أبو البشر أبكر حسب النبي من أكثر الأحوال التي يجد فيها المرء ذاته يتقلب في أذى ، هي تلك التي تنقلب فيها حالته السيكولوجية من النقيض إلى النقيض في مدى زمني قصير .. فقد خضت تجربة من هذا القبيل خلال الأسبوعين الماضيين ،حيث كنت في حالة من الغبطة والسرور من اللفتة البارعة و الرائعة التي أقدمت عليها السلطات السعودية بإعادة طائرة الرئيس السوداني من حيث أتت وكانت الرسالة " افتح عينك يا رئيس السودان وأعد حساباتك لأنك الآن تركب الفُلك الغارق وتدور في الفَلَك الخاطئ ولن ندعك تذهب بالسودان وشعبه إلى الجحيم نتيجة لقصر نظرك وسوء تقديرك " ! وهي رسالة ذكية وقوية وفي موضعها تماما .. ولكن يا فرحة لم تتم !! فقد تبخر ذلك الحبور كله وخيم عليّ الحزن بل وأصبت بما يشبه الصدمة حال استماعي إلى البيان الذي قُرِأَ من التلفزيون السعودي وقيل أنه باسم خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز (90 عاماً ) إزاء الأحداث في مصر. في الحقيقة صيغة البيان تبدو كأن من قام بتحريره هو أحد العاملين في قناة (العربية ) وليس كبار المستشارين الذين يعج بهم ( الديوان الملكي ) حيث لا يمكن صدور أي بيان إلا بعد دراسة متأنية لتبعاته واحتساب أرباح والخسائر من جدوى إصداره ( مثال على ذلك بيان غزو العراقي للكويت عام 1990 الذي تأخر لمدة 24 ساعة ) .. لأنه حتى من وجهة نظر الإنسانية المحضة لا يمكن إصدار بيان بهذا الشكل في يوم قتل فيه أكثر من ألف شخص لتعضد به القاتل وتدعمه وتشنع بالقتيل وتصمه بالإرهاب . لم يُحدِث البيان التباسا وإرباكا للموقف السعودي فقط بل وهبط برصيد مصداقيتها إلى الحضيض .. فقد خذل البيان أصدقاء المملكة وكل من يحدب عليها ("خلاهم قدر السمسمة " كما نقول بالسوداني )! ووفر الذريعة للأعداء والعملاء بأن يشمتوا ويقولوا كيف للسعودية أن تحتج على قتل الشعب السوري وترحب بقتل الشعب المصري ؟!. كنت قد عدّدت في مقال سابق العوائق التي تقيد السعودية بأن تصبح دولة عملاقة ذات نفوذ مثل إيران وتركيا واسمحوا لي بأن أعيد إحدى فقراته بالكامل : "من معوقات عملقة السعودية غياب منبر موازي أو رسمي للتيار السعودي الوسطي العام - باستثناء الفضاء (الاسفيري ) بالطبع - حيث احتُلت الساحة الموازية من قبل ذوي " النزعة العلمانية " ، بينما خصص الميدان الرسمي ("للأيديولوجيا الوهابية ")فقط .. وأقصد بالساحة الموازية المنابر الإعلامية المحسوبة على السعودية بشكل أو بآخر مثل قناة (العربية ) وجريدة ا(لشرق الأوسط) ( خضراء الدمن )! – كما أسماها الشاعر السعودي عبد الرحمن العشماوي مرة - ومجلة ( المجلة ) وصحيفة ( الحياة) ومجموعة قنوات (أم بي سي ) وتلك السيئة الصيت "روتانا " هذه الأجهزة تسبح ضد التيار العام السعودي وسياساتها التحريرية تناقض تماما مع مرئيات هذا التيار .. فمنذ أن قال الأمير الراحل نايف بن عبد العزيز ب"إن الأخوان المسلمين هم الذي خرَّبوا الشباب السعودي " ! ركبت هذه المؤسسات الإعلامية الموجة وهي مملوكة لأفراد بعضهم أعضاء في العائلة الحاكمة (أمراء من الجيلين الثاني والثالث ) وبعض كبار الصحفيين المعاديين جدا لل(إسلام السياسي ) من أمثال (عبد الرحمن الراشد ) وصديقه ( عثمان العمير) و(جمال خاشقجي ) و(حسين شبكشي) وغيرهم ..