عبدالرحمن الأمين إن الكتابة عن تاريخ أي إنسان ليست بالصنع اليسير، وخصوصاً إذا كان هذا الإنسان ذائع الصيت في علم أو أدب أو سياسة أو لعبة رياضية أو أي ضرب من ضروب الحياة، لأن الكاتب في مثل هذه الحالة، يجب عليه أن يكتب بإسهاب وصدق وتجرد لكي يكون ما يكتبه مفيداً للقراء. ولعل هذا هو منهجي الذي سلكت مسلكه في هذا المقال المفصّل: سجل التاريخ السياسي الحديث على صفحاته اسم الشريف زين العابدين الهندي كشخص اختلف الناس حوله فيما يتعلق بتقييم نشاطه السياسي في فترة منفاه بمصر، فمنهم من ينظر إليه بعين الرضا، ومنهم من له فيه رأي آخر. وبما أنني عاشرته لمدة طويلة في تلك الحقبة التي دامت سنين عددا، وكنت أحد رجاله، يمكنني إذاً أن اكتب عنه وفق المعايير التي ذكرتها أعلاه. الرحيل إلى المحروسة: في عهود الحكومات العسكرية، تسوء الأوضاع السياسية الراهنة، فيكتوي بنارها كثير من الناس، فيلوذ بعضهم بمصر، فيدخلونها سالمين آمنين. ولذلك لجأ إليها في فجر حكم الإنقاذ عديد من السياسيين، وكنت واحداً منهم، ولقد حتّم علىَّ الوضع السياسي الراهن في ذلك الزمن الرحيل إلى هناك، فجئت القاهرة مع رفاقٍ لي، وما وضعنا في الحسبان أن غيابنا عن أهلنا سوف يطول، ولم ندر أننا أقبلنا على حياة غريبة وعجيبة من مبتداها إلى آخرها. لقد كنا في ذلك الزمن، حديثي السن، في نحو بداية العقد الثالث من أعمارنا، نرفل بشبابنا الغض، وعيوننا تتوقد أملاً في حياة أفضل. أما بلادنا فكانت كبهيمة تظلع، وقد تقبّض جلدها من علّة أقعدتها، وتفشى فيها الخوف، وسرى إليه الفزع من جهاتها الأربع. وزيادة على ما كنّا فيه من غم، منعتنا الحكومة حظنا ونصيبنا في كسب العيش، وحرّمت علينا صعود المنابر، فضاقت بنا الدنيا، فحبستنا في ركن قصي بها، ليس فيه شيء واحد حر غير النيل، فهو الوحيد الذي يجرى حراً عبر المروج والقفار إلى مصبه عند البحر، لهذا آثرنا المضي معه نحو القاهرة أي مقصدنا الذي نشم فيه نسمات من راحة بال. وقد كان ذلك في شهر مايو من سنة 1991، وفي بداية ربيع جميل وصلت فيه مصر إلى حد الإشباع من العنب. ولقد رصدتُ وراقبتُ كل الأحداث التي وقعت وحدثت لنا في ذلك الزمان، ودونتُ متنها وحاشيتها على دفتر ذاكرتي يوماً بعد يوم، وما فعلتُ ذلك عن قصد ولا بداعي الفضول، إنما عن سجيّة جٌبلت عليها منذ الصغر، ولا غرو أنني أتذكر ساعة لقيت الشريف زين العابدين في منفاه الاختياري بمصر، فكأن ذلك حدث بالأمس. وقد كان الشريف يسكن في مصر الجديدة أحد الأحياء الراقية بالقاهرة، ويقيم في "فيلا" خاصة به مع بناته الثلاث وابنه "الفاتح" وزوجته الثانية الحاجة "تناظر" وابنتها الكبرى التي أنجبتها من زوجها الأول وهو مصري. أما الحاجة "تناظر" فمسقط رأسها مدينة "نبرو" بمحافظة الدقهلية، وهي سيدة فاضلة، مصرية كالسودانيات، وسودانية كالمصريات، تلبس الثوب السوداني، وتتكلم بلهجة مصرية قُحَّة، وحين نأتها تستقبلنا بتهلل ولطف، وتحسن ضيافتنا بأكل سوداني: "تقلية" أو "بامية مفروكة"، وكفتة