ما تتعرض له النساء فى مناطق النزاعات يفضح ايديولوجية وسياسات التمييز الطبقى والاثنى والنوعى لنظام الانقاذ سعدت بقراءة كتاب ، جبال النوبة : الإثنية السياسية و الحركة الفلاحية 1924-1969 ، للباحث الأكاديمى و الوطنى د. عطا الحسن البطحانى و الذى صدر عن دار عزة للنشر و التوزيع عام 2009. جاء فى مقدمة الكتاب أنه يبحث فى تاريخ العلاقة غير المتكافئة بين إقليم جبال النوبة و العالم الخارجى لهذا الإقليم ، بدءاً من فترة الإستعمار التركى – المصرى ، مروراً بفترة حكم المهدية ثم الإستعمار البريطانى إلى مراحل الحكم الوطنى بعد الإستقلال. و يركز الكتاب على دونية المكانة التى حُشر فيها سكان الإقليم و فُرض عليهم تقسيم العمل و دفع الضرائب و الجزية مما ادى لامتصاص مواردهم و طاقاتهم دون تطوير قدراتهم الإنتاجية أو تحسين أوضاعهم الإجتماعية و المادية. و أمام الفشل فى توفير المقومات المادية للتنمية المتوازنة إقليمياً و إجتماعياً لم يكن امام الطبقة الحاكمة ولمواجهة أزماتها المتتابعة و من أجل تعزيز هيمنتها (المتخثرة) من بديل سوى تعظيم ما تراه مبرراً لحكمها : التمييز الإثنى الثقافى مستندة إلى أرث مؤسسة الرق و الإحتماء بالدين (الشريعة الإسلامية) كتسييج لإمتيازات فى مواجهة الآخر ، المغاير ، و الخوف منه فى ذات الوقت. إنتهى. ما نعيشه اليوم من حرب مستعرة فى منطقة جبال النوبة هى نتاج لتلك السياسات الممتدة ، إلا أن وصول قوى الرأسمالية الإسلامية للسلطة عام 1989 سرّع بتلك النتائج و قفل الطريق أمام الخيارات الأخرى التى من الممكن أن تغير هذا الواقع المؤلم لمصلحة الملايين من فقراء و مزارعى و مثقفى و بنات و أبناء جبال النوبة من خلال دولة المواطنة التى يتساوى فيها الناس و الديمقراطية و التنمية التى تستهدف حياة الإنسان ، و إستلهام تاريخ المنطقة و تراثها و المحافظة على لحمتها الإجتماعية المستندة على التعدد الثقافى و الإثنى العامر. الإنقاذ تصب الزيت على النار لم يشكل التكوين القبلى لمنطقة جبال النوبة مشكلة فى حد ذاته ، فقد شهد التاريخ الإنسجام و تبادل المنافع بين قبائل المنطقة و إبتداع وسائل مختلفة لحل المشكلات التى تنجم من وقت لآخر ، إلا أنه و بصعود رأسمالية الزراعة الآلية للمنطقة و الجفاف إزدادت وتيرة الصراع بين القبائل من أجل الماء و الكلأ. أخطأت حكومة الصادق المهدى إبان الديمقراطية الثالثة بإتجاهها لتسليح بعض القبائل العربية (المرحلين) الموالية لها و ذلك بهدف ترسيخ نفوذ حزب الأمة فى المنطقة. إلا أن حكومة الإنقاذ غيرت مسار المنطقة و حولت هذه الصراعات القبلية فى إتجاه آخر لترسيخ الهوية العربية الإسلامية و دولتها. فبدأت بإستيعاب مجموعات المرحلين المسلحة فى قوات الدفاع الشعبى و ذلك بهدف التصدى لوجود الحركة الشعبية فى مناطق جبال النوبة. و جاء فى وثائق منظمة (أفريكان رايتس) أن إعلان الجهاد فى المنطقة فى مطلع التسعينات تمّ تحت قيادة والى المنطقة الحسينى الشئ الذى أكده خالد الحسينى فى شهادته لاحقاً فى جنيف. إعتمدت هذه الحرب سياسات التمييز الإثنى و ارتكاب شتى انواع الانتهاكات المحظورة حتى ابان الحرب وإستهداف المتعلمين و القيادات الشعبية فى المنطقة ، و إفشال الزراعة و قطع حركة التجارة و السفر مما أعاد المنطقة إلى عهد سياسة المناطق المقفولة و فى ظروف أسوأ. معسكرات السلام و تحطيم النساء تعكس وثائق و إصدارات منظمة (أفريكان رايتس) ما تعرضت له نساء جبال النوبة طوال سنوات الحرب فى التسعينات و ذلك عبر شهادات حية للنساء مما يذهل العقل. هؤلاء النساء عكسن تجاربهن و هول ما تعرضن له أثناء إجتياح المليشيات للقرى و المنازل و ما تبعه من أخذهن بالقوة إلى ما يسمى بمعسكرات السلام التى شيدتها الحكومة آنذاك بحجة إستيعاب العائدين من اللاجئين من جنوب السودان. هؤلاء