هل تجدى مناشدة قادة دولتى السودان الجارتين المتشاكستين بأن يعطوا شعبيهما فى الشمال وفى الجنوب فسحة من الأمل فى ان يعيشا جارين متسامحين متحابين بعد الانفصال وقد سبق لهما ان عاشا دهورا من الزمن كأمة واحدة . فالذى يحدث بين قادة الدولتين هو شئ محير . و لا يمكن تصور حدوثه بين قادة الدول الطبيعيين . ففى خلال اربعين ساعة فقط نقل قادة الشعبين السودانيين فى الشمال والجنوب ، نقلوا شعبيهما المنكودين من حالة الفرح الطاغى الى حالة الجزع المدمر . ومع الشعبين نقلوا الاسرة الاقليمية والدولية التى ظلت ولسنوات تبذل قصارى الجهد سياسيا وماديا لانهاء المشكل السودانى الذى اصبح مشكلا عبثيا حقا وحقيقة . ففى الايام القليلة الماضية فوجئ الشعبان السودانيان فى الشمال وفى الجنوب بالاخبار السارة التى تنزلت عليها من حيث لا يحتسبان واخبرته بأن الوساطة الافريقية بين البلدين قد اقلحت فى الوصول بالطرفين الى عقد اتفاق جديد يتبادل بموجبه الشعبان الحريات الاربعة – حرية الاقامة والتنقل والعمل والتمليك . فى توأمة حقيقية بين البلدين والشعبين اللذين كانا حتى قبل شهور قليلة شعبا واحدا تقاسم لحلوة والمرة لاكثر من قرن . اخبار اتفاق الحريات الاربعة لم يفاجئ ويفرح الشعب السودانى فى الشمال و فى الجنوب فقط ، انما فاجأ وافرح الاسرة الدولية والاقليمية . ودول الجوار الافريقى خاصة التى تتأثر بما يدور بين البلدين السودانيين تأثرا كبيرا . و انهالت الاشادات والتهانى الدولية والاقليمية على قادة البلدين . ، تدعوهما للمضى قدما فى استغلال الجو التوافقى الجديد لحلحلة بقية المشاكل العالقة بين البلدين . و خطا رئيس جنوب السودان الخطوة الاولى وارسل وفدا عالى المستوى الى الخرطوم حاملا دعوة للرئيس البشير لزيارة جوبا للتفاكر حول كل المسائل العالقة بين البلدين فى ضؤ الروح الجديدة التى انتجها اتفاق الحريات الاربعة . قوبل الوفد الجنوبى فى الخرطوم استقبالا حارا عكسته كاميرات الفضائيات المحلية والعالمية . وتبسط الرئيس البشير مع الوفد الجنوبى فى الترحيب به ووجه حكومته فى الشروع فورا فى اعداد اللجان التى ستدرس كل الملفات العالقة قبل توجهه الى جوبا فى الرابع من ابريل . شعب الجنوب الذى ابهجته هذه الاخبار لم ينتظر زيارة الرئيس البشير الى جوبا فى الرابع من ابريل بل تكدس فى البصات والشاحنات وكل وسائل النقل المتجهة نحو الشمال . وفيهم من هو آمل فى العودة الى مكان عمله القديم الذى انتزع منه نتيجة للانفصال الظالم . وفيهم من هو آمل فى العودة الى تجارته التى تركها مرغما بأمر الانفصال. كثير من هؤلاء هم شماليون بالمولد والنشأة والثقافة . الذين شاهدوا هذه المباهج التى احدثها الاتفاق الاطارى للحريات الاربعة على المستوى الشعبى فى البلدين . والروح الجديدة بين قادة البلدين يصعب عليه ان ان يتصور للحظة واحدة أن كل ذلك يمكن أن ينهار فى لحظات رغم ان الشعب السودانى فى طرفى الوادى قد خبر مشاكسات الشريكين اللدودين على مدى خمس سنوات لا يكاد يذكر لهما فيها شيئا ايجابيا واحدا . ولكن الشعب المتفائل بطبيعته وسجيته المتسامحة قرر ان يمنح هؤلاء القادة فائدة الشك مرة اخرى على أمل أن تحدث المعجزة ويصدق هؤلاء القادة فى هذه المرة . كان هذا من باب الامل . وقديما قال الشاعر العربى المتفائل : ما اقسى العيش لولا فسحة الامل . ولكن وقعت الواقعة . وانهار اتفاق الحريات الاربعة بين غمضة عين وانتباهتها . واندهش الجميع . الوسطاء الاقليميون .