أو محشي، وعصير "كركدي" أو ليمون"، فنأكل ونشرب هنيئاً مرئياً، فنحس كأننا في بلدنا، لسنا غرباء، كأننا في "الدسيس" أو "العمارة طه" أو "ود شمو". وكانت الحاجة "تناظر" تفخر بزوجها الشريف زين العابدين، وتتمنى أن تعيش مع أقاربه بالخرطوم. ولما جئتُ الشريف في بيته، رحب بي وأظهر الفرح بقدومي، وقد صادفتُ عنده نفراَ على مختلف الأعمار، فيهم رجل مسن، وشابان علمت منهما أنهما أكملا دراستهما ذلك العام بجامعة الزقازيق، وفيهم شاب نظيف لابساً بدلة في عز الصيف، وتتدلى من عنقه "كرافتة" مربوطة بدقة وإحكام. وقد كان الشريف حينذاك في هيئته التي رأيته عليها من قبل في السودان، لم يتغير فيه شيء، عوده نحيف، ومقلتاه واسعتان محمرتان، خالطهما بياض، وكانت فيه متانة رغم تقدم عمره، وحين قام وخطا إلى الحمام، رأيت على وجهه بريق نعيم وعز أصيل. وقد مكثت عنده لساعات، وكان يدخن السجائر طول الوقت، وكذلك كان ضيوفه يدخنون، لذلك كانت قعدتنا متكدرة بسحابة دخان تزداد كدراً كلما أقبل علينا زائر جديد. وقد كنت أُدخِّن تقليداً ومحاكاة للشريف، ثم إنني بعد نحو أربع سنين من ذلك الزمن، أقلعتُ عن التدخين، لضرره بشرايين القلب وفتكه بالشعب الهوائية فتكاً كما هو معلوم، ولما أخبرتُ الشريف بإقلاعي عن التدخين، قال لي: "لو أنا ما دخنت سأمرض". *موقفه من التجمع الوطني الديمقراطي: كانت المعارضة قد انتظمت في تنظيم واحد هو التجمع الوطني الديمقراطي، الذي تشكَّل من عدة تنظيمات هي الأحزاب السياسية والحركة الشعبية لتحرير السودان ونقابات العمال والقيادة الشرعية للقوات المسلحة، التي كانت تضم ضباطاً مفصولين من الخدمة العسكرية بالسودان. وقد كانت تلك التنظيمات متناقضة ومتباينة فيما يتعلق بطبيعة مهامها وطموحها وآفاقها التي ترنو إليها، لكنها كانت تبدو متماسكة فيما بينها، وتعمل معاً في سبيل تحقيق هدفها المشترك، وهو إعادة نظام الديمقراطية التعددية كأساس للحكم. وكان الحزبان الكبيران، الأمة والاتحادي الديمقراطي، قطبي الرحى في تنظيم التجمع الوطني الديمقراطي، لكن عضويتهما به لم تكن كاملة، حيث أن السيد الصادق المهدي رئيس حزب الأمة والشريف زين العابدين الهندي أمين عام الحزب الاتحادي الديمقراطي، لم يضعا أيديهما في ذلك الأمر. وكيف كان موقفهما منه؟ من جهة أعلن السيد الصادق بأنه لم يفوِّض أحداً ليُلحق حزب الأمة بالتجمع الوطني الديمقراطي. وقد كان السيّد الصادق المهدي حينها بالسودان، وكان إما رهن الاعتقال أو الإقامة الجبرية بمنزله. ومن جهة أخرى، كان الحزب الاتحادي الديمقراطي ممثلاً في "التجمع" بالسيِّد محمد عثمان الميرغني. أما الشريف زين العابدين الهندي، فرفض أن يشترك في "التجمع"، مبرراً امتناعه عن ذلك بدعوته إلى جبهة وطنية. ثم إنه صار بحصافته ولباقته يحادث ويناجي أشقاءه بالحزب في موضوع واحد، هو أن المشكل السياسي بالسودان لا يتم حله بالاحتراب والاقتتال، ولكن بالتحاور وتبادل الرؤى السياسية. وكانت تلك فلسفة الحزب الاتحادي في تلك المرحلة