هدى عربي وعلي الشيخ    بعد أن تصدرت "الترند" وأنهالت عليها الإشادات.. تعرف على الأسباب التي دفعت الفنانة فهيمة عبد الله لتقديم التهنئة والمباركة لزوجها بعد خطوبته ورغبته في الزواج مرة أخرى    شاهد بالفيديو.. بعد أن قدمت له الدعوة لحضور حفلها الجماهيري.. الفنانة هدى عربي تتفاعل مع أغنيات الفنان علي الشيخ بالرقص أعلى المسرح    بعد أن تصدرت "الترند" وأنهالت عليها الإشادات.. تعرف على الأسباب التي دفعت الفنانة فهيمة عبد الله لتقديم التهنئة والمباركة لزوجها بعد خطوبته ورغبته في الزواج مرة أخرى    شاهد بالفيديو.. بعد أن قدمت له الدعوة لحضور حفلها الجماهيري.. الفنانة هدى عربي تتفاعل مع أغنيات الفنان علي الشيخ بالرقص أعلى المسرح    "نسرين" عجاج تهاجم شقيقتها الفنانة "نانسي": (الوالد تبرأ منك عام 2000 وأنتي بالتحديد بنت الكيزان وكانوا بفتحوا ليك التلفزيون تغني فيه من غير "طرحة" دوناً عن غيرك وتتذكري حفلة راس السنة 2018 في بورتسودان؟)    بدون أهداف .. تعادل مخيب لمانشستر سيتي مع متذيل البريميرليج    مناوي: نؤكد عزمنا على إجتثاث جذور هذه المليشيا الإرهابية    طاقم تحكيم سوداني يدير نهائي أبطال أفريقيا بين صن داونز الجنوب أفريقي وبيراميدز المصري    المريخ يستأنف تدريباته صباح الغد    الرياضيون يبدأون إعمار نادي المريخ بنقل الأنقاض والنفايات وإزالة الحشائش    الطاقة تبلِّغ جوبا بإغلاق وشيك لخط أنابيب النفط لهجمات الدعم السريع    ترامب: الهند وباكستان وافقتا على وقف النار بعد وساطة أميركية    الاعيسر .. ما جرى في سجن مدينة الأبيض جريمة حرب مكتملة الأركان تضاف إلى سجل الميليشيا وداعميها    محمد وداعة يكتب: التشويش الالكترونى .. فرضية العدوان البحرى    محمد صلاح يواصل صناعة التاريخ بجائزة جديدة مع ليفربول    أخطاء مخجلة رغم الفوز برباعية    ((نواذيبو الموقعة الأكثر شراسة))    على خلفية التصريحات المثيرة لإبنته الفنانة نانسي.. أسرة الراحل بدر الدين عجاج تصدر بيان عاجل وقوي: (مابيهمنا ميولك السياسي والوالد ضفره بيك وبالعقالات المعاك ونطالب بحق والدنا من كل من تطاول عليه)    في عملية نوعية للجيش السوداني.. مقتل 76 ضابطاً من مليشيا الدعم السريع داخل فندق بمدينة نيالا وحملة اعتقالات واسعة طالت أفراداً بالمليشيا بتهمة الخيانة والتخابر    شاهد بالفيديو.. من عجائب "الدعامة".. قاموا باستجلاب سلم طائرة ووضعوه بأحد الشوارع بحي الأزهري بالخرطوم    بمشاركة زعماء العالم… عرض عسكري مهيب بمناسبة الذكرى ال80 للنصر على النازية    أصلا نانسي ما فنانة بقدر ماهي مجرد موديل ضل طريقه لمسارح الغناء    عادل الباز يكتب: النفط والكهرباء.. مقابل الاستسلام (1)    خدعة واتساب الجديدة لسرقة أموال المستخدمين    عبر تطبيق البلاغ الالكتروني مباحث شرطة ولاية الخرطوم تسترد سيارتين مدون بشانهما بلاغات وتوقيف 5 متهمين    اختتام أعمال الدورة ال 26 لمؤتمر مجلس مجمع الفقه الإسلامي الدولي في الدوحة    شاهد بالفيديو.. بعد غياب دام أكثر من عامين.. الميناء البري بالخرطوم يستقبل عدد من الرحلات السفرية و"البصات" تتوالى    بيان توضيحي من مجلس إدارة بنك الخرطوم    الهند تقصف باكستان بالصواريخ وإسلام آباد تتعهد بالرد    وزير الطاقة: استهداف مستودعات بورتسودان عمل إرهابي    ما هي محظورات الحج للنساء؟    