من وقتٍ لآخر أجادل بعض الأقران حول أىّ الأيام أحلى: الأيام التى تُدْبِر أم الأيّام التى تُقْبِلُ... فأقرانى مُعْظَمهم ممّنْ يرون أنّ أحلى الأيام ماضيها... بينما أنا أُحاججهم نَظريّاً بأنّ الأيّام مثالٌ للحياد، نحن الذين نُطعّمها بالحلاوة أو (المساخة)! وعَقِب كل جدالٍ مع أقرانى أخلو عَمليّاً بأيّامى (الذاتيّة) فأرى أنّنى كلما نظرت للوراء أكثر زادت حلاوة الأيّام... وكلّما مددت عُنُقِى للأمام يسرى بداخلى شعورٌ يقارب صعْقةً كهربائيّة بسلكٍ عارٍ انفلت عن مولّد كهربائى ذى ضغطٍ عالٍ! زارتنى صورةً من الأيام الحلوة حين حمل لى مُخْبَر الموت خبر وفاة معلّمى العظيم الاستاذ عثمان عبده... وعثمان عبده لن يعرفه إلا مَنْ جلس أمام (السبّورة) السوداء ليرى ما يكتبه عليها ب(طبشورة) بيضاء... فهو أحد الذين صنعوا لنا تلك الايام الحلوة فى عمر الرابعة عشرة، العُمر الذى ليس هو طفولة بحتة ولا مُراهقة صِرْفَة... كنت تلميذاً له فى مدرسة حلفاالجديدة الاميرية الوسطى ذات سنة لمادتين لا يجمع بينهما إلا أمثال هذا الرجل: الرياضيات والتربية الإسلامية... الأولى لأنّها خِبرته، والثانية لأنها تكوينه... كنّا نسأل عن هذا المُعلِم الذى يقدّم التربية الإسلاميّة مثل المواد الغذائيّة، فنُجَاب بأنّه من أعضاء جبهة الميثاق الإسلامى! عثمان عبده مات فى العُمر (المشروع) للموت... لذلك لا نبكى اختطاف الموت له، لكنّنا نبكى أيّاماً كان هو فيها أحد المساهمين فى شركة المساهمة العامة للأيّام الحلوة! كان يمثل الإعتدال فى المنهج الإسلامى... فى حصةٍ لقراءة مُختاراتٍ من القرآن الكريم تعثّر زميلنا فى الضبط التشكيلى لآيةٍ فى سورة الأنعام: (إنّ اللهَ فالقُ الحَبِ والنّوى...) قرأها زميلى (إنّ اللهَ فالقُ الحُبِ)... فصحّحَه استاذنا بابتسامة أراها أمامى الآن... لو كان زميلنا قرأها هكذا فى أيامنا هذه لفرمته مفرمة التطرّف قبل خروجه مِنْ الفصل! عثمان عبده عاقبنى مرّة واحدةً جَلْدَاً بالسوط بسبب الشَغْب التلميذى بعدَ إنتهاء اليوم المدرسى... وقعت تحت سوطه فلم أقع بعدها تحت سوط أحد... لا صول الثانويّة ولا سيخة العُنف الجامعى، ولا هَراوة قوّات الاحتياطى المركزى!!