"ولسنا ندعو، أول ما ندعو، إلى شيء أكثر، و لا أقل من إعمال الفكر الحر فيما نأتي وما ندع، من أمورنا الفكر الحر الذي يضيق بكل قيد ويسأل عن قيمة كل شيء، وفي قيمة كل شيء، فليس شيء عنده بمفلت عن البحث، وليس شيء عنده بمفلتٍ من التشكيك. فلا يظنن أحد أن النهضة الدينية ممكنة بغير الفكر الحر، ولا يظنن أحد أن النهضة الاقتصادية ممكنة بغير الفكر الحر، ولا يظنن أحد أن الحياة نفسها يمكن أن تكون منتجة، ممتعة بغير الفكر الحر." - الأستاذ محمود محمد طه سأنحو في هذا المقال الثالث، لا إلى مباشرة توضيح التشويهات في النصوص والوقائع، في المقال الثاني للأخ إبراهيم عبدالنبي، بعنوان " طرح د. النعيم، ومؤيدوه: بين التقوّل والادّعاء (الحلقة الثانية)"، بتاريخ 13 أكتوبر 2012.. لن أنحو لتوضيح التشويهات أولا، التي صارت وتيرة (بنفس الأسلوب ونفس الأدوات)، وإنما سأفعل ذلك فيما بعد (إذ ليس هنالك جديد فيها حقا).. في البداية سآتي على سرد وتحليل للوقائع الأخيرة، والتي أتت بنقاشات الجمهوريين الداخلية إلى الفضاء الرحب، ليقرأها الجميع ويحكموا بأنفسهم، أيا كانت خلفياتهم. عذري في هذا المنحى أن الأخ إبراهيم، أولا، تجاهل معظم ردودي التي تطعن في "الأدلة" التي أوردها لتهمه السابقة، بخصوص الأستاذ عبدالله النعيم.. هو لم يتجاهلها فقط، وإنما مضى ليأتي "بأدلة" أخرى من نفس الشاكلة (وبنفس أسلوبه السابق تماما).. أسوأ من ذلك فهو بدل أن يعتذر عن اتهام الكاتبة ميلودي، في مقاله السابق، بأنها "مثلية"، ذهب ليبرر لقوله ذلك بتشويهات أخرى، وتبريرات أخرى، مما يدل أكثر على أن إبراهيم لا يرفض فقط الاعتراف بأخطائه المعلوماتية الواضحة، بل يدافع عنها بحجج أكثر هشاشة.. بطبيعة الحال سنضطر لإبانة التشويهات التي جرت (وسننحو أيضا لاستعراض أمور أخرى، مثل موضوع مفوضية القانونيين الدولية)، لكن ليس في البداية.. من الواضح لنا، أن أكثر أمر مؤسف في هذا الأمر، هو استمراء الخوض في أعراض الناس، ثم رفض التراجع عنه.. النقاش ساحة واسعة، وقصة لا تنتهي، لكن المواقف الأخلاقية التي يسجلها التاريخ – خصوصا حين تُكتب كتابة – لا تنمحي. ثانيا، افتتح الأخ إبراهيم حديثه بنصوص وتفسيرات لما قاله الأستاذ محمود محمد طه، مفادها أنه – أي إبراهيم – يقف موقف المدافع عن الفكرة من تحريف "القادمين الجدد"، (ويقصدني أنا شخصيا)، لأن الأستاذ حذر من أن المستقبل قد يأتي فيه أناس جدد بأشياء جديدة في الفكرة الجمهورية وهي ليست من الفكرة.. مثل هذا الاتجاه خير إجابة عليه هي أن نبذل رأينا وحجتنا، كما كنّا نفعل من قبل، وبدون أي تغيير في هذا الاتجاه العام.. هذا الباب الذي يريد أن يفتحه الأخ إبراهيم هو باب واسع، ويسير، للتصنيف والإقصاء، ببساطة، لأنه يمكن أن يُرفع في وجه أي شخص "جديد"، وأي شخص "قديم"، حسب تلوّن الأهواء.. لا عبرة في حديث كهذا عندي، لأني غير مكترث حقيقة في أين يصنفني إبراهيم، أو من يتفق معه. النص الذي أتى به إبراهيم حول "الجدد" يمكن أن يُرفع في وجه أي "جديد" يفتح فمه، و"يتجرأ" على ان يكون له رأي خاص.. وما بال "القدامى" الذين يتفقون مع هؤلاء "الجدد"؟ مسألتهم بسيطة، فهؤلاء أيضا هناك نص جاهز يمكن استعماله بخصوصهم، وهو أن حتى القدامى فيهم أناس ليسوا حقيقة بجمهوريين، بل وهم "يكيدون" للفكرة منذ ذلك الزمن.. وطبعا هذا ما قاله إبراهيم فعلا.. بهذا يستطيع إبراهيم أن يُسكت هؤلاء "الجُدد" بالنصوص، ويُسكت أيضا"القدامى" الذين يختلفون معه بالنصوص أيضا.. فلا يبقى إلا أن نذعن لآراء إبراهيم وإلا أخرجنا من حظيرة الفكرة! أما الفكرة الجمهورية نفسها، فهي بهذا النموذج، الذي يمثله إبراهيم، ترفض أي فهم متجدد، أو مستقل (إلا لو كان من عنده، أو من عند من يرضى عنه)، وبهذا تفقد ميزتها الأصيلة، وقضيتها الأولى، وهي إنجاب الأفراد الأحرار، المسؤولين. لكن يتجنب إبراهيم عبدالنبي أن يذكر النص الذي ذكر فيه الأستاذ أن المستقبل فيه "جمهوريين" لم يروا الأستاذ ولم يعاصروه، ولكنهم "جمهورييين" (التشديد من عند الأستاذ)، تماما كما قال إن هنالك أناسا موجودون وسط الجمهوريين في ذلك الزمن، ويعيشون وسطهم، ويشاركون في الحركة معهم، ولكنهم ليسوا جمهوريين.. لو كان إبراهيم حريصا على تمحيص قول الأستاذ هذا، لما اطمأن لنفسه لكونه من الذين عاصروا الأستاذ وشاركوا في الحركة (وإن كان هو نفسه من الذين لحقوا الحركة الجمهورية في أواخر أيامها فقط، وليس هناك مجال للمقارنة بين تاريخ عبدالله النعيم في الحركة الجمهورية، مثلا، وتاريخ إبراهيم فيها)، كما أن إبراهيم ما كان ليستخدم نص الاستاذ عن "الجدد" في الفكرة واحتمال تشويههم لها أو إضافتهم ما ليس فيها، لأن العكس أيضا وارد (وهو أن يكونوا جمهوريين صدقا، وببشارة الأستاذ عنهم).. ببساطة، لو كان إبراهيم حريصا على تمحيص قول الأستاذ هذا لاحتفظ به لنفسه، في دائرة العظة والعبرة للنفس، كما يليق به (أي القول)، ويكتفي بنقاش الأمور في مستواها الموضوعي، ليثبت صحة رأيه وخطل رأيي، لأنه "لا يعلم" أين موضعه هو، ولا يعلم أين موضعي أنا، في هذه التصنيفات التي ذكرها الأستاذ (فإن زعم أنه "يعلم" ذلك حقا، فمن الأكرم له أن يصرّح بذلك بوضوح).. مثل هذه النصوص، حين يوردها الكاتب في أي نقاش، فهي تطرد الموضوعية من الميدان، لأن إيحاءاتها واضحة، وأسلوبها "الإرهابي" أوضح، لكنها في ذات نفسها لا تقول شيئا، في الواقع، ولهذا قد قال الأستاذ أيضا "العبرة ليست بالنص، وإنما بفهم النص." كل هذا يظهر بصورة أكبر حين نعرف أن الجمهوريين، في عهد الأستاذ، لم تكن لديهم أي "قائمة عضوية"، بل إن الأستاذ رفض هذا المنحى رفضا باتا حين أثاره بعض تلاميذه، وقال قولته المشهورة "الشعب السوداني كله جمهوري".. إن كان الأخ إبراهيم عبدالنبي حريصا فعلا على إرث الفكرة، فمن الخير له أن يتدبر أقوال ومواقف الأستاذ هذه جيدا، ويتذكر أن الأستاذ لم يعط أحدا من تلاميذه صلاحية أن "يطرد هذا" أو "يقبل ذاك" في أرض الفكرة. نرجو أن يلاحظ القراء ويتابعوا هذا التيار الذي يمثله الأخ إبراهيم عبدالنبي جيدا، فهذه فرصة تاريخية عظيمة، لا يجوز تفويتها، لنشاهد بأنفسنا القصة التاريخية المشهورة، والمتكررة، تنفرج أحداثها أمامنا، حيث تتحول الأفكار الإنسانية العظيمة إلى عقائد منغلقة، ويتحول أنصارها إلى طوائف متحزبة، يرمي بعضها بعضا بكل سوء، وتذيق بعضها بأس بعض. وأنا، من ناحيتي، فسأستثمر هذا النموذج ما أمكنني، لمتابعة هذا التيار المثير للاهتمام، وسأستثمره أيضا