توجيه عاجل من وزير الطاقة السوداني بشأن الكهرباء    وقف الرحلات بمطار بن غوريون في اسرائيل بعد فشل اعتراض صاروخ أطلق من اليمن    إسحق أحمد فضل الله يكتب: (ألف ليلة و....)    حين يُجيد العازف التطبيل... ينكسر اللحن    أبوعركي البخيت الفَنان الذي يَحتفظ بشبابه في (حنجرته)    تتسلل إلى الكبد.. "الملاريا الحبشية" ترعب السودانيين    هيئة مياه الخرطوم تعلن عن خطوة مهمة    تجدد شكاوى المواطنين من سحب مبالغ مالية من تطبيق (بنكك)    ما حكم الدعاء بعد القراءة وقبل الركوع في الصلاة؟    عركي وفرفور وطه سليمان.. فنانون سودانيون أمام محكمة السوشيال ميديا    قُلْ: ليتني شمعةٌ في الظلامْ؟!    الكشف عن بشريات بشأن التيار الكهربائي للولاية للشمالية    دراسة: البروتين النباتي سر الحياة الطويلة    التحقيقات تكشف تفاصيل صادمة في قضية الإعلامية سارة خليفة    الجيش يشن غارات جوية على «بارا» وسقوط عشرات الضحايا    حملة لمكافحة الجريمة وإزالة الظواهر السالبة في مدينة بورتسودان    ارتفاع التضخم في السودان    شندي تحتاج لعمل كبير… بطلوا ثرثرة فوق النيل!!!!!    انتشار مرض "الغدة الدرقية" في دارفور يثير المخاوف    مستشفى الكدرو بالخرطوم بحري يستعد لاستقبال المرضى قريبًا    "مثلث الموت".. عادة يومية بريئة قد تنتهي بك في المستشفى    وفاة اللاعب أرون بوبيندزا في حادثة مأساوية    5 وفيات و19 مصابا في حريق "برج النهدة" بالشارقة    عضو وفد الحكومة السودانية يكشف ل "المحقق" ما دار في الكواليس: بيان محكمة العدل الدولية لم يصدر    حسين خوجلي يكتب: نتنياهو وترامب يفعلان هذا اتعرفون لماذا؟    من حكمته تعالي أن جعل اختلاف ألسنتهم وألوانهم آيةً من آياته الباهرة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



دفاتر الديمقراطية البرلمانية الثالثة (16 و17)


مصطفى عبد العزيز البطل
[email protected]
عانت البلاد إبان الفترة الانتقالية التي اعقبت سقوط النظام المايوي، ثم في غضون الديمقراطية الثالثة أمرّ المعاناة من الحرب التي شنتها الحركة الشعبية لتحرير السودان. وكانت الحركة قد ركبت مراكب الغرور والصلف، وصعّرت خدها أمام مساعي كل قوى الانتفاضة، وواصلت حربها، بل أنها قامت بتصعيد عملياتها العسكرية، دون هوادة بزعم ان النظام الانتقالي انما هو امتداد لسلطة مايو، وأن الحركة تهدف الي تحرير الشعب كلياً وبناء سودان جديد.
وقد أرهقت الخزانة العامة من جراء تلك الحرب ارهاقاً جاوز المدى، إذ بلغت تكلفة تمويلها مليوني دولار يومياً، بعد احتساب الأرواح المهدرة عند الله. ولم تكن الحركة تقصر حربها على المقاتلين، بل أنها تمادت فقتلت وبدم بارد أعداداً غفيرة من السودانيين الأبرياء العزل، الذين زعمت انها تناضل من أجل تحريرهم. وقد بلغ بها الجموح والشطط حد اطلاق الصواريخ على الطائرات المدنية، كما فعلت في سبتمبر 1986 عندما اطلقت صاروخ سام 7 على طائرة فوكرز 27 تابعة للخطوط الجوية السودانية فوق سماء ملكال، فقتلت خمساً وستين راكباً مدنياً، بالاضافة الى طاقم الطائرة من قبطان ومساعدين ومضيفات. ثم تفاخرت بذلك الاعتداء، فأصدرت بياناً أعلنت فيه مسئوليتها عن ذلك الفعل الآثم الخسيس، وكأنها فتحت عكا.
