وعلى الرغم من احتفائنا بهذا الجُهد العلمي، إلا أننا أبدينا مجموعة من الملاحظات بقصد التسديد والمقاربة. منها السؤال عن التوقيت الذي أُطلقت فيه الوثيقة وغياب الحلول الخلاقة مع تغليب أو تبني وجهات نظر معينة لأطراف الصراع مع تجاهل وجهة نظر الحكومة التي تُمثل طرفاً أساسياً في هذا الصراع. ثم أبدينا بعد ذلك بعض الملاحظات عن الديباجة في الفقرة الأولى والثانية. وفي الفقرة الثالثة من الديباجة (إذ يُدينون كافة أعمال العنف ضد المدنيين، وانتهاكات حقوق الإنسان، يؤكدون ضرورة القبول الكامل وغير المشروط من قبل جميع الأطراف المشاركة في النزاع المسلح الجاري، بالتزاماتها بموجب القانون الإنساني الدولي، والقانون الدولي لحقوق الإنسان، والقرارات ذات الصلة الصادرة عن مجلس الأمن). وإذا قبل الجميع بالجزء الأول من الفقرة بإدانة أعمال العنف ضد المدنيين وانتهاكات حقوق الإنسان، ولا يُعقل وغير مستساغ (القبول الكامل وغير المشروط) بالالتزام بالقانون الدولي الإنساني. ومعلومٌ أن القانون الدولي الإنساني تخضع له الصراعات الدولية أي الصراعات بين الدول وبالنسبة للصراعات الداخلية فهذه لابد من أن تخضع لمعايير معينة ومطلوبات حتى يتم إخضاعها لقوانين الصراعات الداخلية غير الدولية. فهل اعتبر واضعي الوثيقة أن الحرب في دارفور هي حرب دولية ؟ وهل إيراد تعبير (القبول الكامل وغير المشروط) منطقي للمساواة بين دولة ومن حمل السلاح ضد سلطان الدولة ؟ ثم تُلحق بهذه الفقرة وبإصرار (والقرارات ذات الصلة الصادرة عن مجلس الأمن) ولا تخفي الإشارة هنا للقرار (1593) والخاص بإحالة ملف دارفور لمحكمة الجنائيات الدولية. ولا يخفى على واضعي الوثيقة الموقف المبدئي للحكومة من الجنائية. وكل من في العالم يعلم تماماً الاستخدام السياسي للجنائية. وهذا ما نفصله عند الحديث عن العدالة الجنائية الانتقالية. هذا مع ملاحظة إغفال اتفاقية أبوجا تماماً كمرجعية للوثيقة، وبالتأكيد فإن هذا الإغفال يعني تجاهل فريق مهم وموقع مع الحكومة، هذا إضافة للقبول الذي وجدته اتفاقية أبوجا والجهد الدولي الذي كان خلفها، وعدم التحجج بعدم إنفاذها حتى الآن، لا يعطي واضعي الوثيقة إبعاد هذه الاتفاقية. جاء الفصل الثاني تحت عنوان (إقليم دارفور) ومن خلال متابعة نصوص الاتفاقية نُلاحظ تردد واضح وارتباك في اختيار الإقليم كنظام حكم. فمرةً نجد الإشارة إلى الإقليم وبين الأقواس (وولايات دارفور) الفقرة (6) كمثال، وفي أماكن أخرى نجد الإشارة للإقليم وبين الأقواس (ولايات دارفور) الفقرة (197). ومرةً أخرى الإقليم أو (ولايات دارفور)(الفقرة 47/ه). ومرةً الإقليم (الولايات) ومرة الإقليم و(الولايات)(الفقرة 115). هذا الاضطراب في الاستخدام يعني أحياناً أن المطروح هو الخيار بين الإقليموالولايات وأحياناً أن الخيار الوحيد هو الإقليم، ولكن بالإطلاع على الوثيقة وروحها نُلاحظ أن الوثيقة قد اختارت الإقليم كنظام للحكم في دارفور وهو أمر عليه مجموعة من الملاحظات، منها أن وثيقة أبوجا وهي اتفاق ملزم للحكومة وحركة التحرير جناح مناوي وتم الاتفاق فيه على إجراء استفتاء يُحدد فيه أهل دارفور خيارهم بين الحكم بنظام الإقليم أو الولايات. كما أن اختيار الإقليم كنظام للحكم يُمثل رأي بعض الحركات منها حركة العدل والمساواة والتي أعلن رئيسها د. خليل أن نظام الحكم في دارفور يكون على مستويين مستوى الإقليم ومستوى الولايات. فترجيح خيار بعض الحركات وإهمال خيار قوى أخرى لا نعتقد بأنه يكون حلاً أمثل، خاصةً إذا أُستبعد الخيار الديمقراطي والذي بواسطته يمكن أن يُحدد مواطني دارفور شكل الحكم الذي يختارونه. وواضح من هذا الخيار بروز الروح الاقصائية والتي هي أحد السمات المميزة للسياسة السودانية.