من تطورات الصحافة السودانية التي أسعدتني هي صدور جريدة «أجراس الحرية» التي تواترت الدلائل على أنها من صنع الحركة الشعبية لتحرير السودان. ومع أني من أشد خصوم صحيفة «لسان الحال» ( وصفتها أنها بوق الحزب المنشيء لها) إلا أنني أقبلها من الحركة الشعبية. فقد غَلَبت بيض الصحائف (أي السيف) في الحركة فلم تشتهر بسود الصحائف (وهي الصحف). وتركت الإعلام عن خصائصها السياسية منذ توطنت آلتها في الولاياتالمتحدة، وباخ ميثاقها الماركسي، لذوي الأجندة الخاصة من أمثال الدكتور منصور خالد والبارونة كوكس وعتاة الصليبيين. ومن جهة أخرى فالحركة تمر بمخاض صعب في التحول من حركة عسكرية خالصة إلى حزب سياسي مدني. ومن المؤكد أن صحيفة ذكية بصيرة مما سيعينها بصورة منقطعة النظير في هذه المهمة الكأداء. لم يتح لي من قراءة «أجراس الحرية» سوى ما نشرها بعض أنصارها على الشبكة العنكبوتية. ولم أجد جديداً لكتابها اللامعين لم أقرأه لهم من قبل في محطاتهم الأولى. ولكن استوقفني تعليق كاتب «إسفيري» (كما يحلو لبعض كتاب الشبكة وصف أنفسهم) على خبر أو نحوه جاء في الأجراس. فقد نقل الكاتب الإسفيري عنها بعض حديث الدكتور حسن الترابي في مؤتمر صحفي بعد زيارته لمدينة واو. وجاء فيه أنه خلافاً لقول الأستاذ على عثمان محمد طه، نائب رئيس الجمهورية، فإن المسلمين في الجنوب لا يتعرضون لإضطهاد من حكومة الجنوب. واتخذ الكاتب الإسفيري من كلام الترابي (ونشر الأجراس له) سبباً ليعلق قائلاً: «هل تخرس الإنتباهة؟». والإنتباهة كما هو معروفة صحيفة يصدرها منبر السودان الداعي لحق تقرير المصير للشماليين وتفتح نيرانها غير هيابة على الحركة الشعبية وحكومتها. لم أسعد بواقعة الأجراس الصحافية التي أسعدت هذا الكاتب الإسفيري. فقد خشيت منها ومن مثلها أن تكون الأجراس هي الانتباهة معكوسة. فإذا نشرت الإنتباهة قول علي عثمان عن إضطهاد المسلمين الجنوبيين نشرت الأجراس نفي الترابي لوقوع ذلك الاضطهاد. وهذا دخول بين البصلة وقشرتها ستدمع منه العيون وتتأذى الحقيقة. فما بين الشيخ وحواره معلوم للكافة حتى تغنت به الصبية محاسن أمام الترابي في مؤتمر المؤتمر الشعبي القريب بمدينة واو: تعيش إنت ويدوم خيرك لو جارت عليك أيام تعال لعيونا بتشيلك أي كلام تقولو حلو منو البسمع كلام بدلو؟ فما بين الرجلين احتقان يضعف من شهادتيهما متى تلاسنا. ولو كانت الأجراس تطلب أكثر من تسجيل نقطة لصالح الحركة الشعبية لتناولت بقية حديث الترابي. فقد كاد الشيخ لحواره في المؤتمر الصحفي بأن سأله عن ما فعله للمسلمين في الجنوب في اتفاق نيفاشا. وهو يوحي بذلك أن علياً قد فرط في حقوقهم بكينيا ثم عاد يبكي عليها في القضارف. ولا أدري إن كانت الأجراس تقبل بعقيدة الترابي هذه عن هضم عهد نيفاشا لحقوق المسلمين جنوبيين وغير جنوبيين. وأنا أعلم أنهم يرون العهد أرسى قاعدة صون العقائد وكفل لمعتنقيها ممارستها بحرية. فهل أعمى دمع البصل محرر الأجراس من النفاذ إلى مطاعنة الترابي فسعد بما اتفق له منها وأهمل أخطر ما فيها وهو التشكيك في قسط نيفاشا. أي كلام من الترابي لصالح الحركة الشعبية حلو. ومنو البسمع كلام بدلو؟ أتمنى أن لا تكون الأجراس قد صدرت لتكون عكس ما تكونه: الإنتباهة. وودت لو أنها أفردت لما يذاع عن إضطهاد المسلمين في الجنوب قصة كاملة تضع النقاط على الحروف. وخاصة بعد أن سبقها السيد سلفا كير، النائب الأول لرئيس الجمهورية، بالإعراب عن أسفه لما وقع للمسلمين في الجنوب وتوجيهه لحكومته أن تلتزم بحرية تعبدهم حسب نصوص نيفاشا. وقد سبق له تكوين لجنة على رأسها الدكتور ريك مشار، نائبه في حكومة الجنوب، للتحري في مقاتل تجار جوبا وغيرها بواسطة أفراد فالتين من الجيش الشعبي. فمن بؤس الصحافة أن تفرط في أدواتها للنفاذ للحقيقة مثل القصة الصحفية وأن تكتفي بقول جهيزة-الترابي التي قطعت قول كل خطيب. مما لا خلاف عليه أنه وقع على المسلمين في الجنوب نوع من الظلم. فلربما بالغت الإنتباهة في التبليغ عنه ولربما أساءت تفسيره. ولعل أشد ضروب هذا الظلم قبحاً هو نزع أرض جامع رومبيك بحجة إعادة تخطيط المدينة. والمسجد ملك حر قام عام 1936 على أرض مملوكة للسلطان عبد الله ميوك. وأراد ابنه، عبد القادر، تجديد المسجد مؤخراً ضمن جماعة فأعتقل بحجة أنه لم يحصل على تصديق مسبق. وتواترت شكاو عن منع رفع الآذان، والتصرف بمدرسة قرآنية بصورة غير لائقة، وإغلاق ديوان الزكاة والبنوك الإسلامية بغير تدقيق في ما بوسعها أن تسديه للمسلمين في الإقليم. ناهيك عن الاعتداءات على أرواح وأموال التجار الشماليين. وهذه مظالم لا يحق للترابي أو على عثمان توظيفها ل «تهبيب» النار التي تحت رماد خصومتهما. وسترتكب الأجراس خيانة الأمانة لو اقتصر نبأها عن مسلمي الجنوب على التصريح أو التصريح المضاد للشيخ وحواره القديم. للمسلمين قضية في الجنوب. ووجدت خلال قراءاتي لأنباء هذه الحادثات أفكاراً حولها تباينت بين التشدد واللطف. فمن جهة التشدد دعا السيد يوسف مجوك كل المسلمين في الحركة للاستقالة عنها احتجاجاً على المظالم. وعلى جهة اللطف كانت ندوة عن أوضاع مسلمي الجنوب انعقدت بمركز دراسات الإسلام والعالم المعاصر بالخرطوم. ووجدت آراء السيد عبد الله دينق نيال (نائب أمين عام المؤتمر الشعبي) غاية في الواقعية. فقد وصف متاعب المسلمين في الجنوب بأنها موقوتة ترتبت على إحساس بعض أفراد في الجيش الشعبي أنهم انتصروا على العرب والمسلمين فلا سبب للبس الحجاب أو الثوب السوداني أو الآذان بارضهم المحررة. واضاف بأن الإسلام أقدم دين بالجنوب ولن يطفيء نوره أحد. وسار السيد عبد الله البرت، مستشار حكومة الجنوب، في نفس اتجاه اللطف فأعتبر اتفاق نيفاشا «صلح حديبية» ابتلى الله به المسلمين فعليهم بالصبر والعزيمة والتوكل. وبذات النفس البارد نبه السيد أتيم قرنق، نائب رئيس المجلس الوطني، إلى النظر إلى ما بعد الإسلام والمسيحية في السياسة الجنوبية. وقال إن عامل «القبلية» غلاب وربما انظلم بسببه مسيحيون أو روحانيون من أتباع الديانات التقليدية. وهذه سعة في النظر محمودة. إن أكبر خدمة تسديها الأجراس للحركة الشعبية - الحزب هي القصة الصحفية لا قول جهيزة الذي تريد به صحيفة لسان الحال إسعاد المركز العام ومنسوبي الحزب. فقول الترابي (وقول على عثمان لمثل جريدة الانتباهة) هو عنصر في القصة الصحفية يخضع للمساءلة والتفكيك لمعرفة البواعث من ورائه. وهو قطعة شطرنج تقع في إطار ما أتينا عليه في الفقرة السابقة من وقائع وآراء ومواقف حيال ظلامة المسلمين. فقول الترابي ليس بينة متى عرفنا السبب وبطل العجب. وقيمته ليست في إخباره عن مسلمي الجنوب بل عن صدوع الحركة الإسلامية وفجورها في الخصومة (والعبارة من موروث الإسلاميين منذ الستينات). قالت الأجراس عن يوحنا: « وتعرفون الحق والحق يحرركم» (يوحنا 32:8). والحق أقول للأجراس: «أعرفوا الصحافة والصحافة تحرركم».