بل ان الغرور والعزة بالنفس بلغت بها حد أن رفضت ان تجلس للحوار مع رئيس الوزراء المنتخب، لأنها لا تعترف به حسب زعمها، وان وافقت على مضض في وقت لاحق على ان تتحاور معه بصفته الحزبية لا الدستورية. ولكن المتغيرات الدولية والاقليمية بعد تضعضع الاتحاد السوفيتي، ومؤشرات تهالك وانهيار نظام مانغستو هايلي مريام في اثيوبيا تحت سنابك خيل جبهات التحرير الزاحفة فرضت على الحركة أن تراجع مواقفها، ومعلوم ان نظام مانقستو كان يمثل شريان حياتها. وقد تطرقنا سالفاً الى المناورات السياسية للحركة بتوقيعها اتفاقية الميرغني/ قرنق بهدف اضعاف الجبهة الداخلية وتفكيك حكومة الوفاق الوطني. غير أننا سنقصر حديثنا هنا على خلفيات ووقائع وتداعيات اللقاء الوحيد الذي تم بين رئيس الوزراء السيد الصادق المهدي والعقيد جون قرنق والذي احتضنته أديس أبابا في يوليو 1986.
يدفعني الى ذلك في المكان الاول ما حوته سلسلة المقالات التي نشرها مؤخراً المؤرخ الدكتور عبد الماجد على بوب، بعنوان (حديث مع الدكتور جون قرنق)، وتحديداً الحلقة الثانية المنشورة بصحيفة (الخرطوم) بتاريخ 25/6/2013 . وفي ذلك المقال قدم الدكتور بوب سرداً تفصيلياً لوقائع اللقاء الذي تم بينه – هو شخصياً - وبين العقيد جون قرنق في اديس أبابا بتاريخ الثامن من يونيو 1988 (راجع النصوص الكاملة في كتابه "جدل الوحدة والانفصال"، مطبعة جامعة الخرطوم، 2009).
كتب المؤرخ الدكتور عبد الماجد بوب وهو يسجل وقائع لقاءه بالعقيد قرنق: "لم أشأ أن افوت الفرصة لسؤال الدكتور جون عن علاقته مع رئيس الوزراء آنذاك، السيد الصادق المهدى، فأجاب بأنه سعى لمد الجسور مع كل الأحزاب الرئيسية في الشمال وخاصة حزب الأمة، ولكن الصادق المهدى بوصفه رئيساً للحزب لم يكن متجاوباً مع مساعينا". واستطرد الدكتور بوب فنقل على لسان جون قرنق الكلمات التالية: "وقد زارنا السيد الصادق في أديس أبابا وعقدنا اجتماعاً استمر لما يزيد عن تسع ساعات. تحدث الصادق المهدى جل هذا الوقت، وكنت أصغى اليه بدون كلل. ولكن عندما شرعت في شرح موقف الحركة والجيش الشعبي من القضايا الكبيرة آنذاك لاحظت أن السأم والضجر قد تسربا اليه، وحينها شعرت بأن ذلك اللقاء لا جدوى منه، فالصادق المهدى متحدث جيد ولكنه لا يحسن الاصغاء للطرف الاخر". انتهى النص.
وقد أحسست بفيض غامر من الدهشة الممزوجة بالأسى وأنا أقرأ تلك العبارات المجانية البلقاء والمزاعم العريضة الغلفاء ترد هكذا بغير عقال، من فم رجل ما يزال بعض (المتتوركين) من أبناء شمال السودان يعلقون تصاويره على جدران منازلهم. ولا تثريب علي أهل اسطمبول هؤلاء، فلولا أنني أعرف الدكتور عبد الماجد بوب معرفة وثقى، وأعرف مقدار ورعه وتبتله في محاريب البحث العلمي، وأخذه لنفسه بمعايير صارمة في رصد الوقائع وتوثيقها، لما صدقت أن قرنق ينبس بمثل ذلك القول المنكر، وكأن اجتماعه برئيس الوزراء تم في غار مظلم ومغلق، ولم يكن لقاءً شبه مفتوح في قاعة ضمت اثني عشر رجلاً لهم آذان تسمع وعقول تحفظ، حضروا اللقاء كله من أوله الى آخره. جميعهم أحياء، باستثناء الذين قتلهم هو بنفسه، والذين ماتوا حتف انوفهم بعد ان نبذوه وهاجروا بدينهم الى أحضان نظام الانقاذ.