لتوثيق ما يمكن توثيقه، للعبرة التاريخية.. ذلك لأني، بصراحة، لا أحفل كثيرا إذا صنفني إبراهيم، ومن معه، "خارج" الفكرة الجمهورية، فأنا لا أتلقى منهم "تجديدات عضوية" أو صكوك غفران، أو "مصروفات" أخشى انقطاعها.. إن إيماني والتزامي بالفكرة الجمهورية هو موقف شخصي، ولا أرى لأي جهة، من الأحياء اليوم، سلطة تصنيفي داخل أو خارج الفكرة.. ربما على إبراهيم أن يوفر مخزونه هذا من نزعة "الطرد" – إن كان لا بد – إلى مستقبل أفضل، إن شاء الله، حين تكون الفكرة الجمهورية مرفوعة الراية (حسيا كما هي كذلك معنويا)، ويصبح أنصارها ملء الأفق، أو يكون الانتماء لها يجني على صاحبه أي منفعة مادية أو ذاتية، فهذا ليس الحال اليوم، والجمهوريون "الجدد" هؤلاء أتوا للفكرة بدون "محفزات" من هذا النوع، حسب معلوماتي، بل العكس منه تماما هو ما يلاقونه في سبيلها. لقد سُئل الأستاذ بشير بكار – الذي فارق دنيانا مؤخرا، وهو من قدامى الجمهوريين وقيادييهم أيام الحركة الجمهورية – في مقابلة صحفية، في أواخر أيامه بيننا، عن مصداقية ما يدور من أخبار أنه "خرج من الفكرة الجمهورية"، فأجاب الأستاذ بشير: "أنا لم أخرج من براح الفكرة، بل حملت براحها معي..... أنا ما خرجت إلا من إطار ضيق اختاره الجمهوريون لأنفسهم بعد رحيل الأستاذ.".. ما يمكن أن يقال هنا هو: إذا كان هناك من قال عن الأستاذ بشير بكار إنه "خرج من الفكرة"، وهو من هو في تاريخ الانتماء والبذل للحركة الجمهورية، ففي هذا كل العزاء لأمثالي من "الجدد"، لأن أمرنا هيّن، إذا قورن بأمر الأستاذ بشير! لكن، أحب أن أطمئن القارئ، والقارئة، أن مثل هذه اللغة لا تمثل عموم المجتمع الجمهوري، حسب تجربتي الشخصية، والتي تمتد معه فقط لعقد من الزمان.. طيلة فترة علاقتي بالمجتمع الجمهوري، وجدت من معظم نسائه ورجاله، من تلاميذ وتلميذات الأستاذ القدامى – الذين أبلوا معه وأنفقوا زهرة شبابهم، وعقودا من الزمن، في تلك المعية – لم أشهد مثل تواضعهم وديمقراطيتهم معي، ومناقشاتهم لأرائي ومواقفي – سواء اختلفوا أو اتفقوا معها – بكل "ندّية" في مجال الحوار، وبدون وصاية.. شهدت هذا الأمر منهم بنفسي، ولم يخبرني عنه أحد.. حتى بنات الأستاذ، بالدم والتلمذة، لم يتصرفن معي، القادم الجديد، وكأنهن "يمتلكن" الفكرة وسلطة البت في قضاياها، بل أدهشني تواضعهن وبساطتهن، وطيب روحهن، و"ديمقراطيتهن".. شخصيات مثل هؤلاء شخصيات "مُعدِية"، يشعر الشخص بمجرد الحضور وسطهم بأهمية التواضع والأدب، والفكر الحر المسؤول.. ولهذا فإني أتحيّر، حين أقرأ للأخ إبراهيم عبدالنبي، لكني لا أسحب هذه الحيرة على عموم المجتمع الجمهوري الكريم. (1) بين حقوق الإنسان والحقوق الدستورية: أدناه، سأبذل خلاصة لعموم موقفي من موضوع الحقوق الدستورية وحقوق الإنسان، وذلك لسببين: أولا، حتى نكفي "الناقدين" عناء تفسير مواقفنا، والحديث باسمنا، وتقويلنا ما لم نقل، عن طريق افتراضاتهم وظنونهم، وثانيا، حتى تكون الخلاصة أدناه مقدمة لمحتوى الجزء القادم من هذا المقال، بإذن الله. نسبة لأن الحديث قد كثر، وطال واستطال، في اتهامنا، بغير دليل، على أننا "نؤيد" الإباحية الجنسية (هكذا)، أو "نروّج" لها، لأننا نتحدث عن "الحقوق الدستورية" للجميع، ولا