تهتز الأرض ومعها تهتز قلوبنا طربا وفرحا حين يمر القطار يشق جحافل الغبار الكثيف، بعض حسد يسرى إلى القلب يعقبه سؤال متحسر، متى نركب القطار ومتى سنتجه إلى الخرطوم ومتى نزور مدنا سمعنا بها كثيرا حتى غدت في أذهاننا وكأنها مدن أسطورية من مدائن ألف ليلة وليلة، أين يا ترى سنجة؟ وما هي الدمازين؟ وينساب القطار أمامنا كأنه أفعى، حتى إذا ما أنهزم النظر وفر القطار من قبضته وتلاشى وغدا نقطة سوداء صغيرة تزهد في رؤيتها العين عادت أبصارنا تتأمل الأرض المخضرة، وقطعان الأغنام اللاهية والأزهار الصفراء والزرقاء وهي تتمايل في دلال مع النسيم العابث، فقد حل بشرفولة الخريف فأهلا به وسهلا واختال ضاحكا مرتديا حلة الربيع الطلق فكاد من الحسن أن يتكلما. كانت الخضرة المترامية مد البصر تعانق في أطرافها السماء الملبدة بالغيوم وشجيرات السنط تتراقص وقد أحست بنشوة الحياة وارتوت من فيض السحاب ففتحت أحضانها للقماري في حفل زفاف جماعي، وكل قمرية وزوجها انشغلا ببناء عشهما السعيد بين أغصانها مقدمة لهما ضيافة لا تقل عن ضيافة فندق من ذي النجوم الخمسة، أسراب حشرة القيل المسالمة تطير هنا وهناك، ونتبارى في اصطيادها فهي عازف ممتاز متى ما وضعت فوق سطح صفيح ثم وضع عليها علبة صلصة، إذ تتحرك محاولة التملص وترف بأجنحتها مصدرة صوتا موسيقيا، وكلما كان السطح الصفيحي غير مستو تنوعت الألحان، ويحرص كل منا على قيله وعلى صفيحه وكأن ذاك الصفيح قد جمع روائع حقيبة الفن في داخله، وكأنما عزف القيل لا يقل في روعته عن عزف وهبه ومرزيكته التي استأثر بها على قلوب حسان القلعة وجواهرها النفيسة وتحكر فيها. والويل لمن يتسبب في طيران قيل وانعتاقه من الأسر، إذن سيذوق من التبريح ألوانا كما ذاقه المحجوب وهو يذرف الدمع على فردوسه المفقود الأندلس. نتساءل دوما ، إلى أين ينتهي هذا الفضاء مترامي الأطراف ومن هم سكانه وكيف الوصول إليهم؟ وتنتهي إجابة أكثرنا علما بالقول خلف هذه السهل ترقد قريتا الشعلية وأم عجاجة، لكن متعالم منا لا تعجبه هذه الإجابة يتصدى له بالقول: بل هناك البسلي وقنقاري وبلو مشرع، وكلما كان الاسم غريب الوقع زاد عجبنا واحترامنا لعلمه الغزير وفهمه الطيب لجغرافية المكان وتضاريسه، ثم نكتشف بعد فترة أنه مجرد متلقف لأقوال يسمعها من الكبار فينثرها نثرا وقبل ذلك (ينجرها) نجرا ، وشر الأخبار ما نجر و نثر. وصحة الأمر أن هذه القرى تقع في أمكنة مختلفة حول نهر عطبرة. ونلمح من بعيد إعرابي على بعير يتهادى في مشيته وبعيره يطأ الثرى مترفقا كأنه آس يجس عليلا، فيصيح منا صائح أن اختبئوا أو أعدوا الأرجل للفرار وإلا اختطف الرجل أحدكم، ويؤكد الصائح كلامه بالقول: أنظروا فعلى جانبي البعير استقر جرابان، وكل جراب كأنه جوف اصلة يمكنه أن يستوعب صبيا، ولم يبق له إلا القول أن جوف العير