لم تكن الأحداث التي تعيشها دولة جنوب السودان هذه الأيام، والتى أندلعت منذ الخامس عشر من الشهر الجارى، وجلبت إليها أنظار العالم وإهتمامه، مفاجئة في نظر كثير من المراقبين، ذلك أن تلك الدولة الوليدة صاحبت ولادتها عدة عوامل، أدت إلى تسريع وتيرة، وحدة الإنقسامات داخلها، والتي بلغت ذروتها بالصراعات على السلطة بين الثوار السابقين، مما أوصل الأمور الى النحو المعاش الآن. إنقشاع الآمال ووجدت دولة جنوب السودان، والتي رأت النور كأحد الدول المستقلة والمنضمة حديثاً إلى الأممالمتحدة (الدولة رقم 193)، عقب عملية الإستفتاء التى أجريت في يناير 2011م، وأختار بموجبها سكان جنوب السودان بنسبة 98% الإنفصال عن السودان، وحازت الحركة الشعبية، والتي تحولت إلى الحراب الحاكم في الدولة الوليدة، على دعم دولي وإقليمى منقطع النظير، ولكن سرعان ما بددت النخية الجديدة ذلك الدعم، وإنقشعت آمال شعب جنوب السودان، الذى كان يتوقع أن يجد الإزدهار والتقدم، وإنقشعت معهم أيضاً آمال الأصدقاء وتوقعاتهم فى الدولة الوليدة، ففي الذكرى الثالثة للدولة الوليدة، وجه عدد من المهتمين بشئون جنوب السودان من الأمريكيين، ممن يطلق عليهم ب"القابلات" تشبيهاً لدورهم الكبير الذى لعبوه فى دعم متمردى جنوب السودان فى الإنفصال عن السودان، رسالة إلى الرئيس سلفاكير أعربوا فيها خيبة آملهم بعد مرور عامين على إعلان جمهورية جنوب السودان، وأبدوا إنزعاجهم من الفساد وإنتهاك حقوق الإنسان، ومما جاء في الرسالة ( في حين أن الاشخاص العاديين في جنوب السودان لا يمكنهم الوصول إلى المستشفيات أو المدارس، فان سارقي الأموال العامة يرسلون أطفالهم إلى المدارس الخاصة في الخارج، ويحصلون على أفضل الخدمات الطبية في العالم)... الخ، في دولة لم تقف على قدميها بعد . ولادة قيصرية ويرى مراقبون، أن ولادة دولة جنوب السودان كانت من البداية ولادة متعثرة، ونتيجة عملية قيصرية بالمعنى السياسي، ذلك أن الإقليم (جنوب السودان) لم يكن مهيئاً ليتحول إلى دولة، نتيجة الإنقسامات العرقية، والتفاوتات الطبقية، والتوترات الإجتماعية، والتطلعات السياسية، والنزاعات الإقليمية، وهناك المبالغة في تصوير التباعد بين الشمال والجنوب، وهذه العوامل توجد بدرجات عالية في جنوب السودان، وكما هو متوقعاً، فإن النتائج المترتبة على أي إنفجار لهذه الإنقسامات ستكون وخيمة للغاية. ولم تكن الإنقسامات الإجتماعية وحدها، هى التي تكمن تحت طياتها جذور النزاعات القاتلة، فقيادات الحركة الشعبية (الجناح السياسي) والجيش العشبى (الجناح العسكرى) لم تكن قائمة على أُسس هيكلية صارمة تحكمها، بل كانت تعكس توحد ظاهرى إزاء العدو السابق(السودان)، وفي الوقت عينه تبقى العدوات بين مكونات النخبة، وتجاه بعضها البعض، ثاوية تحت سطح نخبة المجتمع والدولة بجنوب السودان، وعندما وجد هؤلاء أنفسهم فى سدة السلطة، أداروا الدولة الجديدة بنفس عقلية رجل الغابة (رمز العقلية)، وعقلية المرحلة الثورية، بدلاً من يتم تحويل الدعم الدولي المهول، الذى أغدق عليهم ، حولوه الى إثراء ذورتهم، وبلغت مستويات الفساد الذى أزكم الأنوف مستويات قياسية، تحدث تقارير للأمم المتحدة عن سرقة اربعة مليارات دولار فى العام 2011، و العام الذى لاه دعا سلفاكير 75 مسئولاًً بحكومته الى إرجاع الأموال التى أختلسوها، فضلاً عن تورط هؤلاء القادة الجدد في حروب مع دول الجوار ألحقت بهم الأضرار كثيراً (مثلاً العدوان على هجليج ودعم متمردى الجبهة