كتب الأستاذ/ بدرالدين حامد الهاشمي و نشرها بتاريخ 21/01/2010م تحت عنوان كنت في بلد "السجم و الرماد" في إشارة إلي بعض السودانيين الذين يقيمون في الخارج و يذهبون في إجازة إلي البلاد, ثم يعودون و يكيلون غضبهم علي الوضع المعاش في الداخل, و يمارسون النقد حسب هواهم, و كأنهم دخلوا في قطيعة مع ماضيهم, و كان بلادهم التي ولدتهم لا يوجد فيها غير السوء. و تعبير السجم و الرماد يماثل تعبير( بلد الجن دة) و كأن لهذا الجن دور فيما أصاب البلد من عوارض. ليس هناك جن و لا يحزنون,و إنما هو تعبير مما جرت به العادة, عندما يتضايق البعض من شئي ما, أو عندما يصف البعض شخص ما فيقولون فلان (جنو قروش) أو (جنو قراية) ألخ من أنواع الجنون. هذه لازمة من لوازم الكلام Tick, و كأنهم يشيرون إلي أن الشخص المعني تشغله همومه عن ما عداها من هموم. و تعبير (بلد السجم و الرماد) يعادل تعبير (بلاد الواق واق), و هو تعبير أطلقه القدماء علي تلك البلاد البعيدة التي تقع وراء البحار Overseas. و بسبب صعوبة الوصول إلي تلك البلاد فيما مضي من زمن, و معرفة أحوالها, فقد إكتفي القدماء بإطلاق هذا الوصف عليها, في إشارة إلي أن سكان هذه البلاد , هم من الذين لا يفهم حديثهم. كان هذا قبل حدوث التواصل الثقافي بين الشعوب و الذي تم بعد ذلك, بفضل إنتشار اللغات الحية, و شيوع الترجمة و سهولة وسائل الإتصال بين أرجاء المعمورة. ترد هذه المسالة في قصص القرآن, حيث نقرأ في سورة الكهف عن أخبار أولئك القوم الذين كانوا يعيشون في الزمان القديم, حياة بدائية, بل لا يكادوا يبينون, أي لا يفهم حديثهم من شدة العي. و كأن القرآن يشير إلي أن للإنسان رسالة حضارية تتمثل في مساعدة أمثال هؤلاء الضعفاء و إصلاح حالهم. و لكن هل تنتمي بلادنا إلي بلاد الواق واق هذه كما يشير بعض الناس و الذين لا زالوا يعيشون بجهلهم, رغم أنهم يعيشون في عصر العولمة؟ لقد سافر كثير من السودانيين في السنين الأخيرة إلي خارج البلاد للعمل و كسب العيش. و لم يعد السفر إلي خارج البلاد كما كان في الماضي, أي قبل سني السبعينات (سفرة و عودة) , إذ كان يسافر البعض للدراسة أو التدريب, و بعضهم يسافر لقضاء عمل محدد, ثم يعودون يدفعهم الشوق إلي تراب الوطن, حيث الغبش و الكتاحة, و حيث الحياة بسيطة لا تعقيد فيها. و لكن صار السفر بعد حين من أجل كسب العيش بسبب تعقد أمور الحياة عن ذي قبل, و حين دخل مفهوم الإغتراب إلي حياتنا.منذ ذلك الحين, أي منتصف السبعينات الماضية, ظهرت إلي الوجود فئة المغتربين, و هو تعبير له رنين, بل سحر خاص, إذ أفرز مفهوم الإغتراب سلوكاً لم يكن يالفه الناس من قبل, و أثر في منظومة القيم الإجتماعية إيجاباً و سلباً. و في العشرون سنة الأخيرة, إتجه السودانيون إلي مهاجر أخري لم يكن يالفوها من قبل, حيث سافروا إلي ما وراء بحر الظلمات كما كان يسميه الأقدمين, و هو المحيط الأطلسي, بل سافروا إلي أبعد من بلاد فاس التي كان يعتقد الأقدمون ان ( ماوراها ناس), أي إلي الأمريكتين و بلاد فارس و الروم. في تلك المهاجر البعيدة تكونت جاليات سودانية, و خاصة في الولاياتالمتحدةالأمريكية و كندا و اللتين تتميزان بكبر جاليتها, و حيث رحابة الحياة في هذه البلاد التي تقبل كل مهاجر, و تتيح له الفرص ليثبت وجوده علي ارضها, مثلما حدث لجاليات عربية سبقت السودانيين في الهجرة إلي هناك, مثل الشوام, الذين هاجروا و إستقروا هناك, و نجحوا, بل اصبحوا من ضمن نسيج المجتمع في تلك البلاد, و خاصة في أمريكا الجنوبية. و لكن تبقي فئة السودانيين الذين هاجروا إلي بلاد النفط, و خاصة السعودية و الخليج العربي, أو فئة المغتربين, هي الفئة الأكثر حضوراً بفعل الأثر الذي أحدثته في قيم المجتمع السوداني. و إن بدات تدول دولة المغتربين هذه في السنين الأخيرة, بسبب التحولات الإقتصادية و الإجتماعية التي حدثت في هذه الدول المضيفة. لكن رغم هذه التحولات فقد وطن الكثيرون أنفسهم علي العيش في هذه البلاد, حيث نشأ جيل كامل من أبناء المغتربين من ابناء المغتربين في هذه البلاد, حيث ولدوا و تربوا و تعلموا, ثم دفعتهم ظروف الدراسة الجامعية إلي السفر إلي الوطن الأم, ليعيشوا الحياة بما فيها من مضايقات تبدو لهم , بسبب ان ظروف المعيشة تختلف بعض الشئي عن الظروف التي ألفوها, حيث سهولة الحياة, و بسبب أن بعض المغتربين لم يعودوا أبناءهم علي السفر من قبل لتجربة الحياة مع أهلهم. بسبب هذه الظروف دخل البعض في صراع بين حياته هنا و حياته هناك. ذات مرة سألت احد الصبية, و كان والده قد أنهيت خدمته دون إخطار سابق, قرر علي إثره ان تسافر الأسرة إلي السودان لحين ترتيب الأمور. سالته : هل ستسافر إلي السودان ؟ رد علي : ليس لدي إستعداد للسفر إلي هناك! يعبر هذا الصبي عن (حكومة الظل) أو المعارضة, أي ست البيت,التي تعودت علي هذه الحياة السهلة, و عملت علي تكوين جبهة عريضة لمناهضة هذا القرار. مثل هذه الظروف التي يعيش فيها البعض من هؤلاء هي التي ولدت في نفوسهم هذه الحالة النفسية و الإحباط و الخوف مما يعدونه مجهولاً, بل لونت نظرتهم إلي الأمور بهذا اللون الضبابي, و خاصة لدي الذين لا يؤمنون بنسبية الأمور , أي إختلاف طبيعة الحياة هنا و هناك. بلادنا ليست بالسوء الذي يدفع البعض لأن يصبو جام غضبهم و يلعنوا الظروف التي دفعتهم إلي العودة, بل لأن ينتقدوا كل شئي. بلادنا مثل بلاد الله الأخري فيها الزين و فيها الشين. و هذا يحتم علي المرء أن يمدح زينها و يوطن نفسه علي تحمل شينها. هذا قدرنا أن تكون بلادنا بهذه الصفات التي تتصف بها. و هذا يقتضينا أن نكون موضوعيين في تناولنا لشئوننا العامة بالنقد, و ان نكون صادقين مع أنفسنا وأن نقول ان إمكانيات بلادنا ربما لا تسمح لنا أن نعيش الحياة كما يعيشها الآخرين الذين تهيات لهم الظروف, فسهلت الحياة في بلادهم. من المعلوم أن من يسافر بعيداً, و يعيش الحياة خارج بلده, يكون أكثر إنفتاحاً و شفافية و موضوعية في تناوله للأمور, إذ يبدأ في النظر إلي واقعه بعيون الآخرين, و يتساءل: لماذا نعيش هذه الحياة البائسة؟ و ما هو السبب الذي حد من قدرتنا لإنجاز ما نصبو إليه؟ و لماذا لا نكون مثل الآخرين الذين يعيشون حياة أفضل رغم تشابه الظروف؟ و هل سيكون بمقدورنا إنجاز ما نصبو إليه؟ و هل سيكون هذا في المستقبل القريب أم البعيد؟ الخ من التساؤلات التي تتردد كلما إعتورت المرء بعض الصعاب أو المضايقات, التي هي هينة في نظره و بحكم ما عاشه من تجربة, و لكن تبدو في بلادنا أمور صعبة بحكم ظروف العمل, و بحكم ما إعتاده من يؤدون هذا العمل. علي سبيل المثال, عندما يصل القادم إلي صالة الوصول في مطار الخرطوم, يتعين عليه أن ينتظر لمدة لا تقل عن نصف ساعة حتي يحصل علي تأشيرة الدخول. هذا الموقف غير المبرر يضايق المرء, و يدفعه للتساؤل: لماذا لا يوجد الموظف في مكانه لينساب العمل دون تاخير؟ و لماذا ينتظر القادم كل هذه المدة, في حين أن إجراءات التأشيرة في بلاد أخري لا تستغرق أكثر من عشر دقائق؟ مسالة أخري يلاحظها القادم في مطار الخرطوم , و تتسبب في تعبه و قرفه, و هي هذا السير المهترئ الذي ينقل العفش إلي داخل الصالة. لماذا لا تعمل إدارة المطار علي تغيير هذا السير ذو المنظر القبيح الذي يعجز عن نقل الحقائب الكبيرة و الكراتين, و ما ذنب هذا العامل الذي يرهق نفسه في إعادة تحميل العفش, كلما وقعت شنطة أو كرتونة, و كأن هذا العامل يمارس لعبة, أو كانه حكم عليه أن يمارس هذه السخرة؟ هل تبدو عملية تغيير هذا السير مكلفة؟ أم أن إدارة المطار لا تري جدوي في تغييره, و أنها بصدد الإنتقال إلي مطار جديد, حتي و إن إستغرقت عملية إنشاء هذا المطار الجديد سنين عديدة قادمة؟ و هل يعني هذا أن التراخي و تضييع الوقت هي جزء من ثقافة العمل في بلادنا, أم أن هناك عصيان خفي Work- to- rule بحيث يعمد الموظفين إلي تأخير العمل و التسبب في إرهاق القادمين, و عكس صورة سالبة عن مستوي الإدارة و النظام في البلد؟ لنكن صادقين و نقول ان هناك مضايقات مثل هذه تحدث في مرافق أخري في بلادنا. هي بسيطة في حلها, و لكن تبدو صعبة في ظروف بلادنا. هذا الوضع يؤدي إلي الضيق, و يدفع المرء للتساؤل: لماذا؟ هل الآخرين أحسن حالاً منا, أم أن هناك نحس أقعد هذا البلد عن النهوض؟ أما الذين تؤذيهم كتاحة بلادنا و حرها, و لا يقدرون علي العيش فيها, بعد ان خبروا بلاداً أخري وجدوا فيها رغد العيش و سهولة الحياة, فمن الأفضل لهم ان يعيشوا الحياة كما تحلو لهم, و لكن عليهم الا ينسوا اهلهم من الدعاء. رشيد خالد إدريس موسي الرياض/ السعودية