* هذا الكتاب الصادر عن دار نشر «مدارك» بالخرطوم، هو من أدب الرحلات كتبه «الألماني بريم» وهو كتابة تتمتع بالدقة والملاحظة التي كان يستجيب لها مزاج القرن التاسع عشر. ولئن كانت الخرطوم والسودان في بداية القرن الماضي قد شهدت عدداً كبيراً من الزوار الأوروبيين، فإن فترة ما قبل الفتح التركي لم تعرف سوى عدداً ضئيلاً من الرحالة. وهناك بعض الألمان الذين أتاحت لهم فترات عملهم في الإدارة التركية في السودان فرصة المعايشة والتمرس بحياة السودان وبلاده. هذه الفقرة جزء من تقديم المترجم، وقد اخترنا هذا الفصل المعنون ب «في بلاد السودان» على ان يتبعه في العدد القادم «الخرطوم وسكانها». ..... سكان الخرطوم ليس لهم كمسلمين اي تشريع منصوص في الوقت الحاضر، فالقرآن عندهم هو الكل في الكل، انه يعلمهم ان يستبينوا الحلال من الحرام، الخير والشر، ويحدد عقوبات المخالفات، وبه القوانين التي حكم بها محمد «صلى الله عليه وسلم» جنوده ورفاقه وتابعيه. ومما يؤسف له ان هذا الكتاب الديني الممتاز قليل التداول في السودان. ولهم جامع واحد في بلادهم الشاسعة/ الخرطوم، ولا يعرفون من دينهم إلا المسائل الاساسية وبشكل تقليدي، فهم مسلمون اسما دون معرفة بالشريعة أو فهم لها. وحين يقومون ببعض الفروض يحسبون انهم قد قاموا بالكثير. السوداني بسيط في ملبسه، مقل في صرفه على طعامه. وساحاول ان اقدم تبريرا ودفاعا عن السوداني، وذلك بالقاء اللائمة في عيوبه على طقس البلاد، ومن يستطيع ان ينكر ان للطقس اثرا كبيرا في تكوين العقل كما في تكوين الجسم وحتى القادم من جزء آخر من العالم يتأثر بهذا الطقس. والذي يعيش فترة في البلاد الحارة يدرك كيف يصبح انشط الاوروبيين خاملاً. فالحرارة في الخرطوم في ايام السموم تبلغ «04» درجة مئوية في الظل، فتشل الجسد. وهنا اكثر من اي مكان آخر ينصح المرء بالقيام بالاعمال الذهنية الخفيفة، اذ ان المرء يصبح دونها خاملا حتى انه يقعد في النهاية عن اي حركة ويهتم فقط براحته ومسكنه البارد، وبذا يعجل بنهايته. ان الاوروبي يعرف تأثير الجو الحار، ونتائج الترف الجسدي، ومع ذلك فانه نادرا ما يتجنبهما. والسوداني اقل منه تجنبا لهما، وهو عندما يعمل حقا فانما ذلك لتأمين احتياجات حياته وزيه، لكنه يحتاج الى القليل، وبلده مبارك الخصب والعطاء الامر الذي يمكنه من توفير ما يريد دون عناء فلماذا يشقى نفسه بالعمل؟ ولماذا يفعل ما لم يأمره به دينه؟ ودينه يسمح له بان يستمتع بحياته بطريقته واسلوبه اذ يعلمه ان الله كريم وموته مكتوب وحياته قدر ولذا فهو يعيش يومه دون هم. وفي النهار يعمل السوداني قليلا جداً فهو وعلى الرغم من عاداتهم الغريبة وضعفهم استطيع على ضوء ملاحظات خصائصهم الحسنة من قبل كثير من الرحالة ان ابرر ايماني بهم. لقد مكثت عامين بيهم، فلم اجد منهم شرا، كما لم اشعر باي خوف مثل ذاك الذي يستشعره المرء بين شعوب اخرى. ويمكن للمرء ان يغفر لهم ما ياتون من شر لتهورهم الشديد وغضبهم المفاجيء وافتقارهم الى التعليم، وقد لاحظت مع الاسف ان ما يتعلمونه في الخارج ويعودون به الى ديارهم لا يؤثر في عاداتهم ايجابيا، فلكما سافروا واكتسبوا خبرة ومعرفة