من مسيرته وسراه، التي سماها الشريف "مرحلة "التخلق التاسع" للحزب الاتحادي الديمقراطي، ولقد أعجبنا ذلك من الشريف إذ وضع للحزب رؤى جديدة يتعامل بها مع ذلك الوضع السياسي الراهن. وكنا ونحن نفر قليل معه، نوافقه الرأي على أفكاره تلك، فتباحثنا معه في شأنها عدة مرات، أما غيرنا من المشتغلين بالسياسة والمنتمين "للتجمع"، فكانوا يرون أنهم سوف يزيلوا النظام الحاكم بالقوة، وقد تعصبوا لرأيهم ذاك، فصاروا يرددونه في منابرهم الإعلامية ويعربون عنه بعبارة معينة، هي: "سنجتثه من جذوره". ومن خالفهم الرأي اعتبروه خارجاً عن المألوف. وقد كانوا محروسين بشكل مباشر بحكومة مصر التي رضيت عنهم كل الرضا، وخصوصاً كبيرهم السيد/ محمد عثمان الميرغني. أما الشريف فكان ضيفاً غير مرغوب فيه بمصر، لذلك لم يكن بمقدوره ولا أي واحد من جماعته القيام بنشاط سياسي في مصر بحرية تامة. وكان السودان ومصر في ذلك الزمن متخاصمين، ليس بينهما من الود القديم شيء البتة. وتعجب كثير من المشتغلين بالسياسة، الذين كانوا بمصر في تلك الأيام، من موقف الهندي والميرغني من "التجمع" أي كيف يكون أحد زعيمي الحزب الاتحادي ركناً من أركان التجمع، ويكون الآخر مخالفاً له! وحتى ذلك الوقت لم يكن موقف ذينك الزعيمين ذا بال عند الاتحاديين الديمقراطيين بالمنفى والسودان، باستثناء تلك الفئة التي شاء لها القدر أن تكون في القاهرة، فهي كونها راقبت عن كَثَب ما جرى في ساحة المعارضة، أدركت أن المسألة لم تكن انقساماً في الرأي بين الشريف والميرغني فحسب، وإنما كانت أعمق من ذلك. وقد كنا نحن العصبة المناصرة للشريف، على علم تام بذلك الشأن الذي تدرَّج طوراً إثر طور حتى ثبت بشكله الحالي. انشقاق الحزب الاتحادي الديمقراطي: لما وصلنا إلى القاهرة في مطلع التسعينات التي انطوت مع الألفية الماضية، كان الشريف زين العابدين غائباً بدولة الإمارات العربية المتحدة. لم أدرِ وقتها ماذا فعل هناك، فظننت أنه كان يحاول تجهيز المعارضة بما يلزمها من عتاد لتلعب دورها فيما يتعلق بتصحيح الأوضاع السياسية بالخرطوم، وأنه حذا حذو شقيقه الراحل الشريف حسين، الذي سرعان ما وجد مؤازرة من دول عربية لمناهضة "مايو" الشيوعية حتى تتم إزاحتها عن دست الحكم. ثم إنني بعد مدة قصيرة، فهمت أن الشريف زين العابدين ينتمي لمدرسة مختلفة تماماً عن تلك التي عاصرناها عند سلفه. وفي تلك الفترة على وجه التحديد، كان بوسع الشريف زين العابدين أن يطلب المعونة من دول الخليج العربي لدعم نشاطه السياسي، وكان من الأرجح أن تساعده دول الخليج العربي إن طلب منها ذلك، وخصوصاً أنها كانت ناقمة على الرئيس البشير لموافقته الرئيس العراقي صدام حسين على احتلال الكويت، لكن الشريف عاد من هناك بقصة أخرى، فما هي؟ حينما رجع الشريف إلى مصر، لقيناه بداره، وداومنا على مجلسه كل يوم. وفي ذات مرة كنا عنده، فأخبرنا بما حدث له بالإمارات، قال: إن المسئولين بالدولة بأبو ظبي أخبروه أن السيد/ محمد عثمان الميرغني أعلمهم برسالة قائلاً فيها إنه أي الشريف، لا يمثل الحزب، وإنه متسوِّل ليس إلا. ومن يومها صارت قصة تلك الرسالة، حديث الاتحاديين الديمقراطيين الموجودين بمصر. وفيما بعد علمنا من أناس ثقاة أن الميرغني بعث بتلك الرسالة إلى المسئولين بدولة الإمارات مع أحد سكرتيريه المخلصين له، وهو محمد عثمان أحمد عبد الله. ومنذ ذلك الوقت بدأ في الخفاء، صراع سياسي بين الشريف والميرغني، بل خصومة شديدة بينهما بدت في الظاهر، حسب اعتقاد بعض الناس، مسألة شخصية لا علاقة لها بخلاف حول قضايا سياسية أو أسس تنظيمية، لكنها كانت في جوهرها ذات دلائل موضوعية. أما نحن فأحسسنا أنها فِرية مستنا جميعاً، ثم إنها وحدتنا كجماعة قائدها الشريف، فصرنا نلتقي عنده من أول النهار حتى العشيَّة، فنتفكر في أمور عديدة، بعضها جاد وبعضها الآخر هامشي لا قيمة له. أما القضية بشقيها الوطني والحزبي، فكانت موضوع كلامنا في كثير من الأحيان، لذلك رأينا أن من الواجب علينا تنظيم الحزب وإعداده لتأدية دوره المطلوب منه في تلك المرحلة على وجه الخصوص. وما انقضت بضعة أشهر حتى عزمنا على عقد مؤتمر للحزب بمصر. وكيف تم لنا ذلك؟ أعددنا للمؤتمر ما يلزمه بما تيسر لنا من إمكانات، ودعونا له جماعتنا فقط، أما جماعة الميرغني فما سهونا عن دعوتهم له، إنما غفلنا عنهم عمداً لأنهم كانوا موضع شك عندنا فيما يتعلق بالالتزام بالاتحادية. وقد سبق أن أشار إلينا صديق الهندي، والحق يقال، بأن ندعو للمؤتمر السيد أحمد الميرغني، الذي كان وقتها منتجعاً بقصر له في الإسكندرية، لكننا ما فعلنا ذلك. وهل يا تُرى كان السيد أحمد سيستجيب لدعوتنا؟ لا أعتقد ذلك. ولقد آثرنا الإسكندرية كموقع للمؤتمر تأميناً له كما تجري العادة في مثل تلك الأحوال، ولضمان سرية مداولاته حتى تكتمل فنعلن عنها لعامة الناس. من محطة رمسيس بالقاهرة تسللنا في أوقات مختلفة إلى محطة سيدي جابر بالإسكندرية حيث كان الطقس بارداً ومعكراً بهبوب الريح واضطراب البحر. هل كان ذلك في ديسمبر من سنة 1991؟ نعم، فلتت السنين من العمر كما تفلت الإبل من مباركها في سهول البطانة. كان بعض موفدي الحزب للمؤتمر لاجئين سياسيين بمصر، وجاء بعضهم الآخر من لجان للحزب في عدة مدائن بالمهجر: الرياضوجدة وصنعاء وأبو ظبي ولندن وتورنتو وسان فرانسيسكو، فأقبلوا على المؤتمر بعزيمة وإرادة شديدة القوة، وقد كان فيهم رهط من أساطين الحزب وشياطينه، وفيهم كوادر فتية تعلم بمبادئ الحزب وفكره تمام العلم، وتلتزم بأسسه التنظيمية، ومن هؤلاء وأولئك نذكر الراحل ربيع حسنين وطه حسن طه ومضوي الترابي ودكتور أحمد آدم وإسماعيل طه وبكري النعيم وصديق الشريف عبد الرحيم ودكتور أحمد عبد الله والسماني الوسيلة وصديق الهندي ومعتز مصطفى ومجتبى فاروق وأحمد عثمان. ثم إننا اجتمعنا إلى بعض في صالة رطبة بدار قديمة، لعلها دار رجل إغريقي كان يبيع الحلوى المعقودة بالحمّص قبل مائة عام. وحسب البروتوكول، كان أول المتحدثين الشريف زين العابدين الهندي، باعتبار أنه الأمين العام للحزب.