الاستاذ الفنان ابراهيم الصلحي من رواد الفن الجميل في السودان تخرج في كلية غردون ثم انتقل لانجلترا في مطلع الخمسينيات.. وبذا شرع نافذة تطل من القومي الى العالمي. أسس بكلية الفنون الجميلة هو وشبرين في مطلع الستينيات مدرسة الخرطوم التشكيلية. الآن هو في جامعة كورنيل بولاية نيويورك، حيث معهد الدراسات والبحوث الافريقية في فن التشكيل. حيث وثقت له جامعة كورنيل أعماله القديمة والحديثة. التقينا به في حوار حول عدد من المحاور الفنية: ------------------ ? فيما يسمى بسباق الحضارات فلأيهما كان السبق، الحضارة السودانية القديمة أم الحضارة الفرعونية؟ - دلت الأبحاث والكشوفات الأثرية في مضمار الحضارة وبالذات حضارة وادي النيل ان منشأها كان في السودان اولاً، ثم انتقلت مع مجرى النهر إلى شمال الوادي حيث ازدهرت اكثر وكانت هي الرباط بين جنوبالوادي وشماله واذكر بهذا الخصوص معرضين مهمين للغاية اقيم اولهما بمدينة ميونخ في أوائل القرن الحالي دعاني لمشاهدة افتتاحه أحد كبار رجال الصناعة الألمانية، كان من ضمن مواد هذا المعرض آثار من شمال السودان في غاية الروعة والدقة يرجع تاريخها إلى قرابة ال «4» آلاف سنة قبل الميلاد تضمنت نماذج من فن المعمار والحلى والخزف، وبهذا الخصوص كان من ضمن المعروضات الخزفية ثلاث قطع كانت في رقة الأواني الصينية فسألت بالذات عن مصدرها فقيل لي انها من صناعة كرمة ومصدرها الذي اعارها للمعرض هو متحف السودان القومي. المعرض الثاني أقامه المتحف البريطاني بلندن بعنوان: (الآثار السودانية القديمة) هذا المعرض كذلك أقيم في اوائل القرن الحالي تصحيحاً وتقويماً لحضارة وادي النيل ذكر في ادبياته ان الاستيطان البشري في شمال السودان قد بدأ منذ «300» ألف سنة قبل الميلاد، وان التفاعل الحضاري قد بدأ في بلدنا منذ ما يقارب «200» ألف سنة قبل الميلاد، كما ان المعروضات التي اشتمل عليها هذا المعرض من تماثيل وانماط معمارية وخزف وطنافس يرجع تاريخها بحسب قياسات الكربون ما بين «41» إلى «9000» عام قبل الميلاد أي انها قد سبقت الفترة الذهبية في الحضارة الفرعونية بمنطقة الجيزة واهراماتها الكبرى التي يرجع تاريخها إلى ما بين «3000» و«2500» قبل الميلاد. هذا ما ذكر بالتفصيل في اوراق ذلك المعرض من قبل جهة البحث والتنقيب التي كانت تجري ابحاثها وما زالت بشمال السودان. استناداً إلى هذه الوقائع فإن حضارة وادي النيل قد بدأت قبل وقت طويل في جنوبالوادي ثم انتقلت تدريجياً إلى شمال الوادي حيث ازدادت ازدهاراً ومناعة، هذه الجوانب لم يكن يدركها الكثيرون الا بالبحث الذي اجري ويجرى حالياً بالبلاد، وأني قد تحدثت بهذا الشأن مع بعض اخوتنا وزملائنا بمصر لا بصدد التباهي باصول حضارة وادي النيل منشئها بجنوبالوادي قبل شماله.. ولكن من باب العلم بالشيء. ? كان لكم دور بارز ومشاركة فاعلة في بينالي القاهرة السادس 1002 تحدثتم فيه عن التوأمة بين حضارتي وادي النيل وعن نشوء الحضارات القديمة جنوبالوادي ثم انتقالها إلى طيبة والاقصر وهو الحديث الذي أثار الكثير من ردود الافعال؟ - من اهتماماتي كثيراً بأصول الحضارات وتداخلاتها ما بين أخذ وعطاء صدف اني كنت قد دعيت الى الانضمام الى هيئة التحكيم ببينالي القاهرة السادس، حيث تحادثت كثيراً مع زملائى من الاخوة المصريين المهتمين بنفس الموضوع، وكان ذلك بالطبع قبل حصولي على المعلومات الموثوق بها التي اوردها المتحف البريطاني في أدبيات المعرض الذي اقامه بلندن، اذ كنت ارى ان وادي النيل وحدة متماسكة في وادٍ موحد هو وادي النيل، ولا بد من وجود جوانب توضح التفاعل الحضاري وانتقال مسارها بين شماله وجنوبه، وقد كنا بحسب ما كتب في هذا الصدد نرى تأثر السودان بالحضارة الفرعونية وفترة تهراقا وتصديه لحكم مصر في فترة لاحقة ثم عودة النفوذ المصري على جوانب الحياة الدينية والثقافية كافة في جنوبالوادي وبلاد النوبة على وجه الخصوص، وكنت دائماً اتساءل عن سر معبد البركل الذي كان يعتبر أكبر معبد بوادي النيل يتم فيه تعميد الفراعنة، فكان جميع الاخوة المصريين يؤكدون على تبعية السودان لمصر من حيث منشأ تلك الحضارة دون وضع احتمال لمنشئها ان كان بالسودان ومن ثم انتقالها الى مصر، هذه كانت فترة سابقة للكشوفات الاثرية التي بينت عكس ذلك تماماً. ? مثل هذه البحوث تفيدنا في تحديد الشخصية السودانية أهي عربية؟ أم زنجية؟ أم نوبية؟ أم ماذا؟ - في اعتقادي ان هذا سؤال كبير، متعدد الجوانب، كثير التفرعات، ومع ذلك فهو يستدعى اجابة صريحة وواضحة، نحن الآن في شمال السودان مزيج حضاري يستند على منابع كثيرة ومتعددة، لم يكتمل بناؤها القومي بعد، ومازال في اعتقادي انه يراوح في مرحلة التشكيل والتوحد، صحيح ان لنا جذوراً عربية إذ دخل العرب السودان من ثلاثة أو أربعة مداخل، حيث تمازجوا مع من سبقهم الى تلك المواقع من قبائل نوبية وزنجية وغيرهم وصار هذا التداخل عاملاً مهماً في بناء اللبنة السودانية متعددة الجوانب والسمات والتوجهات الثقافية والدينية والمجتمعية، نأمل ان ينتج عنها نسيج موحد يعبر عن ذات سودانية لها روابط حية مع عالمنا العربي واصولنا الافريقية في هذه البقعة التي اطلق عليها سابقاً اسم السودان أي بلاد السود. هنالك ايضاً الروابط الدينية التي تربط ما بين العالم الاسلامي والعالم المسيحي والديانات والعقائد القبلية التي لا تمت لهذا ولا ذاك. ولكنها موجودة بالفعل وأخذ كثير من جوانبها ما يطلق عليه الدين الموازي الذي يشابه أو يطابق ما درج عليه الدين المنزل مع تحريفات كثيرة توافق أمزجة المجتمع وعاداته وتقاليده الموروثة، ولا يراد فكاك منها. اذكر في هذا المضمار كثيراً من عاداتنا وتقاليدنا ذات الجذر الوثني، كعادات الزواج وطقوسه التي يرجع اصلها الى عادات وتقاليد وممارسات سابقة لعهدنا بالاسلام والعقيدة الاسلامية السمحاء. خلاصة هذا الحديث أقول إننا مزيج في طور التشكل القومي.