زادت شرورهم انهم مثل شباب مصر وتركيا الذين بعثهم الخديوي الى اوروبا للتعليم، والذين جلبوا معهم مباذل اوروبا ولم تتاصل فيهم فضائلها. ومع ان السودانيين مسلمون إلا ان عاداتهم تختلف عن الشعوب المسلمة الاخرى بشكل واضح. ونستغرب ذلك كثيراً لان الدين عند المسلمين ينتظم الحياة كلها، ومعظم العادات تنطلق منه، والسودانيون يمارسون عادات دينية محمدية، ولكنهم يحتفظون بعادات اخرى كثيرة اصبحت مقدسه لديهم مثل تلك التي يحض عليها الدين. منها مثلا خفاض الفتاة. فهو ليس شرعا محمديا، وهم يمارسونه، وغالبا ما تتم العملية الفظيعة والفتاة بنت خمس أو سبع سنين، وتأخذها النسوة العجائز، ويجرين بموسى ثالمة خفض الاجزاء المعنية، وبذا يلحقن بالفتاة إلاما فظيعة، وغالبا ما تظل الفتاة لمدة اربعة اسابيع ورجلاها مقيدتان معا فوق العنقريب قبل ان يبرأ جرحها. وكما في ختان الاولاد الذكور تقام احتفالات كبيرة في طهور البنات. وقبل ايام من العملية يؤخذ في الغناء والرقص والضوضاء والشرب حتى وقت متأخر من الليل. وتشرك بنت الطهور في كل ذلك. واثناء العملية يشتد الاضطراب والضوضاء اضعافا، وتصبح الحفلة اكثر بذخا، ويرتفع دوي الدلوكة- الطبل- والزغاريد.وربما كانوا يحاولون تغطية إلام الفتاة، اذ بعد انتهاء العملية تنتهي هذه الفنتازية ويصمت مع المحتفلين. وعند زواج السوداني لا تقام احتفالات خاصة إلا فيما ندر، فمتى بلغ الصبي عامه الخامس عشر اصبح عادة رجلا، وتكون الفتاة صالحة للزواج حين تبلغ الثالثة عشر، ولحسن الحظ لا يتبع السودانيون العادة المصرية السيئة التي تزوج الفتاة في طفولتها بل يتركون للطبيعة مجراها حتى تكمل عملها دون تدخل من البشر. وعلى السوداني ايضا ان يقدم مهرا يقل عما هو في مصر، ويدفع عادة على دفعات قد تستغرق بعض السنين، ويقوم فقيه بعقد القران في سرعة وسط تلاوة ايات من القرآن تتصل بالزواج.ومع ان المهر ضئيل في السودان، فانه يحدث في احيان كثيرة ان يمتنع الاب عن الموافقة بزواج ابنته بقصد ان يرفع المهر، فالمسلمون في كثير من البلاد المسلمة ينظرون الى الزواج كمعاملة تجارية، وليس بمستغرب ان يحاول المرء ان يستخلص منه كل ربح ممكن. ولان تعطيل بعض الزيجات قد يؤدي الى نقص في عدد السكان اقامت الحكومة في السودان مؤسستها الخاصة فالحب هنا ليس مغلولا أو محتبسا وراء الابواب كما في تركيا وبلاد اسلامية اخرى،بل انه كما في البلاد المتحضرة فالفتيات يرحن ويجئن دون حجاب، كاشفات الاوجه، ويمكن ان يوقدن نارالوجد في قلوب الشباب بجمالهن، ولمساعدة الشباب على الزواج من الفتيات قبل ان يصبحن عانسات قبيحات غير قادرات على الانجاب القوي ابتدعت الحكومة التركية مكتب ناظر الزيجات، وهو منصب اكتسب اهمية في السودان. والناظر هنا شخص روحي يسافر متنقلا في كل انحاء السودان من قرية الى قرية ومن مدينة لاخرى، ويستخبر عن القادرين علىا لزواج والراغبين فيه وهو يسأل البنات ان كن يراغبن في الزواج. فان اجبن بنعم زوجهن للفتى المحبوب بالحسنى أو القوة. وهو الذي يقررالمهر. وله مساعد عليه ان يعيد الى الآباء المعاندين صوابهم ويجمع اتعاب الناظر، ويقوم اجمالا كمساعد دنيوي له.