فعدم المصداقية في الاتجاه التحريري لهذه الأجهزة الإعلامية تمثلها قناة ( العربية ) بصدق ! .. فقد لعبت هذه القناة أخبث الأدوار في موضوع العراق مثلا ، حيث ساهمت ودعمت - باتجاهها التحريري الخبيث - مشروع الاحتلال وظلت مساندة لسياسات الحكومات الشيعية المتعاقبة والقائمة على اضطهاد وإذلال الطائفة السنية في العراق ومحاولة اجتثاثها بزعم اجتثاث البعث ( في الحقيقة ليس لدي أي تفسير لهذا النهج الغريب من هذه القناة هل كانت تحاول السير في "الاتجاه المعاكس " لمنافستها "الجزيرة " مثلا ؟.. ربما !).. حتى هذه اللحظة لم تتب و لم تثب هذه القناة عن سياساتها التحريرية الرعناء باستثناء الحالة السورية – دون غيرها من بلدان الربيع العربي - ويقيني أن تغيير (العربية ) لسياستها التحريرية تجاه سورية جاء نتيجة لخشيتها من زحف الجماهير من السعودية إلى دبي لتحطيم مقراتها وحرق استوديوهاتها إن هي سدرت في غيها وسارت مع القضية السورية بذات نهجها مع الحالة العراقية" أه. اعذروني على نقل هذه الفقرة الطويلة من مقال سابق(مع بعض التصرف) و ما ذلك إلا لعجزي عن الإتيان بتفسير آخر للموقف السعودي الحالي حيال الأحداث في مصر غير هذا . فعليه من الواضح أن بعض (الأمراء العلمانيين ) - على غرار (الأمراء اليساريين) وهو النعت الذي لزم طائفة من أفراد العائلة الحاكمة بقيادة الأمير طلال بن عبد العزيز خلال الستينات من القرن الماضي - يستغلون تقدم الملك وولي العهد في السن ويعبثون بالموقف الأساسي و الحقيقي للشعب السعودي بإصدار مثل هذه البيانات الخطيرة والفطيرة باسم الملك . والملك ، متعه الله بصحة والعافية ، منها براء ، قد لا يعلم حتى ماذا يجرى في مصر . قبل صدور هذا البيان (المزعوم ) بأسبوع فقط كان الدكتور صدقة فاضل وهو عضو في مجلس الشورى السعودي وأستاذ العلوم السياسية بجامعة الملك عبد العزيز بجدة يعبر بصدق عن رأي التيار السعودي العام حيث كان رأيه و مقترحاته لحل الأزمة المصرية تقترب من الخطة التي قدمها المفكرون المصريون (سليم العوا وطارق البشري و محمد عمارة وفهمي هويدي ) .. أخلص إلى القول بأن ( الأمراء العلمانيين) يركبون قاربا يسير غير بعيد من سفينة الرئيس السوداني الذي نبهوه بأنها (المهددة بالغرق ) في( لفتتهم البارعة) سالفة الذكر ؛ لأنهم بمثل هذه البيانات التي تسير ( عكس الهواء) يحدثون هوة لا قرارها لها بينهم وبين الشعب السعودي ..حتى إذا ما حل دورهم في اعتلاء العرش وحمل لقب ( خادم الحرمين الشريفين) وجدوا جدارا سميكا قد ضرب بينهم وبين الرعية.. حينها لا ينفع لعن جوقة قناة ( العربية) التي أضلتهم السبيل .