مع تواترالجدل الذى ثار عقب الكشف عن إتجاه الدولة للقيام بحزمة إصلاحات إقتصادية جزرية ، تم إختزال تلك الإصلاحات فى شق واحد ، ألا وهو رفع الدعم عن المحروقات والقمح ، وتم تجاهل المكونات الأخرى من حزمة الإصلاحات ، وهي الإصلاحات التي ستطرأ على هياكل وأجهزة الحكم على المستويين المركزي والولائي ، على غرار ما جرى من إصلاحات جذرية أدت إلى بعض التعديلات في أجهزة الحكم في العام 2013م، فى إطار خفض الإنفاق العام للدولة. شهد السودان منذ قيام ثورة الإنقاذ الوطني في 30 يونيو 1989م ، توسعاً مضطرداً في مواعين وأوعية الحكم المحلى واللأمركزية السياسية على كافة المستويات ، وهو ما أتاح فرصاً واسعة أمام الأجيال الصاعدة للمشاركة السياسة ، وكسر إحتكار البيوتات الطائفية والقبلية للسلطة والثروة والنفوذ. وكان الهدف من توسيع قاعدة الحكم والمشاركة ، وضع حد للمشكلات التاريخية المتعلقة بكيفية القسمة العادلة للثروة والسلطة ، وهى المشكلات التي عانت منها البلاد ردحاً من الزمان ، وبعد مداولات المؤتمرات الشعبية ، فى بداية عهد ثورة الإنقاذ الوطنى ، وخاصة بعد صدور توصيات مؤتمر (الحوار الوطني حول قضايا السلام) ، والذى أنعقد الخرطوم فى الفترة من 9سبتمبر الى21 اكتوبر 1989م ، والتي بحثت -من ضمن عديد القضايا الوطنية التي تناولتها تلك المؤتمرات- قضية الحكم ، حيث إنطلقت الدعوات والتوصيات بضرورة إعتماد الحكم اللامركزى أو الفيدرالية السياسية ، كأفضل وسيلة لتحقيق الإستقرار السياسي من جهة ، ولتلبية متطلبات الجماعات والكيانات الإقليمية التى ترفع شعارات المطالبة بالمشاركة السياسية ، والتوزيع العادل للدخل القومي فى البلاد. مراسيم دستورية بعد أن كان السودان يحكم عبر تقسيمه ستة أقاليم فقط ، جاء المرسوم الدستوري الرابع في العام لسنة 1991 ليعيد تقسيم البلاد إلى (26) ولاية (عشر ولايات بجنوب السودان قبل الإنفصال ، و(16) ولاية بشمال السودان) . وقد عرف السودان التدرج فى أشكال بسط المشاركة السياسية ، وتفويض المزيد من الصلاحيات للمستويات الإدارية الأدنى ، ففي العام 1951م صدر قانون الحكم المحلى، ثم من بعد ذلك قانون "الحكم الذاتي لجنوب السودان" عام 1972م بموجب اتفاقية أديس ابابا، وقانون "الحكم الإقليمي" عام 1981م ، وكانت قد صدرت عدة مراسيم منظمة لأجهزة الحكم الاتِحادى بالولايات،وإعادة تقسيم السلطات على مستويات الحكم المختلفة، وتنظيم أجهزة الحكم الاتِحادى ، وذلك ضمن المراسيم الدستورية والقوانين التالية : (1) المرسوم الدستورى الرابع لسنة 1991م، (2) قانون تقسيم المحافظات لسنة 1991م ، (3) قانون الحكم المحلى لسنة 1991م ، (4) قانون اللجان الشعبية لسنة 1992م، (5) المرسوم الدستورى العاشر لسنة 1993م (إعادة تقسيم الولايات) ، (6) المرسوم الدستورى الحادى عشر لسنة 1994م (تنظيم أجهزة الحكم الاتِحادى بالولايات) ، (7) المرسوم الدستورى العاشر لسنة 1995م (إعادة تقسيم السلطات بين مستويات الحكم الاتِحادى) ، (8) المرسوم الدستورى الثالث عشر لسنة 1995م (تنظيم أجهزة الحكم الاتِحادى) ، (9) قانون الحكم المحلى