لولا وجود توجه لاعداد دستور جديد لكررت اقتراحي بالغاء الدستور الحالي فورا وبجرة قلم. مجرد النص على ان النائب العام القادم سيكون مستقلا لايكفي الا اذا كفلت الدولة له مقتضيات الاستقلالية والحماية الكافية سلطة المجلس في مواجهة رئيس مجلس الوزراء مبهمة وغامضة وعائمة.. هل يمكن استجوابه والتوصية بعزلة؟ الدستور هو الوحيد في العالم الذي كان يخضع لوثيقة سياسية اواتفاقية اقل منه درجة ومرتبة. ما تبقى من دستور نيفاشا هو وثيقة الحقوق وماعداها هي ذات نصوص دستور1998. رانيا الأمين: خدمة (smc) تعكف لجنة مختارة من الهيئة التشريعية القومية على دراسة مشروع تعديل الدستور للعام2016، توطئة لتقديم تقرير عنه للهيئة في الفترة القادمة للتداول حوله وفق الإجراءات المقررة والمنصوص عليها في المادة 224 من الدستور الإنتقالي لجمهورية السودان للعام2005 علاوة على النصوص ذات العلاقة بلائحة تنظيم اعمال المجلس.. وفي هذه الإطار تلقى المركز السوداني للخدمات الصحفية أفادة من الدكتور مولانا محمد احمد سالم الخبير الدستوري المعروف والمستشار القانوني السابق للبرلمانات السودانية قرابة العشرين عاما.. اتصلنا به في مقر عمله بدولة الكويت الشقيقة، حيث يعمل منذ سنوات هناك مستشاراً قانونياً بمجلس الامة الكويتي.. ورغم مشاغل الرجل ومسئولياته الجمة وافق على إعطائنا تعقيب حول مشروع تعديل الدستور.. أشار د. محمد أحمد سالم أن هذا التعديل هو الثالث للدستور الحالي. الذي سبقه تعديلان.. الاول بعد انفصال الجنوب وكان الغرض منه حذف كل النصوص والإشارات المتعلقة بالجنوب بما في ذلك المؤسسات الدستورية والتدابير المتعلقة بقسمة السلطة والثروة وسائر الاحكام الانتقالية المرتبطة بالجنوب قبيل الإنفصال.. والتعديل الثاني للدستور كان عام 2015 وطال مسائل جوهرية، كان في مقدمتها استبدال الية اختيار الولاة بحيث تكون بالتعيين بواسطة رئيس الجمهورية عوضا عن الانتخاب. وكذلك توسيع صلاحيات جهاز الامن لتشمل كافة تدابير الوقاية والضبط والتحفظ بدلا من حصر صلاحياته وفق المادة151 في جمع المعلومات وتحليلها وكذلك موضوع تبعية ملكية الاراضي ومحاكم الشرطة.. ثم جاء مشروع التعديل الراهن عقب اقرار مخرجات مؤتمر الحوار الوطني. وقال د. سالم أنه رغم تعدد التعديلات (قرابة العشرين تعديلاً).. الا انها تصب في قضيتين اساسيتين، الاولى فصل النيابة العامة من وزارة العدل، والثانية استحداث منصب رئيس لمجلس الوزراء، وأضاف: انا شخصيا كنت من المطالبين بالغاء الدستور الانتقالي مباشرة بعد فصل الجنوب بدلا من عمليات الترقيع والتعديل الجزئية، ويواصل: هذا الدستور صدر في ظل ظرف سياسي ومرحلة من مراحل تطورنا الدستوري وكان نقلا بالمسطرة وبتفاصيل ممعنة في التطويل والتعقيد لاتفاقية نيفاشا للسلام، وهو الدستور الوحيد في العالم الذي كان يخضع لوثيقة سياسية اواتفاقية اقل منه درجة ومرتبة بدلا من ان يكون الدستور الانتقالي هو القانون الاسمى. كانت الاتفاقية هي الاعلى. وخشية مخالفتها اضطر واضعوه لحشوه