نستثني أحدا.. نسبة لأن موقفنا المبدئي هذا، بالنسبة لبعض "الناقدين"، كاف جدا لأن يرموننا بأبشع التهم، بلا تريث وبلا تحقق، فإني سأضع موقفي أدناه بوضوح، رغم أني وضحته قبل اليوم: أنا، بصفتي مسلما، لا أؤيد الممارسة الجنسية خارج مؤسسة الزواج، ومؤسسة الزواج عندي هي علاقة بين رجل وامرأة، كما أن مؤسسة الزواج عندي هي مؤسسة دينية-اجتماعية في الأصل، منذ قديم التاريخ، وليست قانون دولة إلا بالحوالة (في العصر الحديث).. هذا موقفي الديني الذي أدافع عنه بصورة ديمقراطية، وبفكر موضوعي ودلائل علمية، ما أمكنني.. وفي مناخ ديمقراطي فإني لن أحرم أولئك الذين يختلفون معي في هذا الموقف، لن أحرمهم من حقوقهم الدستورية، ولن أسمح لنفسي أن أعتدي على حقوقهم هذه المكفولة بالدستور، لكننا لا بد أن نتفق جميعا على حد أدنى للأخلاق وللسلوك العام يلتزم به الجميع في الحياة العامة، بواسطة قانون دستوري.. هذا الحد الأدنى هو حد القانون، وأما ما فوقه من مستويات الأخلاق الأعلى، التي أؤمن بها، فهي تأتي عن طريق استمرار الحوار الديمقراطي، والبحث العلمي للحلول، بالإضافة لعوامل التعليم والعدالة الاجتماعية التي تهيئ المجتمع لأن يكون أرضا أكثر خصوبة لحصاد مكارم الأخلاق، مع تجسيد الأخلاق الدينية القويمة التي تغري الآخرين باتباعها، ليس قهرا وإنما طواعية. (أما بالنسبة للأستاذ عبدالله النعيم، فمن معرفتي الشخصية له، ومتابعتي لعدد غير قليل من نشاطاته، يمكن أن أقول إني أحد الشهود على أنه من "المروّجين" لمسلك الأخلاق الحميدة، قولا وفعلا، كما أشهد على أنه من المعتزين بهويتهم الإسلامية وهويتهم السودانية، في شتى الأوساط، إضافة لشجاعته الفكرية بحيث أن لغته وأطروحته لا تتغير بتغيّر الجمهور، ولا تنشغل بالحيازة على الاستحسان منهم.. هذه شهادتي في حق أخ كبير تعلمت منه الكثير، وما زلت، وأتفق وأختلف معه في أمور متنوعة، لكني لا أملك إلا أن أحترم رأيه ومواقفه في جميع الأحوال.) هذا موقفي أعلاه، وأنا مسؤول عنه ما دمت مؤمنا به.. لكن هناك الحاجة للمزيد من التوضيح في مسألة الحقوق. ما هي الحقوق الدستورية، وما علاقتها بحقوق الإنسان؟ الفرق بين الحقوق الدستورية وحقوق الإنسان هو فرق مقدار، لا فرق نوع، فبينما الحقوق الدستورية تكون "للمواطنين" بصفتهم كمواطنين (أي في إطار الدولة)، تكون حقوق الإنسان هي نفس هذه الحقوق لكن "للإنسان" بصفته إنسانا، أي على عموم النطاق العالمي.. الحقوق الدستورية تأتي من "العضوية" في المجموعة (المواطنة)، أما حقوق الإنسان فهي تأتي من مجرد حالة الإنسان إنسانا، من أي جهة أتى.. عليه فإن الحقوق الدستورية إنما هي تنزيل لحقوق الإنسان في إطار المواطنة. أنا هنا لا أقول إن حقوق الإنسان، أو الحقوق الدستورية، هو مواد متطابقة تماما، وفي كل الأرض، وعند جميع الناس، فهذا غير صحيح، لأن المسألة أساسا دينامية ومتطورة، ومتشكلة حسب الثقافات والتجارب المختلفة.. كما لا أزعم أن وثيقة "الإعلان العالمي لحقوق الإنسان" هي القول الفصل والأخير، بدون زيادة أو نقصان، في هذه القضية، بل من المؤكد أن الأمر عندي إنما بدأ قبل فترة زمنية بسيطة، في حساب التاريخ، وهناك مراحل مستقبلية كثيرة قادمة في الطريق.. لكن هناك "أبجديات" مشتركة، تشكل أرضية مشتركة لا بد منها.. الأستاذ محمود محمد طه يسميها "روح الدستور"، ويسميها أيضا "الحقوق الأساسية"، وهي الأبجديات التي لا يسمى الدستور بدونها دستورا.. لخصها الأستاذ في عبارة "حق الحياة وحق الحرية".. يقول في كتيب "أسس حماية الحقوق الأساسية" الصادر عام 1969، الآتي: "الحقوق الأساسية هي حق الحياة وحق الحرية وما يتفرع عليهما: ويتفرع على حق الحياة الحقوق الاقتصادية ويتفرع على حق الحرية حرية العقيدة وحرية الرأي ويتفرع على هذه الفروع فروع كثيرة غرضها كرامة حياة بني آدم.. ينصص عليها الدستور ويستوعبها القانون.".. يقول الأستاذ أيضا، في كتاب "أسس دستور السودان" الصادر عام 1955، في الفصل الخامس عشر ("الاجتماع"): "ونستطيع هنا ان تقول اننا لا نقيم فروقا اجتماعية على أي أسس من الدين أو اللون، أو الجنس، أو اللغة، أو النوع – رجل وامرأة – فالناس عندنا سواسية لا يتفاضلون الا بالعقل والخلق." بناء على هذا أعلاه، وبناء على ما لدي من ثقافة قانونية متواضعة، أضع بعض التفصيل أدناه لصور تجسيد "حق الحياة وحق الحرية": - حق الحياة: ويشمل حق الأمان على السلامة الشخصية من الاعتداء الجسدي أو النفسي المباشر، أو تعطيل أي حق دستوري آخر بدون سبب قانوني، كما يشمل أيضا حق الحصول على الرعاية الصحية والاقتصادية (حق العلاج وعدم التمييز بين المواطنين فيه على أسس موروثة، وحق عدم التمييز في العمل بخلاف المؤهلات المهنية، الخ) في مساواة بين الجميع وفق القانون (أي بدون تمييز على أساس أي خصائص موروثة وثقافية، مثل الهوية الاثنية والهوية الجنسية والهوية العرقية، الخ). - حق الحرية: وتشمل حرية التعبير وحرية التنقل وحرية الانتماء.. تجسيدات الموضوع تظهر في حق المشاركة في انتخاب الحكومة، وحق التعبير عن الآراء الفلسفية والاجتماعية والدينية والسياسية في المنابر العامة بشرط عدم انتهاك حقوق الآخرين (مثل عدم التحريض على التمييز العنصري أو العنف الطائفي، الخ)، وكذلك حق التنقل في أرجاء الوطن والممتلكات العامة، والتحصل على الخدمات العامة، مثل التعليم والبنية التحتية، وطبعا حق التنظيم مع أفراد آخرين يتفقون معك حول قضايا هوية التنظيم المعني (فلسفية، دينية، اقتصادية، سياسية، ثقافية، الخ).. كل هذا بشرط أن يمارس الناس حقوقهم وفق تنظيم القانون الدستوري، وأن لا ينتهكوا هذا القانون عنوة، وأن يساهموا بواجباتهم التي يطلبها منهم القانون (مثل دفع الضرائب، والتزام ضوابط السلوك العام، وتحمل مسؤولية إعاشة وتربية أطفالك، ما دمت قادرا، الخ). هذا موقفي وفهمي العام لموضوع الحقوق الدستورية وحقوق الإنسان الأساسية، باختصار، فأرجو أن تبقى في ذهن القارئ المتابع – سواء أتفق معي أم لم يتفق – ليستوضح عبرها آرائي حين أقول إني أؤيد الحقوق الدستورية الأساسية للجميع، لكني لا أرى أن الإباحية الجنسية، أو زواج المثليين، من الحقوق الدستورية الأساسية. (2) "لتتبعُنّ سنن من كان قبلكم": لقد ذكرتُ في المقال السابق: "إن ما أخشاه هو أن الأستاذ خالد الحاج، ومن يؤيده، يضحون بالطرح العميق لمسائل الحقوق الدستورية في الفكرة الجمهورية في سبيل النيل من عبدالله النعيم ومن يؤيده.. هم يفعلون هذا حين يستدعون الخطاب