المُتهم مدان حتى تثبت براءته! "بهذا النوع من الانتقائية، أستطيع إثبات أي شيء أريده!" - ديفيد سوزوكي، عالم بيئي المقتطف الذي صدرنا به المقال أعلاه قاله الدكتور ديفيد سوزوكي (David Suzuki)، عالم البيئة المعروف عالميا، ذات مرة، في العام 1989، في مناظرة عامة، في نقد بعض الدراسات التي تدعي العلمية، لكنها محصورة في انتقائيتها الشديدة، والتي تقتل معنى المنهجية العلمية.. الانتقائية معروفة في الكتابات النقدية عموما، وهي عموما معروفة كمصدر ضعف في تلك الكتابات.. لكن، حين تسير الانتقائية إلى مستويات بعيدة، فإنها تصبح شيئا آخر، ليس مجرد "انتقائية"، إنما تصبح تشويها وتزييفا للحقائق. سأنحو في هذا المقال الرابع، كما وعدت، إلى مباشرة توضيح التشويهات في النصوص والوقائع، في المقال الثاني، والأول، للأخ إبراهيم عبدالنبي، بعنوان " طرح د. النعيم، ومؤيدوه: بين التقوّل والادّعاء"، إذ صدرا في موقع سودانيزأونلاين في الأيام الماضية، واتهم فيهما الكاتب الأستاذ عبدالله النعيم، كما اتهمني، بتأييد وترويج الإباحية الجنسية والمثلية الجنسية، وزعم أنه يقدم الأدلّة على تلك التهم الكثيفة.. برغم أني وضحت جانبا كبيرا من ذلك التشويه، في مقالي الثاني من هذه السلسلة، سأتناول المزيد تشويهات وتكرارات إبراهيم، هنا، في أربعة قضايا أو محاور، وهي حول: المفوضية الدولية للقانونيين؛ ومنظمة اخوات في الاسلام (Sisters in Islam)؛ وقصة القاضي ألبي ساكس الجنوب افريقي؛ ثم عرجة أخيرة على النماذج المستمرة في التشويه. (1) المفوضية الدولية للقانونيين (International Commission of Jurists): يقول الأستاذ خالد الحاج، في الحلقة السادسة من مقالاته الأخيرة، ويوافق الأخ إبراهيم عبدالنبي، إن هذه المفوضية هي "أهم وأكبر منظمة عالمية تعمل على حماية المثلية الجنسية".. يقولون إنها معنية بصورة خاصة بالدفاع عن حقوق المثليين في العالم.. وبما أن عبدالله النعيم من أعضاء هذه المنظمة الدولية، برتبة مفوض، فهو بالضرورة من مروجي المثلية الجنسية.. يضيف الأستاذ خالد الحاج: "مقر المنظمة في جنيف، سويسرا.. وهي تجمع شبكة من القانونيين، والمؤسسات القانونية المستقلة (82 مؤسسة)، تتوزع على 62 دولة في العالم، وتعمل هذه المؤسسات بتنسيق تام مع سكرتارية المنظمة في جنيف.. المنظمة معنية بصورة خاصة بالدفاع عن حقوق المثليين، بكافة شرائحهم (.....) والمنظمة مهتمة بصورة خاصة بالدول الإسلامية.. كما أن المنظمة تتمتع بوضع استشاري في اليونسكو، والمجلس الأوربي، والإتحاد الأفريقي.. ود. النعيم أحد الأعضاء المفوضين في المنظمة.. وقد جاء عن المفوضين، في موقع المنظمة ما يلي: "كافة المفوضين، كنشطاء في مجال حقوق الإنسان يروجون ويساندون، ويقدمون النصائح القيمة للمنظمة، ويتضمن عمل المفوضين ما يلي: المشاركة في لجان رصد الحقائق، التي تشكلها المنظمة، ومراقبة المحاكمات، وتمثيل المنظمة في المنتديات العالمية.. كما يدعم المفوضون أيضاً، ويسندون نشاطات المنظمة من مواقع عملهم المختلفة كمحامين، أو قضاة ومستشارين وأكاديميين". نبدأ الحديث بالتذكير بأن هناك دائما فرق جوهري بين تأييد وحماية "حقوق الإنسان"، وبين تأييد الانحلال الأخلاقي في أي مستوى من مستوياته.. هذا الأمر خصصنا له مساحة كبيرة في مقالنا السابق (الثالث).. هذا أمر ما كان يجب أن يقال لأي شخص جمهوري، لأنه من الأمور الواضحة في الفكرة، وهي أن الإنسان مكرّم وله حقوق، في الأساس، بصفته إنسانا، وبعد ذلك يجيء الحديث عن المعارضة للمسائل غير الأخلاقية، وسُبل معاجلتها، وهي مسائل كثيرة ومتعددة المستويات، لكنها تنطلق أساسا من أرضية تكريم الإنسان وصيانة حقوقه.. الاننقائية في تطبيق حقوق الإنسان تنافي مبدئيتها كونها حقوق "إنسان"، والسكوت عن التعديات المختلفة والبشعة على حقوق الإنسان، ثم التشهير بمن لا يفعل نفس الفعل، هو أمر يدعو للقلق بخصوص الاتساق الأخلاقي.. لا يمكن أن نصمت عن الجرائم الأبشع في حق الناس، ثم ننشغل بالمسائل المثيرة للرأي العام ونرفع شعارات الطهر الأخلاقي وكأننا ملائكة. هذا من ناحية عامة، ومن ناحية خاصة، فإن هناك تشويه كبير لتاريخ وحقيقة هذه المنظمة – المفوضية – قد جرى لهدف تجريم عبدالله النعيم كعضو فيها. هذه منظمة لها تاريخ يمتد لعقود من الزمان، منذ العام 1952، ولها ملفات كثيرة وقضايا كثيرة، قبل موضوع المثليين وأكبر منه، وتجسيدات نشاطاتها تلك معروفة للناس، منها: أ- إنشاء المحكمة الجنائية الدولية (أي أنها المنظمة التي ابتدرت ورعت ملف إنشاء هذه المحكمة، حتى أقنعت هيئة الأممالمتحدة به، وهي نفس المحكمة التي يعرفها الناس اليوم في قضية أوكامبو والبشير) ب- إعلان الأممالمتحدة لحماية جميع الأشخاص من الاختطافات السياسية - إثر أجواء ما بعد الحرب العالمية الثانية والحرب الباردة. ج- قضايا رفع الحصانة الدبلوماسية عموما عن مجرمي الحرب. د- عموم قضايا حقوق الإنسان. ه - قضايا استقلال القضاء وحكم القانون في الدول النامية. كل هذا التاريخ للمنظمة "غير موجود" في نظر البعض، وإنما هي "منظمة معنية تحديدا بحقوق المثليين"، فقط هكذا (وطبعا الموضوع الوحيد الذي ينشغل به هؤلاء هو موضوع الزواج وممارسة الجنس، أما "الحقوق الحقيقية"، في رفع الاضطهاد وحماية الأرواح والممتلكات، فهذا لا يهمهم في هذه القضية).. لماذا؟ لأنهم لا يرون إلا "المثلية الجنسية" ماثلة أمامهم، ولا يهمهم سواها، ولأسباب تجريمية بتقريرات مسبقة.. كما قال الدكتور ديفيد سوزوكي: "بهذا النوع من الانتقائية، أستطيع أن أثبت أي شيء أريده!". هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى فإن هيكل هذه المنظمة - المفوضية الدولية للقانونيين - هو هيكل "لا مركزي" عموما، فأعضاء المنظمة المفوضون يتولون ملفات مختلفة، كمستشارين أو كممثلين للمنظمة لدى جهات معيّنة، في مجالات هي مجال اهتمامهم واختصاصهم – أي هؤلاء المفوضون - في قضايا حقوق الإنسان والقانون الدولي، وتكون عضويتهم مرتبطة بهذه الملفات.. أما الملفات الأخرى، والتي يعمل عليها الآخرون، حسب اختصاصاتهم، فليس غيرهم مسؤول عنها.. هذا الهيكل ليس فريدا من نوعه بالنسبة للمنظمات التي تشبه هذه المفوضية، والتعاون العام بين المنظمات والباحثين، كأفراد أو مفوضين، لا يفترض أبدا الاتفاق الشامل والكامل على جميع الأجندة، وإنما فقط الأرضية المشتركة في القضايا مناط التكليف (ولو لم يكن هذا الاتفاق ممكنا، لما كانت هناك إمكانية للعمل المشترك بين البشر عموما في عالمنا اليوم، بلّه بين المنظمات والأفراد في القضايا الإنسانية العالمية والمتنوعة). إضافة لأن هذه المفوضية