لسنة 1995م (قانون الصندوق القومى لدعم الولايات لسنة 1995م) (10) المرسوم الدستورى الرابع عشر لسنة 1997م (تنفيذ اتفاقية الخرطوم للسلام) ، (11) دستور جمهورية السودان لسنة 1998م . (12) قانون الانتخابات العامة لسنة 1998م ، (13) قانون الحكم المحلى لسنة 1998م . (14) قانون قسمة الموارد المالية لسنة 1998م ، (15) قانون ديوان الحكم الاتِحادى لسنة 2001م ، (16) قانون الحكم المحلى لسنة 2003م ، (17) قانون الإدارة الأهلية (تمت الإجازة)، وظلت على هذه الوضعية الإدارية حتى العام 2005م ، حيث تم تذويب ولاية غرب كردفان في ولايتى شمال وجنوب كردفان ، كإحدى إستحقاقات إتفاقية السلام الشامل ، الموقعة بين المؤتمر الوطني والحركة الشعبية بجنوب السودان ، قبل أن تُعاد الولاية مؤخراً بذات الإسم (غرب كردفان)، أغسطس الماضى. عيوب التجربة ورغم أن تجربة الحكم الفيدرالي في السودان ، هى محل إجماع لدى مختلف الأطياف السياسية في البلاد ، كأحد شروط تحقيق الإستقرار السياسي والتنمية المستدامة والمشاركة السياسية العادلة ، إلا أن التجربة صاحبتها بعض المثالب: منها إتساع رقعة البلاد ، مما جعل المُضى قدماً في تطبيق الفيدرالية بشكل عادل مع تصاعد المطالبة بها، أمراً لا مفر منه؛ وإتساع نطاق النعرات القبلية ، وتفشى الإستقواء بها في الصعود السياسي ، جعلها أحد مسلمات العمل السياسي لا تستطيع مؤسسات الدولة القفز عليها أو تجاوزها..ومن عوامل ضعف الحكم الفيدرالى فى البلاد ، الضعف الاقتصاد ، حيث أن إقتصاد البلاد ، هو عبارة عن اقتصادٍ زراعي أو كفائي ، أكثر منه اقتصاداً إنتاجياً أو رأسمالياً ، قائماً على التنوع في هياكله وقطاعاته، التى يرفد بعضها البعض. هذا الإطار جاء مؤتمر تطبيق وتقويم تجربة الحكم الاتحادي أبريل 2002م، برعاية السيد رئيس الجمهورية بهدف تقييم وتقويم التجربة، حيث جاءت أبرز توصياته كالآتي( 26): التأمين على تطبيق الحكم الإتحادي والنظام الرئاسي، والإبقاء على العدد الحالي للولايات، و تقليص الأجهزة الإتحادية والولائية، وتقليص عضوية المجالس التشريعية ولجانها (المجلس الوطني، المجلس الولائي، المجلس المحلي)، مراجعة التشريعات والسلطات ، ولتحديد الإختصاصات ، وإزالة التضارب بين مستويات الحكم، الإهتمام ببناء القدرات، توفير موارد إتحادية لدعم وترقية الخدمات التعليمية ، الصحية ، خدمات المياه والخدمات الأخرى، وسيراً في إتجاه توصيات ذات المؤتمر ، صدر قانون الحكم المحلي لسنة 2003م. ورغماً على ضعف مقومات التوسع فى الحكم الأمركزى ، والتكلفة الإقتصادية المهولة لتعدد مستوياته، إلا أن حسابات الخسارة والمكسب هى التى تفرض على صناع القرار فى البلاد ضرورة إعتماد الفيدرالية ، مع العمل على تجاور سلبيتها وأوجه القصور ما أمكن. قوة النفط ويرى مراقبون أن السودان كان قد مر بأزهى عصور الازدهار الاقتصادي في الفترة ما بين 2003-2011 حيث شهدت تلك الفترة ، إرتفاع أسعار النفط عالمياً ، لا سيما عقب أحداث الحادي عشر من سبتمبر مروراً لغزو افغانستان والعراق 2003 ، كما تزامنت تلك الفترة مع توقيع اتفاقية السلام