«المكان : موقف المواصلات . الزمان : أواخر النصف الثاني من القرن الماضي» استقل (هيثم) الطالب الجامعي أحد (القشاشات) الكبيرة المزدحمة بالراكبين و (المشمِّعين)، و الراكبات و(المشمِّعات)، في طريقه إلى الجامعة . وعندما اقترب صوت (طقطقة) الكمساري هبَّش (هيثم) جيوبه في ردة فعل آلية بحثاً عن بعض (الفكَّة)، لكنه فوجئ بجيوبه خالية إلا من مبلغ خمسين جنيه (صم) ! ناول (هيثم) الكمساري مبلغ الخمسين جنيه على مضض و هو يزفر في ضجر، فقد أحنقه اضطراره إلى انتظار الباقي لأن المتعارف عليه في معاملات الركاب و (الكماسرة) هو وجود علاقة طردية بين «مدة الانتظار» و قيمة «الورقة النقدية الصم» التي يتسلمها الكمساري من الراكب.. غاب (الكمساري) في زحام الركاب طاوياً العملات الورقية ذات الفئات الكبيرة بين أصابع كفه اليسرى، و «مكشكشاً» بالعملات الحديدية في إشارة ذات مغزى . عندما بلغ (الباص) محطة الجامعة شق (هيثم) طريقه بصعوبة وسط الأجساد المكدسة، شبه المتلاصقة، و قفز راكضاً نحو بوابة الجامعة، مشفقاً من تأخره عن موعد المحاضرة .. في منتصف النهار جلس (هيثم) مع أصدقائه بجانب «ست الشاي» كالمعتاد، و بعد أن (خمَّسوا) أكواب الشاي و أعقاب السجائر، تعالى صوت الهتافات و «الأيمانات» المغلَّظة: (هو يحلف و هم يحلفوا) . بسط (هيثم) كفه اليمنى في إصرار بينما كانت كفه اليسرى تنقِّب في جيوبه بحثا عن باقي الخمسين جنيه «إياها» . مرت بضع ثوان من الصمت قبل أن يضرب (هيثم) جبينه بكفه المبسوطة صائحاً في حنق عظيم : - الله يا خي نسيت باقي قروشي في الباص .. نسيت باقي الخمسين جنيه ! .. - شنو ؟! .. خليت للكمساري تسعه و أربعين جنيه و تلاتة طرادات ؟! ..بالله شوف الزول دا .. - كنت لاحق المحاضرة .. لا حول .. قروش و ضاعت ! .. - ضاعت شنو ؟! .. موش حقك دا ؟! .. بنخلصوا ليك منهم ! .. انتشر الخبر بين الطلبة، و منذ ذلك اليوم أصبح أصدقاؤه و معارفه و زملاؤه (يزوغون) من دفع (الطرادة) المعلومة كلما ركبوا المواصلات العامة . و ما أن يقف (الكمساري) أمام أحدهم (مطقطقاً) حتى يخاطبه قائلا في خبث: «وراء .. وراء» .. أو : «قدام .. قدام» .. كل بحسب موقع جلوسه ! أي أنهم كانوا يزوغون من (الكماسرة) بلا استثناء و يتعمدون عدم دفع ثمن المشوار معللين ذلك السلوك بأنهم يخلصون منهم باقي هيثم ! و من يومها ذهبت تلك الجملة : (باقي هيثم) مثلاً يستخدمه طلبة الجامعة للتعبير عن استخدام مبدأ (الغاية تبرر الوسيلة) لاستخلاص حقوقهم الضائعة ! أما اليوم فقد سلَّم الطلبة أمرهم لله بينما أخذت الحكومة على عاتقها استخلاص و استحلاب (باقي هيثم) من أصحاب المواصلات العامة . فهي (تدرع) في رقابهم عبء حدبها على رقة حال الطلبة، و تلزمهم بتخفيض قيمة «تعرفة المواصلات» للطلبة من جهة، بينما تفرض عليهم - من جهة أخرى - الضرائب و «الجبايات» التي تنتهج في تطبيقها سياسة (ما تكتِّحنا) ! الطلبة و أولياء أمورهم من التمهيدي إلى تمهيدي الماجستير هم بلا شك معذبون في الأرض و survivor ناجين بالبركة و ب الله كريم . إنما أصحاب المركبات العامة هم بدورهم إما مطحونين أو مغتربين سابقين وضعوا «تحويشة العمر» في تلك العربات، فهل من العدل أن تخلص الدولة (باقي هيثم) منهم و تنسى ما عليها ؟! .. نحن أكثر الشعوب تفنناً في ابتكار آليات الرضوخ للأمر - الحكومي -الواقع، و عليه : لماذا لا تحدد الدولة - التي تلعب دور الغراب : الحَكَم الشهير في حكاية قطعة الجبن إياها - ممثلة في الجهات المعنيَّة ساعات صباحية و مسائية لركوب الطلبة بنصف القيمة ذهاباً و إياباً، مع تدوير (خلصان باقي هيثم) على المركبات العامة بآلية تناوُب يُتَّفَق عليها؟ .. مع تخفيض قيمة الرسوم و»الجبايات» في مقابل هذا العبء ؟ و هكذا (تقرم) الدولة بالتساوي : (قرمة) من هنا .. و (قرمة) من هناك !