منظمة ذات علاقة غير اعتيادية بهيئة الأممالمتحدة، بحيث أنها ليست مجرد "منظمة غير حكومية" بالمعنى الشائع (هي فعلا غير حكومية بمعنى لا تتبع لسلطة دولة، لكنها على علاقة قانونية وتاريخيه وثيقة بهيئة الأممالمتحدة، ولها علاقات بمنظمات التحالفات الإقليمية كالاتحاد الأوروبي والاتحاد الافريقي، وهيكلها واسع وعالمي، كما هو واضح من تاريخها وإنجازاتها، بحيث لا يمكن أن نساوي بينها وبين أي منظمة مجتمع مدني عادية.. يمكن مثلا أن نقارنها، نسبيا، بمنظمة الأمن الدولية، وهي أيضا منظمة غير حكومية).. أجندة هذه المنظمة متطابقة مع هيئة الأممالمتحدة، وتعمل كثيرا كجهة استشارية لمنظمات الأممالمتحدة.. فهل نقول اليوم إن جميع الحكومات الأعضاء في الأممالمتحدة "تؤيد وتروج المثلية الجنسية" لأنها أعضاء في الأممالمتحدة التي ترعى ملف حقوق المثليين عالميا؟ هل يمكن أن نقول هذا، أم الحكاية كلها لا تخرج من دائرة التشويه المتكرر؟ الملف المعروف للدكتور عبدالله النعيم –ومطروح في موقع المنظمة بصفته منطقة تخصصه – هو عمله في مجال حقوق الإنسان في العالم الإسلامي، والقضايا الدستورية في افريقيا، وقضايا الخصوصية الثقافية لمشروعية حقوق الإنسان في المجتمعات الإسلامية والخطاب الإسلامي.. هذا عموم مجال النعيم، كما هو معروف عنه.. إذا أضفنا لذلك تصريحه الواضح، في مقاله الأخير "إجابات من د. عبدالله النعيم"، المنشور في سودانيزأونلاين بتاريخ 16 أكتوبر 2012، والذي قال فيه إنه لا يؤيد أي علاقة جنسية خارج مؤسسة الزواج بين الرجل والمرأة، بصفته مسلما، وإنه لم يحصل أن كان يوما من المروّجين أو المؤيدين "المثلية الجنسية" بأي صورة من الصور، وإنما يدافع عن حقوق الإنسان، يتضح لنا حجم التشويه الذي تم بحق النعيم، من أجل اتهامه اتهامات جائرة بغير دليل. وهذا كله مصحوب بموقف شديد التزمت، من جانب هؤلاء "الناقدين" للنعيم، مفاده أن منظومة حقوق الإنسان هي إنتاج غربي، ببساطة، وهي من ثم شيء سيء، يكفي مجرد الانتساب له أن يوصف المرء بأنه فارق دينه واتبع الثقافة الغربية.. مثل هذا الكلام المعمم ما كان سيثير عجب أحد إذا صدر من الوهابية أو جماعات "أنصار السنة"، لكن أن يصدر من جمهوريين، فهو الغريب حقا. هنا أترك للقراء بعض الروابط حول المنظمة، إضافة لرابط موقعها الرئيسي، ليتحققوا بأنفسهم من المعلومات: - http://www.icj.org/ - http://www.ngo-monitor.org/article/international_commission_of_jurists_icj_ - http://en.wikipedia.org/wiki/International_Commission_of_Jurists (2) منظمة اخوات في الاسلام (Sisters in Islam): نفس التشويه، وأكثر، صدر بحق منظمة "أخوات في الاسلام، وبتضليل أسوأ من هذا، إذ قيل إن هذه المنظمة إنما تسعى لترويج الإباحية الجنسية في العالم الإسلامي.. أصبحت بعض المنظمات التي تسعى من أجل رفع حقوق المرأة في العالم الإسلامي، وبعمل دؤوب ومحترم، أصبحت يتم تشويهها من قبل بعض الجمهوريين الذين قال أستاذهم إن قضية نصرة المرأة هي أهم الأعمال في المجتمع المعاصر.. وذنب هذه المنظمة هي أنها تعاملت مع عبدالله النعيم، والذي بدوره "في قفص الاتهام" بأسوأ جرائم في نظرهم. يصف الأستاذ خالد الحاج، في مقالاته، هذه المنظمة بأنها: " تقوم بدراسات، وورش عمل، عن حقوق المرأة، تدافع