بالتفاصيل والجزئيات.. الان اصبحت اتفاقية السلام بخيرها وشرها جزء من الماضي، وتغيرت كل المعطيات. وانفصل الجنوب وانتقلت البلاد الى واقع مغاير تماما.. ولو نظرنا اليوم نظرة فاحصة لما تبقى من دستور نيفاشا فلن نجد الا وثيقة الحقوق وماعداها هي ذات نصوص دستور1998.. لذا كان راى عدد مقدر من القانونيين ان دستور2005 استنفذ اغراضه وفقد مبرارته السياسية والواقعية. ويشير د. سالم الان هناك توجه لاعداد دستور جديد يقوم على مخرجات الحوار الوطني، وأنه لولا ذلك لكرر اقتراحه بالغاء الدستور الحالي فورا وبجرة قلم، قائلاً بيد ان علينا ان ننتظر الهيئة التاسيسية المزمع انتخابها بعد الفترة الانتقالية عام2020.. ويمضي د. سالم في حديثه عن التعديلات الدستورية الحالية:- عودة الى موضوعات التعديل الحالي، ساتجاوز الكثير من الملاحظات الشكلية المتعلقة بالصياغة والمصطلحات..املا ان يقوم خبراء الصياغة لاحقا بتدارك ذلك. بالنسبة لموضوع فصل النيابة العامة عن وزارة العدل نلاحظ ان مشروع التعديل اعاد صياغة المادة (133) الحالية واستحدث مادة جديدة هي المادة (133أ)..وتنص المادة الجديدة على انشاء سلطة قضائية مستقلة تسمى النيابة العامة تتولى مهام تمثيل الدولة والمجتمع في الادعاء العام وكافة اجراءات ماقبل المحاكمة.. وان يراس هذه السلطة نائب عام يعينه رئيس الجمهورية.. بداية لابد من الاشادة القوية بهذه المبادرة وهذا التعديل..هو انجاز كبير يحسب لصالح الحكومة..لقد جاء ذلك في برنامج اصلاح الدولة الذي يرعاه النائب الاول للرئيس.. وظن كثيرون ان الحكومة تناور وتراوغ.. لكنها سارت خطوات عملية وضمنت المبادرة في وثيقة التعديل.. ليس سرا ان فصل النيابة عن الوزارة كان مطلبا اساسيا للقانونيين السودانيين منذ انتفاضة ابريل 1985.. وظلت الحكومات ووزراء العدل المتعاقبين في عهد الديمقراطية الثالثة وحتى في سنوات الانقاذ الوطني المنصرمة تماطل في تحقيق ذلك المطلب المستحق.. مبرر الفصل بسيط وقوي.. ويقوم على ان وزير العدل منصب سياسي والوزير ووزارته جزء من الحكومة والجهاز التنفيذي.. وبالتالي لايمكن ان تكون الحكومة حكما وخصما في ان واحد.. وكمثال عملي.. اذا انتقد صحفي الحكومة فان الحكومة (وهي الخصم) هي التي تقوم عبر النيابة التابعة لها بالتحقيق مع الصحفي وضبطه وحبسه وتقييم البينات ضده وتمثيل الاتهام في المحكمة في مواجهته.. قبل فترة مايو كان النائب العام مستقلا.. قاضيا كبيرا منتدب من القضائية.. جاءت مايو فدمجت النيابة مع وزارة العدل.. الان وبعد عشرات السنين يجري اصلاح ذلك الخطا الفادح.. وبموجب التعديل المطروح سوف تستمر وزارة العدل في تصريف مهامها الاخرى كمستشار للحكومة والدولة وتقدم باقي الخدمات القانونية من صياغة تشريعات او تسجيل شركات او عون قانوني او تنظيم لمهنة القانون او صياغة الاتفاقيات الدولية والعقود الحكومية..الخ. تبقت ملاحظتان في هذا الشان.. اولهما لغوية وصياغية.. اشار النص الي ان النيابة العامة هي سلطة قضائية مستقلة، لكن هل هي فعلا سلطة قضائية؟..