كثير من القضايا الأسرية والاجتماعية للمناقشة والبحث. سيدة فاضلة بريطانية أقامت لخمس سنوات بالخرطوم. ظلت تلاحظ وترصد أنماط السلوك الاجتماعي وخاصة سلوك النساء في السودان وخرجت بخلاصة خطيرة: السودانيون - والسودانيات خاصة - يستخدمون (الكلام والصمت) لمعالجة مشاكلهم.. بعض القضايا تعالج بتجاهلها وعدم الحديث عنها، بمعنى أنهم يعالجونها بالتناسي وتجنب مواجهتها! وبعض المشكلات تعالج عندهم بتحويلها إلى مادة للثرثرة، تحل المشكلة بالحديث عنها لا بمعالجتها في الواقع. تذكّرت وأنا استمع للسيدة البريطانية، سياسياً كبيراً يصف سياسياً آخر قال إن فلاناً يعالج أزماته عبر الحديث عنها أو بتحويلها لمعادلات لفظية في الورق دون أن يذهب لمعاينتها في الواقع الفعلي الذي تشغله الأزمة! ما يحدث أمر جيد ويجب أن يستمر ويتطور في ابتكار طرق ووسائل جديدة في تقديم المعالجات والحلول. أضعف الأنشطة البحثية في السودان هي المتعلقة بالدراسات الاجتماعية المتعمقة التي تفسر الظواهر وتحدد طبيعة قوانينها الداخلية وتقدم حلولاً عملية يسهل التحقق من نجاعتها. تفاجأت جداً بكتاب ضعيف الفكرة والمضمون والأخلاق، يتم تداوله بعيداً عن دوائر التوزيع الرسمية، وهو بعنوان (بنات الخرطوم) لصحفية إسفيرية معروفة في عالم النت. تروي قصصاً منحرفة لبعض النساء في الخرطوم وخارجها تسمي بعضهن صراحة. ولو أن الكتاب جاء بصيغة التبعيض (بنات من الخرطوم) لأصبح من الممكن التعامل معه بجدية. ولكن الكتاب وضع كل السودانيات بالخرطوم وفي الخارج (السعودية والقاهرة وأمريكا) في قوائم الاتهام أو في مضابط الاشتباه! والاسم بالطبع منقول دون جهدٍ في التعديل أو الإضافة عن رواية (بنات الرياض) الذي أثارت ضجة عارمة بدول الخليج. نعم، قضايا الانحراف والشذوذ موجودة في المجتمع السوداني بنسب ومعدلات متفاوتة. يجب ألا نهون منها، وفي المقابل يجب ألا تهول بصورة تجعل كل المجتمع في شك وارتياب أو في حالة استسلام لأقدار الزمان بالتطبع مع أزماته! كل شئ - مهما كانت حساسيته - قابل للنقاش والحوار العلمي الموضوعي والجاذب إعلامياً هذا ما يقوله برنامج (عدد خاص). أما الابتذال والاثارة الرخيصة وتجريح الآخرين عبر الشائعات والقوالات هذا ما يفعله كتاب (بنات الخرطوم). فموضوعات الكتاب أفعال فاضحة تتم تحت الأضواء الكاشفة لا في زقاقات كرنتينة جدة ولا في شقق العجوزة بالقاهرة!