لعل تعبير (الهرجلة) هو الأنسب لوصف واقع الهجرة العكسية للمواطنين الجنوبيين إلى الشمال الذين أصبحوا عالقين بمراكز الانتظار بالقرب من ميناء كوستي على أمل نقلهم بالوابورات عبر النهر إلى مناطقهم بالجنوب. وفي جولة قام بها المركز السوداني للخدمات الصحفية بميناء كوستي تجسدت مأساة هؤلاء في أن بعض الجهات دفعتهم دفعاً للسفر ترغيباً وترهيباً ورمتهم في أتون الإهمال، دون أن تكلف نفسها تلافي كارثة إنسانية بدأت تطل برأسها ومرشحة للتفاقم بسبب استمرار تدفق الراغبين في العودة الذين امتلأت بأمتعتهم البصات والناقلات التي تغطي طريق الخرطومكوستي هذه الأيام .. فالعالقون لا يجدون الوابورات التي تقلهم بسبب عدم الالتزام بدفع قيمة الترحيل من مفوضية إعادة التعمير منذ اسبوعين في انتظار الترحيل والتوطين بالجنوب كما ذكر المواطنون الذين يفترشون العراء وتتناثر أمتعتهم على الرصيف بعد أن امتلأت المخازن بها.. وما يزيد التوتر أن الأخبار الواردة من مدن الجنوب تفيد أنه يتم استقبال العائدين في الاستادات المكشوفة والمدارس التي عطلت فيها الدراسة، كما أن الخوف من عدم توفر الغذاء ومعينات الحياة يرفع ثيروميتر القلق لأعلى معدلاته، وإذا كان الهدف من كل تلك المعاناة هو إلحاق الجنوبيين بالشمال بفترة التصويت في الجنوب فإن الأمر فاق حدود صبر المنتظرين الذاهبين للمجهول. عالقون .. دون معينات يحكي أحد المواطنين الجنوبيين مأساته بالقول إنه جاء منذ (13) يوماً وينتظر كل هذه المدة دون وجود بارقة أمل في إمكانية ترحيله إلى الجنوب، وقال إنه سجل أسمه للاستفتاء دون أن يكون متأكداً من أنه سيلحق بالتصويت أم لا، وقال إنه يأكل ويشرب من جيبه لأن الدعم لا يقدم إلا للمسجلين فقط وهناك من جاء منذ شهر ويعاني نفس ما يعاني منه. أحد أصحاب عربات النقل دفار كان يحمل عفش لإحدى الأسر قال إنه يعمل في هذا المجال منذ 6 أشهر ويقوم بنقل الأغراض من الخرطوم والولايات الأخرى إلى كوستي ليتم ترحيله إلى ملكال وواو وجوبا وغيرها من مدن الجنوب عبر النقل النهري. وعن المصاعب التي تواجهه، يقول إن الحمالين الذين ينزلون العفش يطالبون بمبالغ خيالية تصل إلى (400) جنيه فيضطر صاحبه لتركه لمدة يومين إلى أن يجد سعر مناسب كما أنه يدفع رسوماً في الطريق باعتبار أن عربته تجارية لا تتبع لأي منظمة. ولم يكشف صاحب الدفار عن المبلغ الذي يدفع له، لكنه قال إنه مجزي ورغم ذلك لا يرغب في الاستمرار في هذا العمل بعد الآن، ومن الأفضل له أن يعمل في السوق. النوم على الرصيف في مخزن البضائع بالميناء النهري كان الحال يغني عن السؤال فقد امتلأت المخازن عن آخرها وتكدست أغراض المواطنين في الأرصفة المجاورة بصورة سببت صعوبات كبيرة للقائمين على الأمر. ويؤكد صلاح أحمد يوسف المسؤول بشركة النيل أن المخازن تسع لمائتي طن إلا أنها امتلأت وتوزعت بقية الرسائل خارج المخازن، وبسبب وجود البابورات في جوبا فإن عمليات الترحيل يمكن أن تتأخر. ويشدد على أنهم لا يرفضون دخول الأغراض الجديدة لمعرفتهم بمعاناة المواطنين. وخلال جولتنا وجدنا عدد من المواطنين الجنوبيين داخل الرصيف وهم في انتظار أن تنفرج الأمور وطلب أحدهم ويدعى سامي سبت بندق الحديث إلينا ليشرح معاناته فقال إنه بالميناء منذ 14 يوماً في انتظار أن يتم رفع حاويته في البابور ليسافر إلى منطقته ولكن ذلك لم يتم، أما المسؤولون فإنهم يقولون عند سؤالهم أن البوابير لم تحضر من جوبا، وتزداد معاناة هذا الشاب الذي يقول إنه يتناول وجباته ويشتري أغراضه من ماله الخاص كما أنه ينام على الرصيف وسط لسعات البعوض المسبب للملاريا ويضيف بندق (إذا كانوا يريدون مننا التصويت فأنا أشك في قدرتي على اللحاق به). لو كانوا حزمة جرجير.. تحوي مراكز