لا استطيع أن أغادر المكان الذي أنا فيه إذا كان المتحدث البروفيسور علي شمو، حديث تلفزيوني أو إذاعي أو في ندوة عامة وفي جلسة مثل التي تتيحها – على شح – بعض مجالس الخرطوم أو الأسفار الخارجية. الرجل كنز متحرك من المعلومات والمعارف يقدمها بسلاسة ومتعة، نادراً ما تجدها عند غيره، قاموسه متجدد ومعارفة متصلة بلا انقطاع لا تجده معتقلاً في محفوظات يرددها باعتيادية رتيبة كبعض الذين يعرضون بضاعتهم المزجاة على كل المنابر، أفكار بالية في أزياء تعبيرية مهترئة، تخرج للسامعين يسبقها غبار السنين وتصحبها حشرات العتت. في مستهل التسعينيات كانت الأصوات تعالى خوفاً وهلعاً من الأطباق الفضائية التلفزيونية، والفتاوى تناطح بعضها بعضا، والشرطة تقدم حافزاً مالياً لمن يبلغ عن طبق جاره غير المصدق به وتلفزيون السودان يضع شبكة التشويش على سيقان الممثلات. بهدوء خرج علي شمو بعبارة تجلي طبيعته في التفكير (النظر إلى المشكلة من خارجها لا من داخل فضائها النفسي)، قالها نصيحة مجتمعية جامعة مانعة (البديل لا العويل). أثناء عملي في إعداد الأفلام الوثائقية لاحظت أن اسم وصوت علي شمو كان حاضراً في أغلب الأحداث السياسية والإعلامية والفنية الكبرى منذ إعلان الاستقلال. نقلت له هذه الملاحظة أثناء وجبة غداء بفندق الحميراء بجدة عامرة بالأنس الجميل، في إحدى الزيارات للمملكة العربية السعودية واضفت عليها ملاحظة استفهامية عن غياب اسمه في منتصف السبعينيات أثناء الانقلابات الفاشلة على نظام جعفر نميري، ضحك الرجل ملء شدقيه ثم قال: (نعم في الفترة دي كنت بدولة الإمارات العربية). بعض من أصحاب المواقف المتطرفة والأمزجة السياسية الحادة ينظرون للرجل عبر عدسات ملونة يرون فيه مساندة ومناصرة مثابرة للأنظمة الشمولية والعسكرية وتماهي مع خطها السياسي يمينياً كان أو يسارياً ويقولون إنه لا يتخذ مواقف نهائية قاطعة لا تحتمل الاستدراكات والتباس الألوان. وعلي شمو في حقيقة أمره ليس سياسياً يقاس ويحكم عليه بمقاييس السياسة السودانية التي من أهم مهاراتها اللعب بالبيضة والحجر والبراعة في تبرير الفشل وتأسيس النجاح على مستوى الأماني والوعود وبيع السراب في حواري العطشانين. فهو رجل معرفة وعلم مبذول العطاء في كل الفصول يحتفظ بلونه وطعمه الخاص، بغض النظر عن لون الأواني! أقول ذلك رغم أن لي تحفظاً على تجربته في مجلس الصحافة والمطبوعات وسأكون سعيداً إذا استقال منها اليوم قبل الغد. كنت سعيداً جداً بالتكريم الرائع الذي أقامته كلية قاردن سيتي للبروف شمو، بحضور ومشاركة كوكبة متميزة من أهل الإعلام وقدامى المبدعين، فالرجل يستحق منا الاحتفاء والتقدير فهو مثل كثيرين أمثال البروفيسور عبد الله الطيب والأستاذ الطيب صالح والباشمهندس صغيرون الزين صغيرون والدكتور كمال شداد ومحمد وردي، مشاريع قومية غير خاضعة للخصخصة عبر لجنة عبد الرحمن نور الدين المكلفة بالتصرف في مؤسسات ومرافق القطاع العام.