والدوليون والمراقبون والمحللون ، كلهم جميعا ، اندهشوا الى آخر حدود الاندهاش وهم يرون السرعة الصاروخية التى انهار بها الاتفاق . لتنهار معه كل الآمال التى بناها الحالمون فوق تل الرمال المتحركة التى بنوا عليها كثيرا فى صحارى العدم السودانية فى الماضى القريب دون ان يتعلموا اخذ الحيطة والحذر و لا يقتلوا انفسهم تهلكة بالأمانى المعسولة حين تتبدل الى مذاق مر . المهم الآن أن يعرف الانسان السودانى فى الشمال والجنوب . ويعرف الوسطاء الاقليميون والدوليون الذين ضربوا اكباد ابلهم وراء حلحلة المشكل السودانى الذى ظل مستعصيا على الحل ، المهم أن يعرف كل هؤلاء جميعا كيف حدث الذى حدث . اذ لا يستقيم عقلا أن يظل الجميع فى حوش آل البوربون التاريخيين الذين لا يتعلمون شيئا و لا ينسون شيئا . قالت الرواية الجنوبية ان الجيش السودانى مدعوما بمليشيا مساندة بدأ بالهجوم على مواقع الجيش الجنوبى فى منطقة هجليج النفطية المتنازع عليها بين البلدين . الجيش السودانى ، من جانبه نفى الاتهام الجنوبى . وقال ان الحنوب هو الذى بادر بالاعتداء . الاشكال القديم الجديد ازاء الاتهامات الشمالية الجنوبية القديمة والجديدة المتبادلة هو غياب الشاهد المحايد الذى يؤخذ بشهادته . فالصحافة الحرة المحايدة ممنوعة من الوصول الى مناطق الحدث من قبل الدولتين . وطالما ان كل طرف يرتكب نفس الفعل تجاه الاعلام الحر المحايد ، فلا بد ان تثور هنا وهناك تلالا من الشك تجاه روايات الطرفين. فى هذه الحالة يخسر الجانبان معا . ان المراقب المنصف لابد ان يتبادر الى ذهنه ان هذا العمل الغريب قد قامت به جاء اطراف دنيا فى سلم القيادة السياسية و العسكرية فى الجنوب او فى الشمال . ويصعب الاقتناع بأن ما جرى قد جرى بتوجيه من القيادات العليا لدى الطرفين التى رأينا حماسها فى كل من الخرطوموجوبا لاتفاق الحريات الاربعة . بدءا بالوزراء الكبار . وانتهاءا عند الرئيسين . المهم ان تعرف الحقيقة حول الذى حدث وادى الى انهيار الترتيبات التى بدأت على قدم وساق لاستغلال الاجواء التى احدثها اتفاق الحريات الاربعة لصالح القضايا العالقة بين الطرفين . ولصالح استقرار المنطقة واستقرار انسانها الذى تأذى كثيرا ومازال يتاذى . ما بال قادة السودان الحاليين فى الشمال والجنوب يبدون عاجزين فى ترسم خطى آبائهم الذين سبق لهم ان اعطى دروسا للعالم من حولهم فى السلوك السياسى و الحضارى المنضبط اثناء احلك اللحظات التى احاطت بهم . فى عام 1956 ظن العالم ان الخلاف المحتدم حول نوعية استقلال السودان : هل يكون ملحقا بتاج الملك فاروق تحت شعار وحدة وادى النيل ، ام يكون مستقلا استقلالا كاملا تحت شعار السودان للسودانيين ، سيفجر الوضع السياسى فى البلاد ، وتكون النتيجة انهيار دستورى يعطى حاكم عام السودان حق اعلان الطوارئ ، و تأجيل اعلان استقلال السودان الى اجل غير مسمى . وكان الاعلام العالمى قد ملأ الفضاءات الاخبارية بقصص تتحدث عن الكتل الانصارية التى تدفقت الى داخل العاصمة استعدادا لتفجير الاوضاع اذا اعلنت الحكومة الاتحادية الجديدة ضم السودان الى التاج المصرى . وقبض الجميع على قلوبهم من الخوف والجزع وهم يستعيدون ذكرى حوادث مارس الحزين . ولكن القادة الملهمين كذبوا تنطع الاعلام العالمى حين تمكنوا من معالجة القضية الحساسة فى هدؤ بعد ان توشحوا بحكمة الشيخين الجليلين عبد الرحمن المهدى . وعلى الميرغنى اللذين التقيا فى لحظة