الشامل ، والتي حققت استقراراً سياسياً وأمنياً إلى حد كبير، إلا أنها في الوقت نفسه أرهقت الموازنة العامة للبلاد، وذلك نتيجة تباطؤ المانحين أو عجزهم عن الوفاء بالتزاماتهم التي قطعوها على أنفسهم ، بمساعدة السودان في مرحلة إعادة الإعمار وبناء السلام ، ونظراً للاستحقاقات الواجبة لتنفيذ ،أو تلك لا تحتمل الإبطاء والتأخير ،عملت الحكومة السودانية على توفير الاعتمادات المالية التي تم الاتفاق عليها في صلب بنود الاتفاقية ، على الرغم من تكلفتها الإقتصادية العالية. على أن هناك عوامل أخرى عملت على إضعاف الاقتصاد السوداني منها: تأثر بعض مناطق الإنتاج ، كدارفور مثلاً ، بعدم الاستقرار عقب اندلاع التمرد المسلح، والذي إستهدف بشكل رئيسي ، مشروعات البنية التحتية والمشروعات الإنتاجية ، فضلاً عن محاولات عناصر التمرد عرقلة كافة أنواع النشاط الاقتصادي والتجاري والنقل...ألخ. ضعف التمويل غطت العائدات النفطية والتي تحصل عليها السودان من بيع النفط في الأسواق العالمية، حيث وصل سعر البرميل آنذاك ال(150) دولار، التزاماته ، إلا أنها أضاعت عليه إمكانية توظيف تلك العائدات الضخمة في المشروعات والقطاعات الإنتاجية والتي -كانت ولاتزال- تعاني من ضعف التمويل ، ويرى مراقبون أن الموازنات التي تلت "الفورة" النفطية كانت مرهقة بالالتزامات التي إستنزفتها ، وحالت دون إعادة توظيفها بشكل فعال..ومن الالتزامات: الإنفاق على المشروعات الاقتصادية والاجتماعية لمرحلة ما بعد السلام ، وأيضاً الإنفاق على ثلاثة جيوش (الجيش السوداني، الجيش الشعبي والوحدات المشتركة المدمجة منها) ، الى جانب القوات الصديقة أو قوات السلام، فضلاً عن الالتزامات السياسية باستيعاب عناصر الحركة الشعبية في مستويات الحكم المختلفة في المركز (الحكومة المركزية وحكومات الولاية الشمالية) وأيضاً مستوى الحكم الإقليمي (حكومة إقليم جنوب السودان آنذاك). تركة سياسية وورثت البلاد تركة سياسية ثقيلة العبء والوطأة على الاقتصاد الوطني ، فإلى جانب توسع مستويات وهياكل الحكم اللا مركزي وتصاعد عبئها الاقتصادي ، بإعتمادها المفرط على تحويلات المركز ، هناك إلتزامات سياسية أخرى متأتية من مقتضيات الوفاء بالتزامات إتفاقيات السلام التي يتم توقيعها مع حركات وفصائل عديدة ، وهي تُعيد نفس آليات الإستنزاف المالي للخزينة العامة، وذلك في مستوياتها المختلفة (المشاركة والترتيبات الأمنية والمطالب الخدمية المضمنة في تلك الاتفاقيات). وفي ظل تلك المعطيات ، كان من الطبيعي أن يصل الاقتصاد السوداني إلى المرحلة التي يعيشها الآن ، ويتطلب إيجاد المعالجات الجذرية له اتخاذ إجراءات اقتصادية جذرية وقاسية لوقف التدهور في مرتكزات الاقتصاد الوطني ، والتى تشمل إلى جانب رفع الدعم عن المحروقات والقمح ، إصلاح المالية العامة تخفيض الإنفاق السياسي. تقشف سياسي وتشير التكهنات إلى أن حزمة الإصلاحات الاقتصادية ستشمل أيضاً إجراءات لإعادة هيكلة الدولة وتقليص الهياكل والأجهزة والمسؤولين عليها على كافة المستويات، وأوردت وثائق المناقشات التى دارت بين الخبراء والمختصين وصُناع ، أن من بين حزم الإصلاحات الإقتصادية التى تقرر تطبيقها، برامج وسياسات خفض الطلب الكلى، والتى تستهدف الآتى، خفض الإنفاق العام والجارى للدولة فى فصول الموازنة الثلاثة ( بمصفوفة تشمل مراجعة تعويضات وإستحقاقات العاملين عى المستويين الإتحادى والولائى؛ وخفض التمثيل الديبلوماسى بالخارج من عاملين وإداريين ؛ ومراجعة الهياكل ومقررات الوظائف بكل الوحدات الحكومية ، مع إزالة الفوارق فى الأجور وشروط الخدمة والإمتيازات الممنوحة، بما يحقق خفضاً عاماً فى الفصل الأول). و تشمل كذلك إجراءات خفض الإنفاق العام ، ضبط وترشيد إجراءات الشراء والتعاقد للوحدات الحكومة والوحدات المستقلة، وإيقاف التعاقدات الجديدة وشراء العربات الحكومية والأثاثات؛ووقف كافة مشروعات المبانى ، بما فى ذلك مبانى القوات المسلحة والأمن والشرطة، وإيقاف الصرف على المؤتمرات الخارجية وكل بنود السفر للخارج،ووضع ضوابط مشددة لآليات العلاج الخاص داخلياً، وإيقاف أى دعم للعلاج فى الخارج , وإيقاف العلاج بالخارج على النفقة الخاصة إلا بموافقة القومسيون الطبى. وتقوم قاعدة الحكم القائم الآن ، على مشاركة أحزاب وقوى سياسية واجتماعية ، وحركات موقعة على اتفاقيات سلام ، إلى جانب المؤتمر الوطني الذي يعتبر صاحب الشريك الأكبر ، فى الحكم ، ومن المتوقع أن يُصار إلى تقليص حصة أو مقاعد المؤتمر الوطني لصالح إشراك الأحزاب المشاركة الأخرى ، أو تلك التي تُفضي الحوارات السياسية معها إلى تفاهمات حولها لتوسيع قاعدة المشاركة ، كقاعدة أوسع لبناء إجماع وطني ، حول العديد من القضايا الوطنية في الراهن والمستقبل .. و"الترشيد السياسي" الذى سيصاحب الإصلاحات الاقتصادية المعتمدة يقوم على عدة عوامل أولاً: التمسك بمشاركة الهموم الوطنية مع القوى السياسية والوطنية الفاعلة من منطلق تقديم المصالح الوطنية على الاعتبارات السياسية؛ ثانياً التأكيد على الإلتزام بالتعهدات السياسية ، سواء الواردة في اتفاقيات سلام ، أو مع قوى سياسية ، باعتبارها مكاسب وطنية تسمو على أي إعتبارات أخرى، ثالثاً أن الإصلاحات الإقتصادية تتطلبها عوامل هيكلية وفنية تتحكم في اقتصاد البلاد ، وبالتالي هي حتمية على أي نظام سياسي بغض النظر عن موقع ذاك الحزب من السلطة أو المعارضة. إستغلال سياسي وكان المؤتمر الوطني قد قاد جولة حوارات ولقاءات أحزاب وقوى سياسية لإطلاعها على دواعي وحقيقة الإصلاحات الاقتصادية ، ومن منطلق المسؤولية الوطنية ، حيث أبدت غالب هذه القوى تفهمها لتلك الإجراءات ، وأبدت أخرى بعض التحفظات والملاحظات عليها، وهناك تيارات داخل تجمع الأحزاب المعارضة ارتبطت بأجندة سياسية ، ترمي إلى إسقاط النظام عبر دوائر إقليمية ودولية ، خاصة ممن وقعوا على ما تسمى وثيقة "خطة المائة يوم" لإسقاط النظام ، حيث يرون أن الفرصة الآن مواتية أمامهم لاستغلال بعض المخاوف من التداعيات المصاحبة للإصلاحات الاقتصادية، للقيام بتحركات تحقق لها ما عجزت عنه من شعارات إسقاط النظام وآخرها (خطة المائة يوم) ، والتي انقضت أو بالكاد، ولم تحقق أي من مفرداته بشهادة منتسبي تلك القوى السياسية.