عدت بذاكرتي الى ذلك اليوم المرهق الطويل، ولعله أطول أيام حياتي كلها. فقد كنت هناك، من ضمن حضور لقاء الساعات التسع في حاضرة الحبشان. والحق أنها كانت تسع ساعات ونصف الساعة بتمامٍ وكمال. ولعل هذه سانحة حسنة، أحدثك خلالها – أعزك الله – عن ذلك اللقاء، الذي تميز فيه وجودي بين حضوره، اذ ان غيري كان شاهداً وسامعاً، او متكلماً بطبيعة الحال. بينما كنت أنا شاهداً وسامعاً ومدوناً. فقد كتبت يومها بلغة يعرب وبلغة الفرنجة ما حسبته استنزف برميلاً من الأحبار، وغطى بياض ربع طن من الورق الصقيل، وأصاب يدي اليمني بالكلل والاعياء، فجربت الكتابة باليد اليسرى لاول مرة في حياتي. ولك ان تتخيل، أعزك الله، تسع ساعات ونصف من الكتابة، بغير توقف!
موعدنا بعد غد الخميس بمشيئة الله، فنحاورك عن تفصيلات ذلك اللقاء ومجرياته، ثم نعرض الى كلمات قرنق المتحيفة تلك، التي سجلها بنصها وفصها الدكتور عبد الماجد بوب، ثم فض مغاليقها في مقاله وكتابه الذين تقدمت الاشارة اليهما، فنفندها تفنيدا (وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قَالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلَا أَنْ تُفَنِّدُون).
** الحلقة السابعة عشر ***
قلت في الحلقة السابقة أنني أزمع التعرض بشئ من التفصيل لوقائع اللقاء الذي تم بين السيد الصادق المهدي والعقيد جون قرنق في يوليو 1986، وذلك في معرض الرد على ادعاءات الراحل العقيد قرنق، التي أشار اليها اجمالاً في كتابه (جدل الوحدة والانفصال) المؤرخ الدكتور عبد الماجد على بوب، والذي كان قد التقي قرنق في الثامن من يونيو 1988. وقد أورد بوب نصوص افادات قرنق ضمن سلسلة مقالات نشرتها (الخرطوم) مؤخراً. وقبل أن أرد هذا المورد فأسجل روايتي عن ذلك اللقاء، أجد لزاماً على ان انبئك – أعزك لله – بأن الفقرات القادمة مصاغة بلغة تختلف تماماً عن ما عهدته من لغتي المباشرة خلال هذه السلسلة التي تبلغ اليوم حلقتها السابعة عشر. بل وربما لا يناسب اسلوبها مقام السلسلة وطبيعتها. لا سيما وأنها مكتوبة في زمن قديم ومحفوظة ضمن ملفات كان من المفترض ان تنشر في سياق آخر مختلف تماماً، فوق صفحات صحيفة (الاحداث) قبل تعاجلها يد المنون. وكنت أكتب نصف فدان اسبوعياً في تلك الصحيفة فأتوسع وأتبحبح. واصدقك القول بأنني لا أجد في نفسي طاقة كافية لإعادة الصياغة باتجاه الايجاز، بحيث توافي مقتضى الحال. فتقبل ما عندنا على علاته، وتحمل بلاء السرد المتطاول، واصبر وما صبرك الا بالله، وهو المستعان على ما تصفون:
(1)
اصطفت سيارات المرسيدس السوداء اللامعة وحولها الحرس الاثيوبي ورجال المخابرات أمام الفيللا الرئاسية. بعد لحظات سيخرج رئيس وزراء السودان ومرافقوه فيستقلون هذه السيارات الى حيث يكون اللقاء بالعقيد جون قرنق واركان حركته. كان الجو متوتراً بعض الشئ في الصالون الارضي للفيللا، بعد خلاف طارئ، طرأ ثم طار، بحمد الله، في حال سبيله، فعاد الصفاء. الخلاف بين الدكتور مأمون محمد حسين ممثل الأطباء في التجمع الوطني (التنظيم السياسي لحكومة الانتفاضة الانتقالية)، والدكتور تيسير محمد احمد ممثل اساتذة جامعة الخرطوم، حول جانب فرعي من ترتيبات اللقاء، الذي تولي التجمع – وتحديداً الدكتور تيسير محمد أحمد - أمر تنظيمه. قلت للدكتور مأمون – على حده - أنني اتعاطف مع موقفه ورؤيته وعليه ان يطمئن، فاطمأن. ثم قلت للدكتور تيسير منفردا: لا تقلق فأنا لن أنفذ طلب الدكتور مأمون في كل الاحوال. فارتاح ووضع في بطنه "بطيخة صيفي"، كما يقول أحبابنا في شمال الوادي. موضوع الخلاف لا يهم!