النسوة كما روين تعرضن لأبشع أنواع التعامل و السُخرة و الإغتصاب. فقد أجبرن على الأعمال الشاقة مثل حمل أثقال المتاع الذى نهبته المليشيات و جلب الماء و حطب الوقود عبر مسافات طويلة تحت الحراسة المشددة. بالإضافة لإجبارهن على خدمة أفراد المليشيات التى قامت بأسرهن من إعداد للطعام و غيره. الاغتصاب كاداة حرب وقهر : ليس غريباً إستخدام الإغتصاب كسلاح فى الحروب كما حدث فى رواندا و الكونغو و البوسنة. و لكن و لأول مرة يشهد تاريخ السودان الحديث إستخدام الإغتصاب كسلاح حرب ، فقد تمت حملات الإغتصاب فى ظل الخوف و الترويع و إستخدام العنف الفظيع و الحرمان من الماء و الطعام كما جاء فى هذه الشهادات. ليس صدفة إستخدام الإغتصاب كسلاح حرب خاصة تلك الحروب التى تهدف إلى التصفية العرقية و الدينية كما حدث للمسلمات فى البوسنة. إن إشهار سلاح الإغتصاب يهدف إلى ترويع المجتمعات و تركيعها وإلى تمزيق النسيج الإجتماعى و تفكيك الأسر بإشاعة أجواء عدم الثقة و الإحساس بالعار و العجز و الهزيمة كما يؤدى إلى عزلة النساء المغتصبات و ربما رفضهن من قبل المجتمع خاصة فى حالات الحمل و الولادة ، بل و يهدف إلى ولادة أطفال و أجيال جديدة بلا هوية أو إنتماء ، أجيال مدمرة. و من جهة أخرى يهدف إستخدام الإغتصاب كسلاح إلى تحفيز المقاتلين فى بعض الحالات. إن النساء اللائى يتعرضن للإغتصاب الفردى و فى ظروف عادية ناهيك عن الإغتصاب تحت نيران الحرب و الدمار ، يفضى إلى تدميرهن نفسياً و إجتماعياً و مادياً ما لم يجدن ما يستحقنه من المساعدة و المساندة و فى مقدمتها العدالة و ذلك بإنزال العقاب بمرتكبى هذه الجرائم البشعة. و لا تنتهى آثار الإغتصاب بإنتهاء الحروب و إنزال العقوبات بل تمتد لأجيال كما جاء فى البحوث حول الآثار الممتدة للإغتصاب وسط المسلمات فى البوسنة جبال النوبة ...ماذا يحدث الان ؟ لم تنته مأساة جبال النوبة عند ذلك الحد بل تشهد المنطقة حالياً تصاعد وتائر الحرب المدمرة بعد هدنة لم تستمر طويلاً. و نشهد اليوم واحدة من أبشع الحروب تلك التى تدور بين حكومة الإنقاذ و الحركة الشعبية شمال و ذلك بعد وصول الوالى أحمد هارون لقيادة السلطة. إلا ان التعتيم الذى يحيط بالمنطقة يجعل من الكارثة كارثتين. الأخبار و المعلومات المتواترة عن المنطقة تثير القلق خاصة حول أوضاع النساء ، و اللائى لجأن للكهوف لحماية أنفسهن و أطفالهن. حيث يعز الماء و الطعام و الملبس و العلاج. بل تداولت منظمات حقوق الإنسان و أجهزة الإعلام العالمية المعلومات عن إعتقال أكثر من 65 إمرأة أغلبهن من كادوقلى و الدلنجبجنوب كردفان. بدأت تلك الإعتقالات فى شهر نوفمبر بإستدعاء العديد من النساء و التحقيق معهن حول علاقتهن بالحركة الشعبية / شمال و إتهامهن بالتخابر معها. و إنتهت تلك التحقيقات بإلقاء القبض عليهن بدون أي إجراءات قانونية. . و بدلاً من الإستجابة للمطالب المشروعة للمعتقلات تم ترحيلهن إلى سجن الأبيض (شمال كردفان) و ذلك إمعاناً فى عقابهن و إبعادهن عن أسرهن فى خرق واضح لكل الأعراف السودانية و القوانين الوطنية و الدولية و جاء فى الأنباء أن قائمة المعتقلات تضم موظفات و معلمات و ربات بيوت. بل و أعلنت منظمات حقوق الإنسان و عبر الأسافير عن ترحيل السيدة خديجة محمد بدر من سجن الأبيض للخرطوم و ذلك للعلاج بعد أن تدهورت حالتها الصحية من جراء التعذيب الذى تعرضت له و إصابتها بكسور فى الصدر. أمام هذه المعومات المقلقة فإن سلطة الخرطوم مطالبة بكشف الحقائق عن الأوضاع فى مناطق الحروب و خاصة جبال النوبة بما فيها أوضاع النساء و الإفراج الفورى عن كل المعتقلات. ما تتعرض له النساء فى جبال النوبة و مناطق الحروب الأخرى فى دارفور و جنوب النيل الأزرق يفضح أيديولوجية و سياسات التمييز الطبقى و الإثنى و النوعى ، فيا نساء السودان إتحدن.