تقول النكتة الشائعة إن الشاكي وقف امام العرضحلجي وحكى له مظلمة، يريد أن يرفعها إلى القاضي كتابة ، استوعب محرر الشكاوي القضية وعرضها للشاكي بشكل مفصل وبلغة مبينة، حتى يتأكد من امرها، وعندما قرأها الشاكي بكى بكاء شديدا اثار استغراب العرضحلجي فسأله: مالك تبكي ياهذا؟ فقال: ما كنت اعلم ان كل هذا الظلم واقع عليّ! وعلى النسق، فقد كنا نعلم ان مراحل انتاج الخبز موبوءة بالرسوم، ولكن من منا كان يدري ان الرسوم والاتاوات والجبايات على تلك السلعة المهمة بتلك «الحمولة»، لولا الاجراءات الصائبة، مرحليا، التي أعلنها وزير المالية وأدت إلى تخفيض اسعار الخبز، او بالاصح اعادته الى سعره الاخير قبل الزيادة الاخيرة، اي سعر الخبز زنة «5.» جراماً بواقع «2.» قرشاً بدلاً عن «52،2» قرشاً، ليصبح الكيس خمس خبزات، بواقع جنيه واحد، والخبز زنة «9.» جراماً يصبح سعره بواقع «325 الى 3..» قرشاً. الاجراءات التي اعتبرها الوزير بأنها تأتي في اطار تخفيف أعباء المعيشة عن المواطنين، على الرغم من ارتفاع اسعار القمح عالمياً، كشفت ان هذه السلعة كانت مرتعا فسيحا من مراتع الجباة، وأول الجباة الحكومة المركزية، لقد اقرت الاجراءات الغاء رسوم دمغة العلاج لوارد القمح وتخفيض رسم المواصفات بنسبة «75%» وتخفيض رسم الموانئ بنسبة «58%» اضافة لخفض الرسم الجمركي للطن من «42» جنيهاً الى «2.» جنيهاً والحجر الزراعي بنسبة «66%» اضافة إلى الغاء ضريبة القيمة المضافة على الردة للمطاحن الاهلية، انها خمسة رسوم مرة واحدة، تفرضها خمس جهات مركزية على سلعة تحتل رأس قائمة الاساسيات، من الميناء وحتى المطاحن فقط ، نصف الرحلة تقريبا . مجملا، فإن الاسئلة المطروحة، هنا هي: هل هناك رسوم مركزية أخرى على السلعة مخفاة لم تعلن بعد، واذا كان الخبز وحده يعاني من وطأة الرسوم بهذه»الكثرة»، التي كشفتها لنا الاجراءات ترى كم رسماً حكومىاً على السلع الأخرى الاقل اهمية عن الخبز، فضلا عن اسئلة اخرى تتعلق بمدى فاعلية نسب التخفيضات المعلنة، بشكل عملي،على مستوى البيع والشراء بين صاحب المخبز، خاصة ان هناك من الخبراء من يرى ان نسب التخفيض قليلة، والغاء القيمة المضافة على الردة لايستفيد منها صاحب المخبز، بقدرما تنحصر الفائدة في المطاحن، التي بموجبها قد تقلل نسبة الاستخلاص للاستفادة من الالغاء، وهذا التقليل يرتب على اصحاب المخابز إدخال محسنات أخرى لرفع نسبة الإستخلاص. الأمر يلزمه توضيحات، ربما. وجاء في الانباء أن والى الخرطوم، بالتزامن مع اجراءات وزير المالية، قرر تخفيض فئات العوائد على المخابز الآلية والبلدية، اضافة الى جملة من الاجراءات استهدفت خفض تكلفة انتاج الخبز، ولاندرى التفاصيل، ولايعرف متى ستعلن، ولكن لاشك عندي ان قائمة الرسوم المفروضة على السلع من مستويات السلطات المختلفة في ولاية الخرطوم من ولاية الى محليات الى عشرات الوحدات الإدارية، تزدوج وتتشابك بصورة ما انزل الله بها من سلطان، فالحال الماثل الآن في ولاية الخرطوم مربك. في اقل التقديرات إنك لاتستطيع ان تفرق بين الرسوم وبين محصلي الرسوم، سلطات الولاية لاتتفق على اي شيء في هذا المضمار،إلاّ في مستوي العنف والقوى المبذولة لتحصيل الرسوم. واذا افترضنا ان والي الخرطوم التزم بقراراته التي تبدو حتى الآن مشروع قرارات، وتحالفت مع اجراءات وزير المالية واسفرت عن تخفيض في اسعار الخبر، شمل كل انحاء الولاية، فما بال الوضع في الولايات الأخرى، هل سيفعل ولاتها مثلما فعل والي الخرطوم، من اجل تخفيض اسعار الخبزفي كل البلاد،ام ان كل هذه التحركات المقصود بها خفض السعر في العاصمة فقط .حسب الدستور فإن الولاية كمستوى حكم ثالث كيان شبه مستقل اداريا له دستوره ونظامه الادراي، وبهذا فإن الواقع يقول إنها غير ملزمة باية اجراءات مركزية في هذا المضمار ما لم تتخذ تدابير وتوجيهات رئاسية ملزمة. ومن هنا يرى المراقبون ان قدرة الحكومة على تعميم وتنفيذ خطة تخفيض اسعار الخبر على كل الولايات، هي التي تحدد مدى نجاح الخطة عن عدمها. كما ذكرنا فإن الاجراءات، والاخرى التي في طريقها إلى التطبيق بشأن الخبز، فهي اسعافية، توقف النزيف،او هى علاج ايحائي تتساوى فيه نسب الفاعلية مع الفشل على المدى البعيد، لذا يجب اعتبارها، فقط ، حلقة من سلسلة حلقات معالجات اقتصادية يتوقعها المراقبون الاقتصاديون لوصفة العلاج الدائم لمشكلة الخبز في بلادنا، ومشكلة هذه السلعة أن الحكومة تعاملت معها باعتبارها كمالية، فادخلتها في دائرة خطئها الكبير في مسألة التحرير الإقتصادي، والمتمثل في أنها ما انفكت تحرر الاسعار بمزاجها، وتتهرب في ذات الوقت من مسؤولياتها الاخرى التي تفرضها سياسة التحرير على كل من إستنىّ بسننها، كأن تتدخل بشكل مباشر وغير مباشر للمساهمة في تشجيع ورفع الانتاجية، وفي حالة الخبز عندنا التدخل رفع انتاجية القمح عبر مساواة سعره المحلى بالسعر العالمي،ما يشجع المزارع على زيادة الرقعة المزروعة،وسينعكس ذلك على المدى البعيد على الاسعار محليا، ويجعل من البلاد دولة منتجة ومصدرة،ودولة تأكل مما تزرع بسعر اقل من المستورد بالتأكيد، وليست دولة تأكل مما تستورد كما هو ماثل الآن. ولكن كيف يتسني ذلك في ظل سيادة التحرير بمفهوم التسعيرة. الولاياتالمتحدة وفرنسا لديهما سياسات دعم واضحة للانتاج الزراعي وعلى رأس هذه المنتجات القمح تضمن في الميزانية، تتمثل في اعفاءات لمدخلات الإنتاج، تحت بنود دعم الصادرات تصل احيانا نسبة» 1.% «من اجمالي الصادرات، وهذه ما يشجع المزارعين فيهما وفي الدول التي تتبع مثل هذه السياسات. النتيجة ان صادرات هذه الدول الآن قتلت الزراعة في دول العالم الثالث الغافلة، ونحن من بين تلك الدول ، لاشك في ذلك، كما يعتقد اقتصاديون يراقبون الوضع السوداني عن كثب. نهج التحرير القائم على الاكتفاء بالتسعيرة،اي تحرير الاسعار، ورفع اليد عن المسؤوليات الأخرى، مضى بنا بعيدا على الطريق الخطأ، فالمشهد الطاغي بسبب هذه السياسات هو أن اغلب الشعب صار يمتهن التجارة، وفي ماذا ؟ في البضائع المستوردة، تبدأ من الابرة الى الطائرة، مقابل ذلك، تحولت مواقع الإنتاج الزراعي والصناعي في القطاع الخاص، الى مواقع طاردة تمضي على طريقين: طريق مسدود، وآخر شبه مسدود. زيارة واحدة إلى المناطق الصناعية في العاصمة او الولايات تكفيك دليلا حيا على تعثر عملية الإنتاج الصناعي، بسبب نهج التسعيرة والمغالاة في فرض الرسوم المحلية، مقابل الإستيراد المفرط لمنتجات تصنع محليا او أخرى بالامكان بشيء من السياسات المساعدة صناعتها محليا. ثم أنظر إلى مشروع الجزيرة، بدلا من أن تشجع فيه الحكومة الانتاج، وتحفز المزارعين بشكل مباشر وغير مباشر على الإنتاج، ليكفي المشروع، من بعد، السودان من القمح باسعار معقولة، ويساهم بقدر كبير في رفع حصة الصادرات السودانية، بدلا عن ذلك،ها هو المشروع الضخم قد تقزم، وصار عبر نهج التسعيرة والرسوم والجبايات ومطاردة المزارعين والتشكيك في نزاهتهم، الى عبء من اعباء البلاد. للأسف سكانها اليوم يشترون القمح المستورد لقوت يومهم، بل عزت عليهم حتى الفتريته: وكيف لا والارض بور، ينعق فيها البوم. لمست في لقاء وزير المالية مع القيادات الإعلامية الصحافية أول من امس توجها من الوزير نحو الانتاج، ليتحول السودان من دولة استهلاكية من الدرجة الاولى الان، الى دولة منتجة مستفيدة مما توفر لديها من مال البترول. لو انزل هذا التوجه الى ارض الواقع يكون الوزير قد سار على الطريق الصحيح.