هو الآخر جاهز لابتلاع احدنا فتظل أعيننا ترقب في فزع مسيرة الرجل، وحادي البعير في شغل عنا بالخضرة المنبسطة، وبهمومه وشؤون حياته، كما أن جوف عيره ليس قفرا كما ظن امرؤ القيس وهو يقطع واديا مجدبا، بل كان عير صاحبنا ذا جوف ممتلئ بما أنبتت الأرض من بقلها وحشائشها وبالتالي لا حاجة له بان يحشوه بأحد منا. ونسمع دوي صرخة كأنها صرخة كائن خرافي فنفر كما تفر الحمر المستنفرة ولا نتوقف إلا عند خط السكة الحديدية، حينها وقد رأت أعيننا بيوت قريتنا – العكد- نحس بالأمان، وتشرئب أنظارنا وتتعلق بالسماء تتابع طائرة الخواجة الصغيرة مدير شركة الأسمنت وهي تحلق في السماء متجهة نحو الضفة الغربية للنيل، ودويها الذي أفزعنا يبتعد عن أسماعنا شيئا فشيئا فيلهينا عن متابعة الإعرابي وبعيره ، ثم نعود إلى أغنامنا وكل منا يحلف بأنه آخر من فر فيصبح من الصعب العثور على أول الهاربين. وينبري فنان شعبي من بين جمعنا يود الترفيه عنا وإزالة المخاوف من نفوسنا فيغني (الجدي العام وانفدع )، و(آمنة الفي الضمير مازياني)، وتهدر الدلوكة وننسى الإعرابي والخواجه والزمن الحضاري الذي يفصل بينهما، ونسرح مع مطربنا حتى إذا ما أفلس ونضب معينه ، لم يغن أنشودة جن واحدة بل أتي بأناشيد قبائل وشعوبا من الجن، يجمع كلماتها كيفما اتفق ولا ضير، بل لا ضرر ولا ضرار،المهم أن يستمر الحفل وأن تتماشى الكلمات مع الإيقاع، ويزداد الحماس والأرض الرطبة تتحمل في عطف قفزات العرضة، وتظهر سياط مصنوعة من جذور شجيرات السنط، تقتلع من الأرض برائحتها المميزة وتبدأ مباريات البطان، وسيل من الحلف بالله وبحياة محمد عليه الصلاة والسلام وحياة عيسى بان فلانا قد (نط) ولم يتحمل ضربة السوط، وقسم مضاد بانه قد ركز ولم يهتز، أما دلوكتنا المصنوعة من بقايا قلة أو رقبة زير فدائما ما تكون أول الهالكين إذ ما نشب شجار واحتكم القوم إلى المطارق و العصي المضببة، وقد كانوا يفتخرون بهذه العصى وأنها من سلالة (السرويت) وكأن هذا السرويت قد تناسل من عصي سحرة موسى، فهم يبادرون إلى هتك ستر دلوكتهم به و المصنوع من ورق اكياس الأسمنت أو جلد (سخلة) ميتة، أو (عتود) ذبح إكراما لضيف، ولا بذكرون أنها كانت قبل قليل من الوقت رفيقة دربهم في سهل شرفولة، تطربهم وتمنحهم حيوية الحياة وعذوبة الصبا، وتثير في نفوسهم الحماسة وتنقلهم إلى واقع بطلته آمنة وغيرها من الحسان، واقع لاشك أنهم ملاقوه يوما ما إن أمتد بهم عمر وكتبت لهم حياة، وهكذا الأنسان. ونحن إذ نبيت في غربة لا النفس راضية بها ، يتأوب طيف من شرفولة زائر، فتاتي هذه الخواطر، تعيد لنا ذكريات قطار مر، فلا نملك إلا أن نستعيد ما خطه معاوية محمد نور وقوله ( يا للعجب ! أتراني أود أن أعيش الماضي والحاضر والمستقبل في ساعة واحدة ! يا لنهم الحياة ، وطبع الإنسان ، وعطش العواطف. )