فما لم يتم احترام رأي الأغلبية مع الأخذ في الاعتبار آراء الأقلية وإيجاد وسيلة للتوفيق بين رغبة الأغلبية ومشاركة الأقلية لن يكون هناك استقرار. وهذا ما ندعو له بإيجاد الحلول الخلاقة والعبقرية وليس مجرد ترجيح خيار على خيار آخر. في الفصل الرابع تحت عنوان (أهل دارفور): أُقترح مشاركة أهل دارفور على كافة مستويات الحكم وفي الخدمة المدنية والقوات المسلحة القومية والشرطة وأجهزة الاستخبارات وكذلك مراعاة هذا التمثيل أثناء الفترة الانتقالية حسب نص الفقرات (8، 9). ولئن سلمنا جدلاً بخيار الإقليم أو الولاية واعتمدنا النظام الفيدرالي، وقبلنا بالتمثيل لكافة ولايات أو أقاليم السودان بالمشاركة في كافة مستويات الحكم. فلا أجد أن ذلك يكون مقبولاً بالنسبة للقوات النظامية سواءاً كان في القوات المسلحة أو الشرطة أو الأجهزة الأمنية والاستخبارات، وذلك لسبب بسيط هو أن هذه الأجهزة هي التي تكون رمزاً للوحدة الوطنية فلا يمكن الانتماء إليها حسب نظام المحاصصة. كان يمكن أن يكون مقبولاً لو كان الاقتراح بتحديد مؤهلات معينة وتكون المنافسة فيها مفتوحة للجميع دون الإشارة إلى إقليم أو ولاية أو عرق. ويدعم ذلك كل الدول التي تتبنى النظام الفيدرالي، وأوضح مثال لذلك الولاياتالمتحدة حيث يمارس سكان الولاية كافة أشكال الحكم ومستوياته في داخل الولاية أو الإقليم ولكن المستويات الاتحادية تحكمها قواعد عامة وتكون متاحة لكل مواطني الولايات أو الأقاليم. وحتى في لبنان التي تُقسم فيها مستويات الحكم على نظام المحاصصة الطائفية، لا تخضع القوات المسلحة إلى المحاصصة. وكما ذكرنا سابقاً أن معظم مقترحات هذه الوثيقة تُعمق من الجهوية القبلية وذلك لغياب الهدف الإستراتيجي كما ذكرنا سابقاً ولهذه الأسباب أيضاً. الباب الخامس جاء تحت عنوان (العدالة الانتقالية) وواضح من هذا الباب التبني الكامل لوجهة نظر الحركات المتمردة وأحياناً يكون التناول أكثر تطرفاً من الحركات المتمردة وأحياناً يكون التداخل بين الخيارات والخلط بينها كالذي فقد البوصلة أو الاتجاه (راح منه رأس الخيط). ويظهر هذا التداخل في المبادئ التي تخلط بين قيم أهل دارفور وتقرير لجنة حكماء أفريقيا وقبول قرارات مجلس الأمن في الفقرات (264 265 266). أما الفقرة (267) فقد أخرجت مركز السلام ومعهد ماكس بلانك من إطار الموضوعية والعلمية تماماً فقد جاءت الفقرة كما يلي (تُدين الأطراف الموقعة على هذا الاتفاق كافة انتهاكات حقوق الإنسان ذات الصلة بالنزاع المسلح الذي يدور في دارفور، والتي حدثت ويتواصل حدوثها منذ شهر أبريل 2003م حتى التوصل إلى الاتفاق النهائي للسلام في دارفور (خيار منذ شهر يونيو 1989م حتى التوصل إلى الاتفاق النهائي للسلام في دارفور). وإذا تم القبول بالشق الأول من الفقرة للإدانة حتى التوصل لاتفاق نهائي. فكيف يُستثاق عقلاً ومضموناً ونزاهةً علمية أن يكون أحد الخيارات للإدانة منذ يونيو 1989م، وهل مشكلة دارفور والانتهاكات تمت في عهد الإنقاذ ؟ وإذا كانت الإدانة لكافة الانتهاكات فلماذا لم ينص على كافة الانتهاكات منذ مطلع يناير 1956م، ليشمل ذلك الكافة ؟ ويُمكن أن يكون محل قبول، أما أن يكون أحد الخيارات للإدانة للأعمال التي تمت منذ العام 1989م، ففيه ظلم للعلماء الذين شاركوا وساهموا في وضع هذه الوثيقة، كما يجعل الشكوك تقوى وتزيد تجاه الأهداف والأجندة الخاصة لهذه الوثيقة. في الفقرات (268 269 270 271) اختلط فيها (الحابل بالنابل) من مفاهيم إذا تم أخذها تتضارب مقاصدها ومعانيها، فالوثيقة في هذه الفقرات تُريد أن تجري العدالة على المسئولين ذوي المناصب الرفيعة، وتُريد أن تكون هناك مصالحة، ورفع للضررَ والتعويض، لن يُستثنى أي طرف من أطراف النزاع المسلح الدائر في دارفور من المسئولية الجنائية الشخصية، لا يمكن التذرع بالحصانة أو قبولها فيما يتعلق بالمسئولية الجنائية الشخصية، يحتكم جميع مرتكبي أعمال العنف إلى الإجراءات المعروفة في التقاليد المحلية المعنية بغرض تفعيل إجراءات البحث عن السلام والحقيقة، بالإضافة إلى المصالحة مع ضحايا أعمال العنف، أو كما يقتضي الحال، الاعتذار إليهم. كيف يتم الفهم لهذه (المتضاربات) بأن تُجرى العدالة على الشخص المسئول جنائياً ويتم أخذ القصاص ؟ كيف يتم الفهم لرفع الحصانات وإجراء العدالة عليهم بعد تحديد مسئوليتهم الجنائية ؟ كيف يُفهم ذلك مع تطبيق الأعراف والتقاليد في دارفور في مثل هذه الحالات والتي تُعالج فيها الديات وجبر الضرر مع التصالح ؟ كيف يتم فهم إجراءات البحث عن السلام والحقيقة والمصالحة مع ضحايا العنف والاعتذار، مع ما تقدم من إنفاذ العدالة مع المسئولين جنائياً ؟ كنت أتوقع أن ترجح الوثيقة أياً من تلك الخيارات المطروحة مع ما يتناسب مع الوضع في دارفور والتي هي أقرب مبادئ إلى العدالة الانتقالية، ولكن يتم التداخل بهذه الصورة والخلط بين المفاهيم والمعاني والمقاصد فنربأ بذلك عن معهد علمي تابع لجامعة الخرطوم بالتنسيق مع المعهد الألماني المعني بفض النزاعات والقانون الدولي. في الفصل الثاني من هذا الباب عرضت الوثيقة (مؤسسات العدالة الانتقالية) لم أفهم من العرض أن تكون هناك خيارات بين هذه المؤسسات. والواضح من العرض أن تعمل كل هذه المؤسسات بحيث تكون جزء يخضع للمحكمة الجنائية الدولية وجزء للمحاكم المختلطة وجزء للأجاويد وجزء للآليات التقليدية وجزء للسلطة القضائية. وبالتأكيد هنا ينطبق على ما ذكرنا في الفقرة السابقة، فكان من المتوقع أن يتم الترجيح لأياً من تلك الآليات حسب مقتضى الحال وما يتناسب مع الصراع، وإما أن يتم الخلط بتلك الصورة من حلول مجلس الأمن ومقترحات لجنة حكماء أفريقيا مع الواقع المحلي وما يتوافر من أدوات العدالة المحلية، فهو أمر يشبه تماماً جمع (حاطب الليل). أما إدراج المحكمة الجنائية وفي أول القائمة، فهو أمر لم يحالفه التوفيق، خاصة ً وأن موقف الحكومة وهي الطرف الرئيسي في الصراع هو الرفض من ناحية مبدئية وعلى أسس قانونية. وهو أمر لم تُُفلح القوى المعادية للحكومة على تحقيقه على الرغم مما تملكه من أدوات ضغط، لتأتي الوثيقة لتجعل الحكومة تقبل به !!! وهنا يساورني شك كبير في أن نوايا واضعي الوثيقة لو كانت تتجه إلى حل مشكلة دارفور لما أدرجت المحكمة الجنائية من ضمن مؤسسات العدالة الانتقالية !!! وينشأ السؤال هنا: هل يرى واضعو الوثيقة أن حل مشكلة دارفور يتم عن طريق تحقيق العدالة فقط ؟ وهل في ذلك تتفق مع رأي محكمة الجنايات الدولية ومع حركات دارفور ؟ أم أنها ترى ضرورة الجمع بين فكرة تحقيق السلام والعدالة ؟ وهل فكرت بأن الحديث عن ذلك هو الذي يقود إلى الحديث عن العدالة الانتقالية أو مؤسساتها ؟ في الفقرة (300) والفقرة (301) جاءت تحت عنوان السلطة القضائية السودانية وحصرت اختصاصاتها في الجرائم العادية المرتكبة بواسطة مجرمين عاديين خلال فترة النزاع دون أن تكون لهذه الجرائم علاقة أصيلة بالنزاع. ويحق لي أن أبدأ بالتعليق على هذا النص بعلامة تعجب (!) فهل هذه الحقيقة تحتاج إلى نص في الوثيقة (!) وذلك لأن القضاء يُمارس هذه الصلاحيات الآن وحتى بالنسبة للجرائم التي تُرتكب في الصراع. ولكن النص هكذا يأتي مفهوماً ومتسقاً بما جاء في الفقرة (301) والتي نصت على أن تخضع السلطة القضائية السودانية لعملية إعادة هيكلة أساسية، قبل أن تكون في وضع يمكنها من أداء مهامها القضائية بحياد واستقلالية. وبهذا تكون الوثيقة المعدة من معهد ينتمي لجامعة الخرطوم أكثر تطرفاً من المدعي العام للمحكمة الجنائية أوكامبو والذي ذكر نصاً في مذكرة اتهامه ضد أحمد هارون وكوشيب (إن ذلك لا يعتبر تشكيكاً في نزاهة القضاء السوداني). في الباب السادس الذي جاء تحت عنوان الوقف الشامل لإطلاق النار والترتيبات الأمنية النهائية. جاء في المادة (307/5)(تُتخذ الإجراءات الضرورية لنزع سلاح وتسريح الجنجويد/ المليشيات المسلحة انسجاماً مع القرارين 1556 و 1564 ... الخ) هذه مقروءة مع المادة (307) (تتعهد جميع أطراف النزاع المسلح بأن القوات الخاضعة لقيادتها على كافة المستويات ستحترم وتُنفذ وتحمي الاتفاق النهائي المرتقب للسلام في دارفور). واضح من هاتين الفقرتين أن الوثيقة انساقت وراء وجهات نظر الحركات المسلحة في دارفور والاستخدام السياسي لكلمة (الجنجويد/ المليشيات) وتُريد أن تنزع سلاح الجنجويد وتُبقي القوات الأخرى بسلاحها تحت قيادتها. الأمر الذي كنت أتوقع أن تطرحه الوثيقة وتجأر بالنزع الكامل للسلاح من كافة المواطنين. وما لم يتم ذلك لن يتم تحقيق سلام في دارفور مهما وقعنا من اتفاقات. وكأن الوثيقة تُريد أن تكرر نفس أخطاء نيفاشا واتفاق أبوجا، الذي أبقى على هذه القوات المتمردة بسلاحها، وهو الأمر الذي بات يُهدد الاتفاقيتين، حتى أن الحركة الشعبية أصبحت ترفع صوتها بمر الشكوى من وجود السلاح عند المواطنين والذي أصبح يُهدد أمن الجنوب ويُشجع على القتال بين القبائل فيما بينها. لقد طغى على الوثيقة في تقديري مطالب المشاركين غير الأكاديميين والعلماء، ولم يستطع العلماء إقناعهم بالمقترحات التي يمكن أن تكون من خلال البحث العلمي والموضوعي حلاً لمشكلة دارفور، لذلك فقد حاولت الوثيقة إرضاء الجميع، ولكنها لم تظفر بالقبول والرضا من الأطراف الرئيسية في الصراع، فقد رفضت الحكومة حتى الاستماع للوفد الذي زار الدوحة واكتفت بمقابلتهم بمسئول من الدرجة الثانية أو الثالثة وبينت اعتراضاتها ورفضها بملاحظات بلغت جملتها (27) ملاحظة. أما حركة العدل والمساواة فقد سافر وفدها إلى هايدلبيرج والتقى بالبروفسور ودلفروم وأمنت الحركة على بعض البنود وتحفظت على أخرى كما تم الاتفاق على التواصل من أجل تنقيح المسودة لتكون شاملة وكذلك لم تجد الوثيقة القبول الكامل من حركة التحرير والعدالة التي تحفظت على بعض بنودها.