الثورية والفرقتين التاسعة والعاشرة بولايتى جنوب كردفان والنيل الأزرق)، ووصف أحد موظفى العون الإنسانى بجنوب السودان تلك الدولة بقول (إننا نشهد أول ولادة لدولة يديرها المتطوعون في العالم)، في إشارة إلى أن النخبة الجديدة لم تنهض بمهام العمل على ضمان الأمن الإنسانى لأبناء شعبها، وظلت تعتمد على المنظمات الدولية التي يعتمد عليها السكان المحليون في توفير أساسياتهم، في وقت يُبدد فيه المسئولين الجدد ثرواتهم من دون طائل، وتشير تقديرات المنظمات الإنسانية الى أنه لايزال 50٪ من السكان يعيشون تحت خط الفقر، كما تشير تقديرات الأممالمتحدة فى العام 2013م، الى وجود أكثر من أربعة ملايين شخص، من جملة عدد السكان البالغ قدرهم 12 مليون نسمة، يعانون انعدام الأمن الغذائي. صراع السلطة وأتت الأحداث الأخيرة في جنوب السودان لتتجسد ذروة الصراع السياسي الطاحن الذى وصلت إليه النخبة والطبقة السياسية في الدولة الوليدة، وبدأت ملامح ذلك الصراع تطفو الى السطح، عندما عبّر رياك مشار نائب رئيس دولة جنوب السودان عن نيته الترشح في الإنتخابات المزمع إجراؤها في العام 2015م، وهى أول تجربة إنتخابية بعد الإنفصال عن السودان، عندها شعر سلفاكير بجدية التهديد السياسي الذى يجسد ترشح نائبه مشار لمنافسته، فجرّده فى يوليو الماضى من معظم صلاحياته كنائب لرئيس الدولة، ثم أتبع عدة خطوات لتقليص نفوذه داخل أروقة مؤسسات الحركة الشعبية، الى أن عزله تماماً، وأحكم سلفاكير قبضته على مفاصل صناعة القرار داخل أجهزة الحركة الشعبية، بعد أن تكمن من إزاحة عدد من القيادات والرموز التي يمكن أن تشكل تهديداً له، خاصة باقان أموم الأمين عام الحركة الشعبية، الذى أحيل إلى المحاكمة بتهمة الفساد، بعد أن تمت تشكيل لجنة لمحاسبته، وأوصت بفصله نهائياً من الحركة، وهو ما تم خلال الإجتماع الأخير لمجلس التحرير القومى-أعلى جهاز سياسى للحركة- الذى أنعقد فى الرابع عشر من الشهر الجارى، وهو ما تسبب في تفجير الإقتتال الأخير، بعد أن منع الموالون لسلفاكير المعارضين له، من حضور الإجتماع، حيث تم فصل (160) عضواً من المحسوبين على تلك مجموعة مشار. ثأر تاريخى وبحسب المراقبين، فإن الصراع على السلطة والإنقسامات والنزاعات والإحتقان المتراكم والفشل السياسي وحدها لاتقسم الصراع في جنوب السودان، وهناك عومل أخرى غذّت تلك الصراعات، فإلى جانب ماتقدم، يختلف المتصارعون كذلك حول بعض التقديرات السياسية، ففى العلاقة مع السودان مثلاً، نجد أن سلفاكير، ومنذ التوقيع على (اتفاقية التعاون المشترك) مع السودان في 21 سبتمبر 2011م، والمصفوفة التي أعقتبها، نجد أنه وُوجه بمقاومة عنيفة من قبل تيار قوى ونافذة داخل صناعة القرار في الجيش الشعبى والحركة الشعبية، والذى يعارض بشدة أى تقارب مع السودان، وكان سلفاكير قد وصل إلى قناعة مؤداها أن السياسة القائمة على دعم وإيواء المتمردين في السودان، أو سياسة الحرب بالوكالة لاتخدم مصالح شعب جنوب السودان، بقدر ما تخدمها المنافع المتأتية من التكامل والتعاون مع السودان، فعمل سلفاكير إلى التخلص التدريجى من رموز هذا التيار، والذى لا يستمد نفوذه، والذى يصل إلى درجة الغرور والطيش، فقط من تمكنه من مفاصل الأجهزة في الدولة الوليدة، و ولكن أيضاً من الصلات القوية التي تربط رموز هذا التيار مع شخصيات نافذة في داخل الولاياتالمتحدةالأمريكية، وخاصة مجموعات الضغط المعادية للسودان، ولدى هذه الأخيرة ثأر تاريخى مع السودان، حيث تشعر أن