خطوط الجنائية الدولية: حمراء في أمريكا وخضراء في السودان مصطفى عبد العزيز البطل يستحق الخبر الذي تداولته وكالات الأنباء أول أمس الجمعة بشأن مقاطعة حكومة الولاياتالمتحدة لاجتماع مجلس الأمن الدولي بنيويورك المخصص للتداول والتذاكر والاحتفال بالذكرى العشرين لإنشاء المحكمة الجنائية الدولية وقفة تأمل. الولاياتالمتحدة لم تتغيب فقط عن الاجتماع بحيث يكون هناك فرصة لإيجاد أي عذر، من شاكلة الأعذار الاعتيادية المألوفة، للغياب ولكنها أرادت أن ترسل رسالة واضحة للكل في المجتمع الدولي، ليس فقط بوسيلة الغياب وإنما بالمجاهرة بقرار المقاطعة، بحيث أصدرت الخارجية الأمريكية بيانا قصيرا أعلنت فيه أن إدارة الرئيس دونالد ترامب قررت عدم المشاركة في الاجتماع المتعلق بالمحكمة الجنائية. وكأن ذلك وحده لا يكفي في مورد إعلان المقاطعة الأمريكية لشئون المحكمة الجنائية الدولية، صرح مسئول بارز في البيت الأبيض بأن الولاياتالمتحدة رصدت بعض (انشغالات) للمحكمة الجنائية بقضايا تتعلق بعمليات الجيش الأمريكي في أفغانستان، ثم أضاف المسئول الأمريكي بأن حكومة الرئيس ترامب تقوم حاليا بإخضاع موقفها وعلاقتها بالمحكمة الجنائية للمراجعة! ما المقصود يا ترى بعبارة (إخضاع علاقتها بالمحكمة الجنائية للمراجعة)؟ ذلك أنه في علم الكافة أن الولاياتالمتحدة ليست لديها أية علاقات بالمحكمة الجنائية الدولية ولم توقع أصلا على البروتوكول والاتفاقية المنشئة لتلك المحكمة. الموقف الأمريكي منذ البداية كان واضحا وهو ينطلق من مبدأ السيادة كما تراه واشنطن وجوهره أن الولاياتالمتحدة لا تسمح لأي جهة غير أمريكية بإخضاع أي مواطن أمريكي لأي نوع من التحقيق أو المحاكمة أو المحاسبة، ويتعلق الأمر أساساً بالعمليات العسكرية. الولاياتالمتحدة يمكن لها أن تهبط بخيلها ورجلها في أي مكان في العالم وتتسبب في قتل مليوني إنسان، كما هو الحال في العراق، ونصف مليون انسان كما هو الحال في افغانستان، ولكن المتسببين في هذه المقاتل الجماعية يتمتعون بحصانة كاملة وفقا للقانون الجبروتي الأمريكي. ولكن أمريكا تعايشت كثيرا مع حقيقة وجود المحكمة الجنائية، بل وسعت للاستفادة منها وتوظيفها كأداة للضغط السياسي ضد من ترى فيهم خصوما كما في الحالة السودانية، فما الذي جعلها تقلب ظهر المجن على حين غرة كما حدث أول أمس عند صدور بيانها بشأن مقاطعة الفعاليات المتصلة بالمحكمة في مجلس الأمن الدولي؟ أظنني بذلت جانبا من الإجابة في فقرة متقدمة! ولأن أمريكا (عينها قوية) فإن المسئول الذي ادلى بالتصريح المتقدم لم يخف حقيقة أن واشنطن غاضبة من تجرؤ بعض موظفي المحكمة الجنائية بمجرد محاولة التحقيق وإثارة أسئلة حول تجاوزات حقوق الإنسان في أفغانستان وتورط الجيش الأمريكي في غارات وعمليات عسكرية مكثفة راح ضحية لها أعداد كبيرة من المدنيين الأبرياء! وراء الكواليس في المحافل الدولية لا أحد يجهل حقيقة الكراهية المطلقة التي تكنها الولاياتالمتحدة للمحكمة الجنائية. قبل سنوات وفي جلسات مغلقة للكونغرس الأمريكي تبودلت خطب قال فيها ممثلو الشعب الأمريكي ما لم يقله مالك في الخمر عن تلك المحكمة، وتبارى هؤلاء في إظهار الازدراء لها بغير تحفظ. وفي ذلك السياق، أجاز الكونغرس القانون الشهير الذي عرف باسم Servicemen Protection Act وترجمته الحرفية قانون حماية أفراد الجيش الأمريكي. ولك أن تصدق أو لا تصدق – أعزك الله – أن هذا القانون يخول لرئيس الولاياتالمتحدة صلاحيات استخدام القوة، بما في ذلك شن الحرب، لتحرير أي جندي أو مواطن أمريكي ومنع مثوله أمام المحكمة الجنائية الدولية. ويعرف هذا القانون في مصطلحات الصحافة والإعلام الأمريكي باسم (قانون غزو لاهاي)! ولا بأس من أن أمدك بمثال ناطق آخر يدلنا على أن الولاياتالمتحدة إنما هي على قلب رجل واحد في مقتها واحتقارها للمحكمة الجنائية الدولية. في ديسمبر من العام 2015 ، في عهد إدارة الرئيس باراك أوباما، زار وزير الخارجية الأمريكي جون كيري مدينة لندن. وخلال حفل عشاء حضره السفراء العرب في العاصمة البريطانية، وأثناء تبادل الوزير الأمريكي الحديث مع الدكتور رياض المالكي وزير خارجية السلطة الفلسطينية، قال جون كيري بصوت مرتفع سمعه كل الحضور وهو يوجه النصح للوزير الفلسطيني: "إياكم والتوقيع على اتفاقية المحكمة الجنائية الدولية". ثم زاد في حق تلك المحكمة بعض كليمات فاجرات. خ تم الوزير الأمريكي نصيحته لعربان لندن بالقول: "المحكمة الجنائية عندنا هي الخط الأحمر لكل الخطوط الحمراء"! هل ترى، أعزك الله، هذا التناقض المهول؟! ولكن أمريكا ليست كلها تناقضا ونفاقا. هاك، رعاك الله، واقرأ هذا النص الذي كتبه حبيبنا اليهودي الأمريكي هيرمان كوهين مساعد وزير الخارجية الأمريكي السابق للشئون الإفريقية وأستاذ العلاقات الدولية الحالي في جامعة جون هوبكينز ورئيس مركز كوهين وودز للاستشارات في تغريدة له أول على حسابه التويتري. كتب هيرمان كوهين: (السودان لم يرع أي عمل إرهابي منذ 1998 ولكن الولاياتالمتحدة ما برحت تبحث عن أعذار واهية من أجل تمديد بقائه في قائمة الدول الراعية للإرهاب. لا بد من إنهاء هذا الوضع الآن وفورا). البركة في هيرمان كوهين. جزاك الله كل خير يا كوهين. لا عدمناك!