الديني السلفي، وحين يستعطفون مناصري هذا الخطاب، ويستريحون وسطهم، بهذا التركيز على مواضيع "الإباحية والمثلية الجنسية" وأن النعيم "يروّج لها" (هكذا)، وتراهم يستثمرون كل الاستثمار في هذا الاتجاه لكي يطعنوا في أطروحة النعيم ومن يؤيده.".. طبعا لاحظ عدد من القراء، خارج دائرة الجمهوريين، هذا الأمر، وصرحوا به في المنابر العامة، لدهشتهم أن دورة الزمان جعلت الجمهوريين، الذين عانوا ما عانوا من الخطاب التكفيري السلفي، والوعظي الخاوي، يعودون ويستعملونه ذاته فيما بينهم. أنا أرى أن هنالك أسبابا مغرية جدا، لهذا التيار الجمهوري "السلفي الجديد"، تجعله يستعمل هذه اللغة.. ببساطة لأنها سهلة جدا، ومريحة جدا، وتجعل هذا التيار يستعطف الكثير من القراء السودانيين، والشرقيين، (وللأسف جمهوريين كثيرين)، كرصيد جاهز ومجاني.. ولأن هذا التيار يعرف أن أي شخص آخر يهتم حقا بحقوق الإنسان – مثل معارضي هذا التيار – لن يتحدث بمستوى تلك اللغة في الموضوع، بسبب اهتمامه وانشغاله بالجوانب الكثيرة والشائكة في المسألة، مما سيجعله يتجنب لغة التشهير والتجريم والتهويل العام، ويحاول تناول المسألة بعمق وتريث وموضوعية.. هذا تماما هو الرد الذي يمكن أن نتوقعه من أشخاص موضوعيين وملمين – أو يسعون للإلمام – بجوانب الموضوع المتعددة، وهذا تماما هو الرد الذي سيستثمره التيار الجمهوري السلفي لرفد حملته الشعواء بالمزيد من الحطب اللاموضوعي. هذه معادلة بسيطة في واقع الأمر، لأنها متكررة في التاريخ، فأبسط سبيل، وأرخص سبيل، لدحر الخصوم أمام الرأي العام هو استخدام لغة تهييج العواطف ونصرة المقدسات العقائدية، خصوصا عندما يكون هذا الرأي العام جاهزا لقبول تلك اللغة، بسبب غياب "المعلومات الوافية" عنه.. هذه وصفة مجربة، جربها الجمهوريون أنفسهم، حين استخدمتها قوى الهوس الديني ضدهم على مر العقود.. لهذا أهدى الأستاذ محمود محمد طه إحدى كتبه هكذا: "إلى الشعب السوداني، الذي لا تنقصه الأصالة، وإنما تنقصه المعلومات الوافية، وقد تضافرت شتى العوامل لتحجبها عنه". طبعا الإشكالية تكمن في أن الجمهور الذي يستجيب لهذه اللغة التهييجية للمشاعر، ويتغذى عليها، هو جمهور لا يُعوّل عليه في التحديات الفكرية الكبيرة، وفي إنجاب نماذج فردية مسؤولة، تضطلع بحمل الراية الفكرية.. هذا ليس قولي تماما، إنما هو مأخوذ من آراء الأستاذ محمود محمد طه، والذي كان حريصا دوما على "نوعية" تلاميذه، لا "كميتهم"، كما صرّح بنفسه، ولهذا درّبهم تدريبات مكثفة، بسبل متعددة، على الحوارات الموضوعية العميقة، مثل أسلوب "الجلسات" و"المؤتمرات" المطوّلة (والتي تصل لأيام عديدة في استقصاء الموضوع الواحد)، واستقصاء المواضيع من شتى أبعادها، وباصطحاب كل ما هو متاح من المعرفة والمعلومات العلمية في القضايا التي يتناولونها.. هذا هو إرث الفكرة الجمهورية الذي يعرفه الناس، ولهذا فليس من الغريب أن يستغربوا حين يقرأون مقالات الأستاذ خالد الحاج الأخيرة. دعونا نشاهد هذا السيناريو (عموما)، من تاريخ بعض الجماعات الدينية (إسلامية أو غير إسلامية): 1- ينغلق مجتمع الأتباع على نفسه بعد غياب الزعيم الديني، سواء عن طريق الموت الطبيعي لذلك الزعيم أو الموت غير الطبيعي. 