هذا البلد يمثل بالنسبة إليهم رمزاً لفشل تكتيكاتهم وإستراتيجياتهم لإحتواءه، وهم الذين يباهون بقدرتهم على تمريغ أنوف الأمم والدولة الكبرى، إذا ما أبدت أى نوع من تحدى سياسساتهم. شعيز الهاوية وفي الأسبوع الأول من حرب "الأخوة الأعداء"، تعالت الأصوات التي تحذر من إستمرار الأوضاع في جنوب السودان بهذه الوتيرة من العنف والنزوح، سيؤدى ذلك إلى إندلاع حرب أهلية، بحسب تحذيرات الرئيس الأمريكى، والذى قال أن ذلك البلد (على شفا حرب أهلية)، و أجلت الولاياتالمتحدة رعاياها على الفور، وحذت حذوها كذلك عدد من الدول، كما أرسلت يوغندا قوات عسكرية قال مسئولوها أنها لإجلاء الرعايا اليوغنديين بجنوب السودان، ولكن أشارت التقارير الإعلامية ان مهمة تلك القوات ربما أتت بإيعاز من الولاياتالمتحدةالأمريكية وبقية الدول الغربية، وأنها لا تقتصر على مسألة الإجلاء، ولكن تهدف الى دعم حكومة الرئيس سلفاكيرفى وجه هجمات المتمردين، وأن التدخل العسكرى اليوغندى لمساندة حكومة جنوب السودان، يعكس إستمرار لتاريخ طويل من السلوكيات اليوغندية بالتدخل فى دول الجوار، وهى السلوكيات التى تجد الغطاء الدولى بإستمرار. وذكرت تقارير إعلامية ان حصيلة أربعة أيام من الإقتتال بين الجيش الشعبى والمنشقين عنه بزعامة رياك مشار تتراوح بين (500- 1000) قتيل، ولاتزال الأنباء تتواتر على مقتل أعداد أخرى من المدنيين، وطال الإستهداف جنوبالأممالمتحدة العاملين ضمن بعثة (اليوناميس) في بانتيو ولاية الوحدة، ويُقدر المنظمات عدد النازحين في مدينة (جوبا) وحدها ب(34) ألف مواطن أحتموا بمقار البعثة الأممية. فشل نموذج وإن حذرت أصوات عالمية حرب خطر الحرب الأهلية والعرقية- فكليهما سيان في حالة جنوب السودان- لاسيما بعد عمليات الإستهداف المتبادل على أساس قبلى، وفرار ونزوح زهاء 44ألف مواطن، فإن الأمر يعكس برمته فشل نموذج صناعة دولة نتيجة إنفعالات أو حسابات سياسية خاطئة للدول الكبرى، وكاد أن يتحول جنوب السودان الى نموذجاً يجرى تطبيقه في حالات لاحقة في العلاقات الدولية، بعد أن عمد الغرب إلى تصوير جنوب السودان، كأنموذج لنجاح تدخلاته الإنسانية وديبلوماسيته السياسية، سواءاً في فترة الحرب الأهلية أو بعد الإنفصال، وجسد التدخل الأجنبى الكثيف فى دولة جنوب السودان من قبل دول الجوار، والدول الكبرى بعد تلويح الولاياتالمتحدة بالتدخل هناك، مدى الفشل الوخيم الذى صاحب سياسات تلك الدول تجاه جنوب السودان، بعد أن زينوا لقادته صوابية خيار الإنفصال وتأسيس دولة مستقلة. ومن شأن وقوع جنوب السودان في حرب إستنزاف طويلة الأمر في ظل تباعد المواقف، فالرئيس سلفاكير قال إنه منفتح على الحوار مع من سماهم (المتمردين) عليه، وأما نائبه السابق مشار، فيقول أنه لن يتفاوض إلا على رحيل سلفاكير، ودعا الجيش الشعبى والحركة الشعبية الإطاحة به، قبل أن يشترط إطلاق سراح المتعتقلين قبيل الشروع فى التفاوض، وعلى ما يبدو فإن الضغوط الدولية ربما دفعت الطرفين المتحاربين الى تخفيف من غلواء إشتراطاتهما. وهرع مبعوثون ووسطاء من الإتحاد الإفريقي والهئية الحكومية لدول شرق افريقيا(إيغاد) إلى جوبا في محاولة للسيطرة على الحريق الذي يتهدد الإقليم، والقارة برمتها، و إذا ما تحول الحرب بين الأطراف حرب إثنية أو قبلية، نظراً لوجود تداخلات قبلية بين حدود جنوب السودان مع دول الجوار، فضلاً عن فقدان السيطرة على الحدود، والتى يمكن يعبرها الفارون من جحيم الحرب أو المليشيات المسلحة والأسلحة.