هل محكمة؟.. هل تملك اصدار احكام قضائية ملزمة؟..الاجابة..لا والف لا.. هي في الواقع سلطة عدلية مستقلة. الملاحظة الثانية..ان مجرد النص على ان النائب العام القادم سيكون مستقلا عن الحكومة وغيرها لايكفي.. الا اذا كفلت الدولة له مقتضيات الاستقلالية والحماية الكافية..وتوفرت ارادة سياسية بعدم التدخل في عمله او ممارسة ضغوط عليه.. ولابد ايضا من التدقيق في الاختيار لان الموقع حساس ومفصلى ومناط احقاق للحق وتصدى للظالم.. لابد من الشخص الكفء والشجاع والمتجرد والمستقل حقيقة. نلتفت بعد هذا لموضوع استحداث منصب رئيس مجلس الوزراء.. ونقول بدء ان ذلك مطلب قديم.. وتوصية من توصيات الحوار.. والغاية منه بينة وهو تمكين البرلمان من محاسبة ومساءلة الحكومة ذلك لأن النظام الرئاسي الذي نتبعه لا يجيز للبرلمان مساءلة الرئيس إذ أنه منتخب من الشعب مباشرة.. وحتى لا تغل أيدي المشرعين وللحيلولة أحتماء الحكومات الفاشلة بالرئيس إبتدع الفرنسيون في ظل الجمهورية الخامسة دستور 1985 فكرة النظام الهجين بين الرئاسي والبرلماني نظام فيه رئيس جمهورية منتخب من الشعب غير مسؤول أمام البرلمان ورئيس وزراء منتخب من البرلمان ومساءل أمامه. في نصوص التعديل الحالي استحدث المنصب وحددت له صلاحيات بيد أن المواد 70 و76 تفيدان بأن تعيينه يتم بقرار من رئيس الجمهورية وكذلك إعفاءه.. ماذا عن دور البرلمان.. جاء في نص المادة 70 أن رئيس مجلس الوزراء يكون مسؤولا عن أداءه أمام رئيس الجمهورية وأمام المجلس الوطني.. السؤال ما هي حدود هذه المسؤولية أمام البرلمان؟.. بالنسبة لرئيس الجمهورية الأمر واضح فهو يعين ويعفي لكن سلطة المجلس بالمقابل في مواجهة رئيس مجلس الوزراء مبهمة وغامضة وعائمة.. ما المقصود بأنه المسؤول هل يمكن طرح الثقة فيه؟. هل يمكن مثل الوزير العادي استجوابه والتوصية بعزلة؟.. كل ذلك غير واضح .. ولايمكن تركة للوائح المجلس.. فهذه مسألة جوهرية وليست جزئية صغيرة ..وحتي سلطة المجلس وفق المادة 91 في استجواب الوزير لا تشمل رئيس مجلس الوزراء ..صحيح أن المجلس يملك بموجب التعديل المطروح توجية الأسئلة لرئيس مجلس الوزراء واستدعائه لتقديم بيان.. لكن لايوجد نص مباشر او غير مباشر بحق الرجل.. فاذا كان ذلك قد سقط سهواً فيمكن تداركه.. اما اذا كان القصد أن تقتصر صلاحية النواب في معرض مساءلة رئيس مجلس الوزراء على توجيه الأسئلة وطلب البيانات ..فهذه ليست مساءلة يعتد بها ولا تستحق كل هذا الجهد والضجة. باختصار شديد، ما الذي يجعل رئيس الوزراء القادم يأبه او يحترم او يضع حساب لبرلمان لا يد له في تعيينه او التوصية باعفائه.. بهذه الطريقة نكون هدمنا هذه الفكرة الصائبة وافرغناها من محتواها.. بل ان من شان ذلك ان يتيح للمتشككين في جدوى الحوار ومصداقية الحكومة سانحة ذهبية. ارى ان يتبنى المجلس الوطني مبادرة بتعديل النص بحيث يجوز للمجلس الوطني باغلبية الثلثين مثلا اصدار توصية بعزل رئيس مجلس الوزراء عقب استجوابه.. وانه لم يعد متمتعا بثقة المجلس.