2- تصيب المجتمع حالة من الإحباط العام، والاضطراب، وفي نفس الوقت يبدأ ديالكتيك خروج تيارات متناقضة داخل نفس المجتمع (وهي تيارات لم تكن غائبة تماما منذ البداية، لكن الهيمنة الفكرية والروح الواسعة للزعيم الديني كانت كافية لأن ينتسب الجميع لمدرسة واحدة وإن أختلفت مشاهدهم فيها).. بينما البعض يرى أن الواجب الآن هو الاستمرار في المواجهة والفحولة الفكرية، كما كان العهد في وجود الزعيم الديني، يرى تيار آخر أن هذا وقت هدنة مع المجتمع الخارجي والتركيز على المجتمع الداخلي، لحفظ توازن النواة التي تركها الزعيم الديني في صدور أتباعه.. كلا التيارين لديه حجج كثيرة، ومنطقية وواعية، في صفه. 3- مع تراخي الزمن، يصبح الانتماء لهذا المجتمع الديني انتماء "بالميراث" (أي قدامى الأتباع وعوائلهم)، مع حالات أخرى قليلة تأتي من غير انتماء بالميراث.. داخل هذا المجتمع، ومع هذا التراخي، تنشأ ثقافة "امتلاك" الفكرة، فيُصبح التصور العام وكأن تلك "الفكرة" الدينية هي مصدر هويتنا كمجتمع، ولكننا في نفس الوقت "هويتها" هي أيضا.. هذه ثقافة مطمْئِنة، فهي إضافة لكونها تعطي المجتمع شعورا عاما بالأمل المستقبلي الذي ينتظره، حين انتصار الوعد الديني، تعطي هذا المجتمع أيضا "هوية" مستقرة، موروثة، لا يحتاج معها لأن يعمل أي شيء معيّن ليبقي عليها.. أي لا يحتاج بالضروة لأن "يجتهد" ليحتفظ بالهوية. 4- لكن، داخل هذا المجتمع نفسه هناك "ديالكتيك" لا يقف، فهناك دائما مراكز وعلاقات قوى تتشكل داخل أي وحدة اجتماعية.. تظهر في هذا المجتمع عن طريق بدايات "شللية" تتطور لولاءات طويلة المدى، وفي كل مرة تحصل احتكاكات بين تلك الشلل الداخلية تنمو الخلافات بينها عن طريق تمدد الخلاف بين الأشخاص ليتحول لخلاف بين الشلل، رويدا رويدا.. حتى تأتي أحداث تخرج فيها هذه الخلافات من كمون، وتخرج بصوت مدوي. 5- في هذه المعمعة، دوما هنالك أصوات موضوعية، وأصوات مستقلة، وأصوات "حقّانية" (كما أن هنالك نزعات حقّانية وموضوعية داخل كل شلة، فالبشر أيضا يحملون تناقضاتهم داخلهم، والخير والصدق موجود بكثرة فيهم).. لكن هناك دوما من ينظر لهذه الأصوات المستقلة بعين الريبة، وعين التربص، لأنهم "مجهولو الهوية" الشللية، ولا يتبعون القطيع، وهذا نموذج لا يجوز تشجيعه وسط المجتمع عموما.. لا يشفع لهذه الشخصيات أنها كانت من السابقة والباذلة في تاريخ الحركة الدينية، كما لا يشفع لها أنها تتصرف بمسؤولية فردية ولا تحمّل غيرها مسؤولية مواقفها. 6- نزعات "الطرد من القطيع" لا تظهر بين يوم وليلة، وحين تظهر فإنها لا تعلن عن نفسها بقوة في البداية، حتى تتأكد من أرضيتها الولائية (حتى تتأكد من أن الموالين لها مضمونون)، فتبدأ مناوشات بسيطة، ثم بعد ذلك تتحرك خطوات أكثر، وتصبح أكثر شراسة مع الأيام.. بعد ذلك تبدأ التيارات تنماز أكثر عن بعضها، وتبدو الشُقة أكثر علانية.. حينها يكاد يصح القول المأثور "سبق السيف العذل". 