حاسمة لقاءا اخويا اذاب جليد المشهد السياسى ، ومهد الطريق الى النقلة التاريخية الجبارة الحاسمة التى وصلت اعلى درجاتها حين تقدم نائب حزب الامة عن دائرة نيالا ، الاستاذ عبد الرحمن دبكة ، سليل نظارة بنى هلبة ، تقدم باقتراح اعلان استقلال السودان من داخل البرلمان ، ليقف نائب الحزب الاتحادى ، مشاور جمعة سهل ، سليل نظارة المجانين ، ويثنى اقتراح نائب حزب الامة ، لتنفجر القاعة بالهتاف والبكاء والنحيب من الفرح الطاغى . وكان اعلى المنتحبين صوتا ، واجلهم مكانة ، السيد الحليل عبد الرحمن المهدى ، الذى لابد انه تذكر دولة السودان المستقلة الاولى التى اقامها والده واطاحها الحلف الانجليزى المصرى . واخوانه واعمامه الذين علقهم الجنرال كتشنر فى اعواد المشانق فى الشكابة وكان بعضهم صبية . ومضى ذلك اليوم الخالد فى هدؤ لا يماثله الا هدوء النيل الابيض فى انسيابه النبيل من حول البرلمانيين المجتمعين داخل قبة البرلمان وهم يواصلون تكملة اجراءؤات الاستقلال . وابرق احد المراسلين الصحفيين صحيفته قائلا : لقد فعلها البدو المتحضرون بهدؤ رتيب . واصبحوا دولة محترمة بالفعل ! ثم جاء اكتوبر 1964 مائجا مستعرا . وجاء ابريل 1985 وكنس الثوار باطل الطغاة الذى ظل فى مكانه بلا لزوم فى الحالتين . وجلس الثوار القرفصاء فى الفضاء الفسيح . وقرروا فى مصيرهم ومصير جلاديهم الذين ساموهم خسفا ومذلة . لم يرسلوا جلاديهم الى المشانق معاملة بالمثل . انما تجملوا بالصبر وعفوا . واختاروا اداة الانتقال التى يريدون فى اناة . ووقار سياسى شهد لهم به العالم فى انبهار . مرة اخرى يبرق احد المراسلين صحيفته بعد انتخابات عام 1986 و يقول لها : لقد فعلها اشباه الاميين بصورة مدهشة . لقد فعلوها فى هدؤ و حصافة . واخرجوا انتخابات نظيفة. ليته قال انهم اخرجوا انتخابات انظف من الصابون . لقد نسيوا جراحات امسهم القريب . لانهم قوم لا تستقر الاحقاد فى نفوسهم طويلا . حتى المشانق التى علق الكثيرون من ذويهم عليها تجاهلوا ان يتذكروها. وحتى صفاقة وبذاءة الشموليين الذين تعاقبوا على ممارسة الافعال الآثمة ضدهم تركوهم يذهبوا طلقاء ، فى عفو القادرين على فعل التمام. . الشعب الصبور المتسامح كرر مشهد التسامى فوق الجراح اثناء محنة الانفصال ولم يجزع . لقد قبض على موضع الجرح الدامى من القلب . وانحنى على آلامه وهو يكبت انينه . وكذب مقولات وهرطقات الاعلام الخارحى الذى زحم بها الفضاء عن الانفجار الذى سيصاحب هذه العملية النازفة . و قبل فى وقار ما قررته صناديق الاستفتاء وهو يقبض على احاسيسه الحرى وغبنه تجاه ما قررته هذه الصناديق . جلسوا فى منازلهم و تجملوا بالصبر و بالعوض المأمول الذى ينتظره الصابرون دائما ولم يتثاكلوا . لقد كبروا على جراحاتهم السياسة . وكانوا اكبر من كل التصورات . واكبر من بعض قادتهم الذين اخذوا تصايحوا بالوعد والوعيد . وقدم الشعب الرزين للعالم مشهدا خاليا من العنف رغم تضافر كل الاسباب المساعدة على توليد العنف . واعطى الشعب السودانى كل من يهمه الامر محاضرة فى المسلك الحصارى . لقد ظل الشعب العملاق يقدم هذه الدروس منذ وقت طويل وهو يكابد جراحه فى نفس الوقت الذى يمارس فيه البحث عن قادة عماليق يعيدون له سيرة الآباء العماليق اللذين مضوا . انهم ما زالوا ينتظرون . وتقول امثالهم الشعبية السائرة ( الدنيا . . . لا تدى حريف ). وما زال الشعب المعلم يبحث عن من يعطيه الأمل . فما اقسى العيش لولا فسحة الأمل .