(2)
خرجت لأقف أمام الفيللا فأستنشق بعض هواء الصباح البارد العليل قبل ان نبدأ الرحلة. فوجئت بشاب سوداني لا اعرفه ولا اعرف كيف جاء الى ذلك المكان يقف أمامي مثل الجن. الدخول الى الفيلل الرئاسية يتطلب تصاريح ومراجعات أمنية غاية في التعقيد، حتي ان سفير السودان لدى اديس إبابا أعيد على اعقابه مرتين ومنع من الدخول، فكيف دخل ذلك الشاب؟ خاطبني الشاب بلغة مرتبة منتظمة، وكأنه يقرأ من نص مكتوب، قال أنه لاحظ ان بعثتنا الاعلامية تضم مصورين من التلفزيون ولكنها لا تضم مصوراً فوتوغرافياً. ثم ردمني بوابل من الكلمات السريعة، صدرت من فمه وكأنها تصدر من مدفع رشاش، حول اهمية التسجيل الفوتوغرافي لمثل الاحداث التاريخية التي نحن بصددها. ثم طلب مني ان اسمح له بمرافقتنا الى مقر اللقاء مع العقيد قرنق للقيام بمهمة التصوير الفوتوغرافي تطوعاً على ان يقوم في نهاية اللقاء بتسليمنا شريط الصور. قلت في عقل بالي: "الزول ده مجنون ولا شنو. ما الذي أتى به، وكيف عرف بأننا ذاهبون للقاء قرنق"؟ أخذت انظر حولي بحثاً عن العقيد محمد حامد او المقدم محمد عطا، المسئولان عن تأمين الرئيس والوفد، وفي نيتي ان اطلب اليهما التعامل مع هذا الشاب وتخليصي من رذالته. ولكن .. وفجأة، وبسرعة واندفاع شديد في المشي معتاد عنه، خرج رئيس الوزراء متوجهاً الى السيارة المخصصة له. وفي غمرة الحركة والاندفاع الذي يرافق خروج الرئيس عادةً، والحرص على ان يستقل كل واحد من الجانب السوداني السيارة الصحيحة، ثم أصوات الزمامير ومحركات السيارات وهرولة الحرس ورجال الامن، نسيت أمر ذلك الشاب. وهكذا اندفع الاسطول الرئاسي وقد فتحت امامه شوارع أديس أبابا بسرعة خيالية الغرض من ورائها دائماً تأمين الشخصيات الهامة. سأعود الى ذلك الشاب الكارثة، فإذا لم افعل ذكرني يا هداك الله. هذا الشاب (حدوتة) لوحده!
(3)
تولي جهاز المخابرات الاثيوبية الترتيبات اللوجستية لذلك اللقاء. تابعت سياراتنا سيارة البصاصين الحبوش الى ضاحية بعيدة خارج مدينة أديس أبابا. ما أعجب أمر هؤلاء الجلاوزة. ألم يجدوا في كل أديس مكاناً أقرب من ذلك المكان الذي كان علينا ان نسافر هذا السفر الطويل لنصل اليه؟ صدمت وأنا اتطلع الى المبني الذي بلغناه بعد سفر وانبأونا أنه سيحتضن اللقاء. مبنى قمئ حقاً. تنظر اليه فتصاب بالكآبة. المنشآت في حاجة ماسة الى طلاء. وباحة المكان التي يفترض ان تشتمل على أرضية نجيلية خضراء، انتهت بفعل الاهمال الى كومات من العشب الاخضر والاصفر القبيح المنظر. ويبدو ان أحداً لم يكن يجمع القمامة في ذلك المكان، فقد كانت هناك أرتال من الصناديق الفارغة والأوراق المقواه ملقاه على الأرض. داهمني احساس بالتشاؤم، وقلت لنفسي: أول القصيدة كفر.