7- تمضى مع ذلك سنة الله في كل المجتمعات البشرية والمدارس الفكرية، وهي أن الأفكار والتجارب تنمو وتتطور، وتتشكل وتتنوع، كاستجابة ضرورية لنمو وتطور وتشكل الواقع، إضافة لأن الناس يتبدلون ويتغيرون، سواء بعوامل التغير الفكري أو عوامل تعاقب الأجيال (فالبقاء لله وحده).. وكما ذكر الأخ الدكتور أحمد الأبوابي، في كتاباته الأخيرة، فدوما سيكون هناك تجسيد للتيار "المحافظ" الذي يزعم حماية الجماعية الدينية عن طريق "التشبذ بالأصول" ونبذ البدع (وهو عموم زعم، مبني على فهم، وليس دوما صحيحا، لكن ليس دوما خاطئا أيضا)، وهناك تجسيد للتيار "التجديدي" الذي ينادي بإعادة فهم النصوص والقضايا وفق منظار الظروف الزمنية المختلفة (وليس كل من يجسد التيار التجديدي محق بالضرورة).. وتتكرر الأمور في هذا المضمار، كما تحدث الكثير من الأمور الإيجابية في مضمارات أخرى، تجمع شتات البشر على أرضيات مشتركة أكبر.. وفي النهاية فإن كل نزاعات البشر من هذا النوع لا توقف عجلة التاريخ، وإنما تساهم فيها، ضمن خطة إلهية كبيرة، لا يدرك معظمنا منها سوى ما يليه من القضايا والوقائع. هذه الصورة العامة لا تتكرر بنفس التفاصيل أو المستوى – طبق الأصل – عبر التاريخ، بل كل تجربة جديدة تحمل في طياتها مرحلة تاريخية جديدة، فالتاريخ يكرر نفسه بصورة هرمية لولبية، كما قال الأستاذ محمود محمود طه، فعندما يتم التاريخ دورة كاملة، تكون بدايته "تشبه النهاية ولا تشبهها" لأن هنالك فرق مقدار أضافته التجربة الجديدة.. إضافة لذلك، فإن الكثير من التفاصيل تغيب، بالضرورة، من هذا التلخيص العام أعلاه، وهذه التفاصيل مليئة بالكثير الإيجابي، من تجسيدات عظيمة للأخلاق، ومن أواصر ومواقف إنسانية نبيلة، ومن فائدة عظيمة للجميع، من الدروس الحياتية، وهذا عموما مشهود، بالنسبة لي، في المجتمع الجمهوري عموما، وأملي كبير في أن ينمو أكثر وأكثر، وما ذلك على الله بعزيز، والجمهوريون عموما حقيقون به. هذا كله ملخص لأمر تاريخي واضح.. والزعماء الدينيون، بنظرهم الثاقب، غالبا ما يرون هذا الأمر يتجلى في المستقبل الذي يستطيعون قراءته.. قالها النبي الكريم لصحابته "لتتبعُنّ سنن من كان قبلكم، شبرا بشبر، وذراعا بذراع، حتى لو دخلوا جحر ضبّ خربٍ لدخلتموه".. أما الاستاذ محمود فقد حذر الجمهوريين كثيرا من أن يصبحوا "طائفة"، عقائدية، تماما مثل الطوائف التي كانوا ينتقدونها بصورة واسعة.. قال الأستاذ للجمهوريين إن ما بين الجمهوريين وبين الطائفية "فركة كعب" إذا لم يتيقظوا لهذا الأمر، ويتنبهوا له على الدوام، ويحصنوا أنفسهم من الوقوع فيه.. قال لهم إن الطائفية ضارة للتابع والمتبوع، لأنها تحث التابع على الكسل الذهني والتنازل عن المسؤولية الفكرية، وفي نفس الوقت تكون ضارة للمتبوع لأن الأتباع الذين لا يناقشون، ويطيعون بدون فكر ناقد، يفسدون المتبوع وينمّون نزعة حب السلطة فيه.. لقد قال الأستاذ لتلاميذه إننا كوننا ننتقد الطائفية اليوم، وننتقد تحجر الفكر الديني، بقوة، لا يضمن لنا أن لا نسقط في نفس ذلك الخندق في مستقبل الأيام إذا لم نحذر، وإذا لم نُبقِ جذوة الفكر والمسؤولية فينا حية لا تنطفئ.. هذه أحاديث واردة عن الأستاذ وموثقة، والجمهوريون يعرفونها ويتحدثون عنها كثيرا.. لكن إبراهيم عبدالنبي لا يريد أن يتحدث عن هذه النصوص المهمة من الأستاذ، وإنما ينتقي من نصوص وتاريخ الفكرة ما يخدم غرضه، في إسكاتنا، وما يخدم فكرته المسبقة التي يريد إيصالها للقارئ. نواصل في مقال قادم، بإذن الله قصي همرور 15 أكتوبر 2012