فيها عن حق المرأة في التصرف في جسدها كما تشاء، وحقها في ممارسة الجنس قبل الزواج.. كما أنها تعارض الدول والقوانين، التي تحرم مثل هذا النشاط، وتمنعه.".. المشكلة أن لا الأستاذ خالد الحاج، ولا إبراهيم عبدالنبي، أوردا لنا دليلا واحدا على هذه التهمة، والتي تختزل كل عمل هذه المنظممة الدؤوب من أجل حقوق المرأة، إلى "ترويج للإباحية الجنسية" ببساطة.. هذا الأمر أيضا يكاد يدخل في مستوى التعرض لأعراض الناس بغير أدلة حقيقية، لأن الذين يروجون للإباحية الجنسية هم أيضا مظنة ارتكابها، بالمنطق العام، وهذا الأمر وحده كان يكفي الشخص الورع أن يكون شديد الحذر في رمي هؤلاء النسوة، اللائي لا يعرفهن، بقول كهذا.. هذا وأنا أتساءل، كما تساءلت من قبل، عن ما إذا كان الأستاذ خالد الحاج فعلا قد اطلع على مصادره هذه مباشرة، وخلص لما خلص له، أم أنه اعتمد هذه "المعلومات" من طرف ثالث، ولم يتبيّنها بنفسه. ألا يخشى الأستاذ خالد، وإبراهيم، ومن معهما، أن اتهامهم الخطير هذا لأولئك السيدات، يضعهن في خطر، من طرف قوى الهوس الديني المنتشرة في العالم الإسلامي، والتي تبحث عن أي أسباب لاستهدافهن؟ أم أن الكلام يُلقى على عواهنه، في أخطر الأمور، وليست هناك أي مسؤولية عن تبعاته؟ والهدف من وراء كل ذلك هو تجريم النعيم؟ ونضع أيضا للقارئ، أدناه، وصلتين، هما موقع المنظمة وفديو عنها، للتعرف على هذه المنظمة، وأعمالها المتعددة والمحترمة حول العالم الإسلامي من أجل حقوق المرأة: - http://www.sistersinislam.org.my/ - http://www.youtube.com/watch?feature=player_embedded&v=E3WgVhIEwTA (3) القاضي ألبي ساكس، مرة أخرى: لقد رددنا على الأخ إبراهيم، في مقالنا الثاني من هذه السلسلة، بخصوص ما قاله عن القاضي ألبي ساكس الجنوب افريقي، فقلنا: "والحالقة الثانية، هي تشويه الأخ إبراهيم عبدالنبي للمقولة الشهيرة للقاضي الجنوب افريقي "ألبي ساكس"، (عيني عينك)، والتي تقول "حقوق الإنسان هي عن حق الإنسان في أن يكون مختلفا وأن يكون متساويا"، والذي أورده إبراهيم عبدالنبي، على لسان النعيم، لكن بتغيير كلمة "متساويا" (the same) إلى "مثليا".. ثم يبرر قوله هذا بقصة أن ألبي ساكس، وهو قد كان قاضي المحكمة الدستورية في جنوب افريقيا، إنما كان يعني بها "المثليين" في سياق عبارته، وأن النعيم يعرف هذا، وأن المستمعين له يعرفون هذا.. هذا نموذج للتشويه." ثم ذكرنا للقراء، في ذلك المقال، جانبا من تاريخ ألبي ساكس، لتتضح الصورة أكثر، فقلنا: "القاضي ألبي ساكس شخص له تاريخ يستحق المعرفة، فهو قد كان من مناهضي نظام الفصل العنصري (الأبارتايد) في جنوب افريقيا، (وهو أبيض)، وبسبب ذلك قام نظام الابارتايد بسجنه، ثم نفيه خارج البلاد، ثم حاول عملاء النظام اغتياله خارج البلاد عن طريق زرع قنبلة تحت سيارته، فأدت لحادث لم يخسر معه حياته، لكن خسر إحدى يديه وإحدى عينيه، ومع ذلك لم يتوقف عن مناهضة النظام من الخارج.. وحين انتهى عهد الأبارتايد، قامت حكومة نيلسون مانديلا بتعيين ألبي ساكس قاضيا في المحكمة الدستورية، حيث شارك في العمل القانوني من أجل ديمقراطية دستورية في جنوب افريقيا.. هذا رجل وظف نفسه لحقوق الإنسان بصورة مبدئية وقوية، وتعرض في سبيل ذلك لما تعرض له من تضحيات، ولكن الأخ إبراهيم عبدالنبي يأخذ مقولته الشهيرة أعلاه (والتي أخذت وزنها أساسا من وزن قائلها، وليس في تجريدها)، ليقوم بتشويهها بصورة غريبة، وضيقة جدا، ويبرر لذلك التشويه بأحاديث لا علاقة لها بالموضوعية، فيقول "ولكن، بالطبع، المثليين الحاضرين في ذلك الحشد يعلمون تماما ما تعنيه العبارة، والنعيم بالطبع يعلم، ويدرك، أبعاد عبارته، في تأييد زواجهم، وممارساتهم، خصوصا أنه يتحدث من (منظور إسلامي) كما أعلن!! ولذلك هم احتفلوا جدا بعبارته، هذه.".. "بالطبع"! فالأخ إبراهيم عبدالنبي "يعلم تماما" كيف يفكر "المثليون الحاضرون" في ذلك الجمع المذكور، ويعلم تماما كيف يفكر النعيم، ولهذا يعطي نفسه صلاحية "تغيير النص" تغييرا مبالغا، ويسميه "ترجمة"، وكأن إبراهيم "يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور"! (وبالمناسبة، وحتى نتجاوز أي احتمال دعاوي أخرى، فالقاضي ألبي ساكس متزوج من امرأة ولديه أطفال.. فقط معلومة عامة للجميع).. هل هذا نقد موضوعي، في أي مستوى من الموضوعية؟" هذا ما قلناه، فماذا كان رد إبراهيم؟ قال في مقاله الثاني الآتي: "أما القاضي ألبي ساكس، فهو في الواقع، كما قلتُ عنه، أول قاضي يصدر حكما قضائيا يبيح به زواج المثليات والمثليين في جنوب أفريقيا، وهو نشط جدا في تأييد المثليات والمثليين وحقوقهم!! فهل نفهم من قول قصي، وإيراده مقتطفا من سيرة القاضي ألبي ساكس، أنه يقول بعدم صحة ما أوردتُه عنه؟؟!! أم أن الأمر مجرد زوبعة، راغ في خضمها، من مواجهة أقوال النعيم؟؟" من الأمور الغريبة في موضوع إبراهيم هذا، الاتقاء بالانتقائية، والتحصن بها، كما وردت قولة ديفيد سوزوكي أعلاه، فهو يظن مع هذه الانتقائية أنه فعلا قد أثبت صحة قوله.. فالقضية التي تجنبها إبراهيم ليس هي أن ألبي ساكس ساهم في تقنين زواج المثليين في جنوب افريقيا، وإنما القضية هي تشويه إبراهيم لمقولته، وترجمته لها ترجمة واضحة التشويه الشديد (بل هي ليست "ترجمة" أساسا)، ثم تجريمه للنعيم من خلالها.. هو تشويه مُركّب، بطبقات، ففي الأول يحرف كلام ألبي ساكس، وبعدها يقول إن النعيم "يعلم" أن هذا التشويه هو ما قصده ألبي ساكس فعلا. ألبي ساكس معروف كعلم من أعلام مناهضة العنصرية والظلم، وليس فقط موقفه من زواج المثليين (وهو موقف ليس يخصه وحده، كما أن حجة ساكس الأساسية كانت قانونية مهنية في إقرار زواج المثليين في جنوب افريقيا، حيث خلص إلى أن منع زواج المثليين سيكون متناقضا مع الدستور كما هو منصوص).. انظروا إذا كان هناك دليل حقيقي، للتشويه الغريب جدا، الذي قام به إبراهيم عبدالنبي، لمقولة ساكس المشهورة، بدعوى "سياق" لم يأت بأي دليل عليه، سوى أن ساكس ساهم في تقنين زواج المثليين في جنوب افريقيا.. لماذا لا يكترث ابراهيم بأن ساكس قد كاد أن يفقد حياته في سبيل دفاعه عن الجنوب افريقيين "السود والملونين"، مثلا، ولماذا تجاهل هذا الأمر تماما، برغم أن ساكس مشهور أكثر بهذا الأمر، وليس بموضوع المثليين.. هل فقط ليختلق قصة من عنده تبرر له أن "يحرف" عبارة "the same" إلى كلمة "مثلي"، ثم يتخذها سبيلا لتجريم النعيم، بأن يقول إن النعيم "يعلم" ما "يقصده" ألبي ساكس، ولهذا استعمل هذه العبارة في مؤتمر فيه حضور مثليين؟ ما هذا الاستهتار بعقول الناس؟ على العموم، أدناه نورد ملخصا لحياة ألبي ساكس، كما تعرضه المحكمة الدستورية في جنوب افريقيا (لاحظوا أنها تركز على الشيء الأشهر عن ساكس، وهو مناهضته لنظام الفصل العنصري، وليس زواج المثليين، بل إن موقع المحكمة الدستورية لا يذكر حتى قضية المثليين هذه في تاريخ ساكس): http://www.constitutionalcourt.org.za/site/judges/justicealbiesachs/index1.html وهذه سير إضافية عن ألبي ساكس: - http://en.wikipedia.org/wiki/Albie_Sachs - http://www.achievement.org/autodoc/page/sac0bio-1 (4) "المتهم مُدان حتى تثبت براءته": يبدو أن الأخ إبراهيم يعتمد قاعدة قانونية أخرى، تختلف عن تلك المشهورة، "المتهم بريء حتى تثبت إدانته".. يتبع إبراهيم قاعدة "المتهم مُدان حتى تثبت براءته".. بالنسبة لهذه القاعدة، يكفي أن يقوم هو باتهام النعيم، ويصر على تهمه ويكررها، ثم يلحقها ببعض المصادر الانتقائية (من نوعية ما وصفه سوزوكي أعلاه)، والترجمات الشائهة، والتفسيرات الشائهة، ثم بعد ذلك يسترخي على أساس أن المتهم عليه الآن أن يثبت براءته، وإلا فهو قد ثبتت بحقه الإدانة فعلا. إذا كان أي نظام قضائي، في العالم اليوم، يعمل بهذا الأسلوب، لصار من النادر أن يعيش أي شخص خارج السجون، بلّه أن يكون هناك أي منابر حوار موضوعي وديمقراطي. من التشويهات التي يصر عليها إبراهيم هو اتهامه للسيدة ميلودي، كما ذكرنا سابقا، بأنها "مثلية، تجاهر بمثليتها"، وحين أثبتنا له بصورة واضحة جدا، وموثقة جدا، أنه تجنى على هذه السيدة بهذه التهمة الخطيرة، وأنها سيدة مسلمة أمريكية ومتزوجة – أي "مُحصنة" بالتعبير الشرعي – لم يتراجع عن أقواله، وإنما مضى في قول أشياء من شاكلة إنها، بما أنها قالت إنها حليفة لهؤلاء، في مجال حقوقهم التي يدعون لها، فهي إذن منهم! انظروا حجم الالتواء في هذا الرد! وبعد ذلك مضى ليلاحق السيدة ميلودي في خيارات حياتها الشخصية، ليقول إنها ليست نموذجا أخلاقيا يُحتذى للنساء المسلمات، وليقول بعد ذلك إن النعيم ساهم في تقديمها كنموذج أخلاقي للنساء المسلمات الأمريكيات.. يبدو أن إبراهيم، في حالته هذه، ليس هناك حد يمكن أن يقف عنده في هذا الاتجاه، وهو اتجاه يُفترض أن مجرد الورع الذي يمنع الشخص العادي من الخوض في خصوصيات الناس، يكفي فيه.. لكن يبدو أن ميلودي عند إبراهيم إنما هي ضحية أخرى لا بأس بها في سبيل النيل من النعيم. ثم إن إبراهيم، بعد كل هذا، لا يفرغ مخزونه من "الأدلة" من هذه الشاكلة، التي أوردنا لها نماذج أعلاه (إضافة للتي ذكرناها في المقالات السابقة)، وبهذا المنوال، فلا نتوقع أن "أدلة" إبراهيم ستنتهي.. هي في الواقع "أدلة" على فقدان الأدلة، ولهذا فعددها يكاد يكون مفتوحا على سعة اللغة وسعة "الخيال" عند الباحث عن مواطن التجريم.. ثم إبراهيم يطالبنا بأن لا نتجاهلها، ويعرضها كحيثيّات قوية وقاطعة تدعم اتهاماته! أرجو، صادقا، أن نراجع جميعا مواقفنا، ونتدبرها جيدا، من أجل أنفسنا ومن أجل القيم الرفيعة التي نزعم أننا نناصرها.. وعلى العموم، فلولا الأمل في أن ينصلح هذا الحال – حالنا جميعا – لما كان هناك معنى لكل المداد الذي بذلناه ونبذله جميعا.. الأمل أن تعود نظرات بعضنا لبعض تحمل الطاقات الإيجابية والبنّاءة وحدها، وإن اختلفت آراؤنا ومواقفنا.. وما ذلك على الله بعزيز. مرة أخرى.. هل من سبيل أفضل؟ قصي همرور 17 أكتوبر 2012