وقد جاء الأداء البروتوكولي ضعيفاً مهيضاً، اذ وصل رئيس الوزراء السوداني، ولم يكن هناك من يستقبله، كما لم يكن العقيد جونق قرنق ولا غيره هناك. توزعنا في غرفتين. غرفة جلس فيها رئيس الوزراء ونحن. وغرفة اخري جلس فيها مصورا التلفزيون المرافقان ورجال المخابرات الاثيوبيين. بعد حوالى عشرة دقائق، وربما ربع الساعة، من الانتظار مع الرئيس في الغرفة الاولى، سمعنا جلبة وضوضاء في الخارج، ثم فتح الباب فجأة فرأينا العقيد جون قرنق دي ما بيور، وهو يرتدي بدلة اوربية كاملة. تقدم الرجل فصافح رئيس الوزراء، ثم صافحنا. وتكرم مرافقوه (مشكورين) فسلموا علينا واحداً واحداً. ثم جلس الجميع، كما تجلس أي مجموعة تلتقي في محفل اجتماعي. بلا ترتيب ولا (نظام تجليس) كما تجري العبارة في المصطلح المراسمي. الوضع كله كان رديئاً. أن يتم احضار رئيس وزراء منتخب الى مكان معزول ويطلب منه الجلوس هكذا، بانتظار شخص متمرد على حكومته الشرعية، سلوك يفتقر الى المسئولية والسمو الاخلاقي. الفرنجة يقولون في وصف مثل هذا السلوك Lacks class . ولا يجوز ان تتورط فيه حكومة تحترم نفسها وتعرف الاصول والتقاليد. ولكن من قال ان مانقستو هيلي مريام محترم أو ان بصاصيه وجلاوزته يعرفون الاصول والتقاليد؟
(4)
ولكنني لم اكن مستغرباً لكل ذلك العبث. كنت قد لاحظت في مطار أديس أبابا، ان دكتاتور اثيوبيا - حليف جون قرنق وداعمه الاول، والذي كان قد اقسم ان يمزق السودان إرباً اربا، جزاء احتضانه منسوبي المنظمات الاريترية والاثيوبية - لم يهش لاستقبال السيد الصادق المهدي عندما هبط مطار أديس. فتح المهدي ذراعيه وهو ينزل من سلم الطائرة متجهاً صوب الرئيس الاثيوبي، يريد ان يبادره بسلام حميم ومشاعر طيبة. ولكن الطاغية حرص على الاحتفاظ بمسافة مكانية بعيدة، ومد يده أمامه يريد أن يكتفي بمصافحة اليد، وتعابير وجهه شديدة الجفاف والجفاء، بحيث يرسل الاشارة بوضوح لا يقبل اللبس، بأنه لا يريد مشاعراً طيبة ولا عناقاً!
لا تريد ان تعانق رئيس وزراء السودان؟ حسناً. أنت وشأنك. ولكن أنظر ماذا حصدت أيها الأهطل؟ ذهب المهدي، وجاءتك العصبة المنقذة من حيث لم تحتسب، فأرسلت بصاصيها وجلاوزتها غلاظ الأكباد يضعون أياديهم في يد الجبهات المتمردة علي سلطتك، ويدعموها بالأموال والعتاد، فشددوا عليك النكير، وهجموا عليك هجمةً بددت سلطانك وأهدرت عرشك. ثم دخلوا أديس أبابا فاتحين، وفي معيتهم الفاتح عروة وصحبه. وهربت أنت كالجرذ المذعور تطلب بطن الأرض من بعد ظهرها. وانتهي بك الحال منزوياً في مزرعة مهجورة في بلد شبيهك روبرت موقابي، اثنان وعشرون عاما، حتي أصابك الجرب. روح جاتك نيلة! --- (نواصل).


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.