العودة الطوعية التي أنشأتها حكومة الوحدة الوطنية على (10) جملونات بمساحة 160 متراً للواحد، ويسع المركز 900 أسرة، وقد تم تهيئة هذه المراكز لتكون محل انتظار (way station) لمدة يوم أو يومين وليس أسبوعين أو ثلاثة كما هو حادث الآن، ويقول مفوض العون الإنساني بولاية النيل الأبيض فكري عرديب بطل إن العودة في الفترة السابقة كانت طبيعية وبمعدلات عادية، لكن قبل أسبوعين بدأت أعداد كبيرة من المواطنين الجنوبيين بالتوافد إلى الميناء للسفر إلى مناطقهم بالجنوب دون أن يأتي إخطار للمفوضية كما كان يتم في السابق، وهو ما تطلب توسيع عملنا لتقديم الاحتياجات الضرورية لهؤلاء المواطنين حتى لا تحدث مشكلات خاصة في الجانب الصحي. وزارة الصحة أيضاً انشأت غرفة طوارئ وهي تتابع أحوال المنتظرين يومياً وقاموا بدعمهم بعيادة متحركة، علماً بأنه يوجد (36) حمام فقط لكل الموجودين وهو ما يهدد بانفجار صحي وإن كانت الجهات المسؤولة تقوم بدورها في إصحاح البيئة. ويقول المفوض أن هناك مشكلة وسط الراغبين في العودة في الحصول على المياه التي هي مسؤولية الشركات حيث يتم نقل الماء بالتناكر للمراكز لكنها لا تكفي، وهو ما يستدعي تحرك المنظمات، عموماً كل الخدمات التي تقدم تقوم بها الولاية من منطلق التزامها تجاه المواطنين الجنوبيين. ويقيّم المفوض الموقف بالقول إنه تحت السيطرة رغم العدد الكبير الذي يصل إلى حوالي (500) أسرة بواقع 2.755 فرد ولكنها أرقام غير نهائية تتغير من الصباح للمساء ومن يوم إلى آخر، وفي السابق كان معدل الرجوع 700-900 أسرة في الشهر لكن الواقع تغير الآن. الإعلام .. ممنوع الدخول منظمة فار تقوم بدور كبير في توفير المعينات للمتواجدين في المراكز وفي جولتنا زرنا مقرها داخل أحد المراكز رغم محاولات منعنا من بعض المشرفين الذين يمنعون دخول الصحفيين والمصورين، لكن نجحنا في دخول المعسكر بعد أن التزمنا لهم بالتصوير داخل مقر المنظمة فقط، لكن واقع التكدس للعالقين كان واضحاً لنا من الأعداد الكبيرة للأسر التي نام أطفالها ونسائها على الأرض بالقرب من أغراضهم المربوطة بالحبال. وشرحت لنا مسؤولة التثقيف الصحي والعون الإنساني بالمنظمة جوي ايكان فيور الجهود التي يقومون بها منذ 6 أشهر في ميناء كوستي، فالمنظمة لديها عيادة بها طبيب واحد مقابل (100) شخص يأتون في اليوم، ومساعدين طبيين ومعمل و6 مسؤولين عن التثقيف الصحي والفحص الطوعي لمرضى الايدز والإرشاد النفسي وتقديم الخدمات للأطفال، ونقوم بتقديم المياه كذلك حسب الاستهلاك اليومي. إضافة لذلك نقدم الناموسيات وجركانات المياه والصابون ومشمعات البلاستيك وحتى البطاريات للإضاءة الليلية. وتقول مسؤولة المنظمة أن خدماتهم تشمل أكثر من (400) أسرة داخل المركز أي حوالي (5400) شخص وهناك مجموعات لم تكتمل عمليات تسجيلها حتى الآن. ورغم أن المنظمة تقدم خدماتها إلى جانب عدد من المنظمات مثل الهلال الأحمر وبرنامج الغذاء العالمي والطفل العالمية إلا أن الخدمات غير كافية في ظل تزايد أعداد القادمين من كافة ولايات السودان.
ومن منظمة النوع الاجتماعي توضح خالدة عوض سليمان الدور الذي تقوم به المنظمة بالقول أن دورهم مستمر منذ بدء عمليات العودة الطوعية في الجانب الصحي والإرشادي وتقديم الإسعافات الكبيرة خاصة وسط النساء الحوامل، اللائي يعانين أثناء رحلة العودة لمدة تصل لشهر كامل وهذا ما يحتاج لمتابعة لصيقة لهن وتحويل بعضهن لمستشفى كوستي إذا استدعت الحالة، ومعظم جهود المنظمة منصبة تجاه الأطفال. وتضيف خالدة أن المنظمة تهتم بعلاج أمراض الملاريا والإسهال المتفشي وسط الأطفال كما أن المنظمة تقوم برفع تقارير دورية حول أداءها في مراكز الانتظار للوقوف على المعوقات ومحاولة علاجها أولاً بأول.