في ذكرى اليوم العالمي للاعاقة الموافق الثالث من ديسمبر، أحببت أن أهديهم هذا النص(طائر الفينيق) ، حتى نلتفت إلى قضاياهم وحقوقهم المسلوبة. طائر الفينيق : حبيساً بين مطرقة الانتظار وسندان الترقب ،محشوراً في أحضان المقعد الوثير، عجلة الوقت تدور ببطء يستنزف صبرساقيك، تحركهما بتثاقل في حركة عكسية، تحدث نفسك: ما هي إلا سويعات ويسدل الستار على كل شئ،لأول مرة تدلف إلى هذا المكان، كأنه صرح ممرد من قوارير، الأضواء متوهجة السطوع تزيد من توتر إحساسك الداخلي، يبدو أنها تتآمر عليك؛ وأنت الذي لم ترغب يوماً أن تكون في بؤرتها، تحيا دوماً تحت ظلال أفكارك المبعثرة، يطاردك الماضي عبثاً يحاول لجم خطواتك المترنحة، يغلف ذاكرتك بالسواد، لكنك تقاوم، هو صراع الحياة والموت، التلاشي والبقاء..، فشلت أجهزة التكييف في تخفيف حدة افراز غددك العرقية، لم يكن سقف طموحاتك عالياً، فأنت كاتب مغمور، هذا مارحت تطمئن به قلقك المتنامي، حسبك شرف ان تصل لهذه المرحلة المتقدمة، لا أمل في اعتلاء صدارة المشهد، وهناك من يشار إليهم بالبنان في السرد، أيضاً بوجود نقاد وأنصاف نقاد يشيدون مقاصل أقلامهم لضرب أعناق تلك الأعمال، تشد أزر صلابتك النفسية بنور كلمات جدتك، لولا تلك الكلمات لما كنت هنا الآن . ترتحل في كبسولة الزمن، تخبو أضواء المكان، تحلق بك نحو أفق بعيد، هاهو وجه الجدة يتجلى أمامك بشلوخه المطارق( 1)، وشفتها السفلى المكحلة بالسواد، ومسحة الحزن التي تغلف عينيها، جفنيها المتهدلين، رائحتها المعتقة ببخور التيمان والقرض، وأنفها المحشودوماً بصُرة الشيح، صورتها توقد فتيل الفرح فيتمدد مزهوا،ً ،تذكر جيداً حين أتيتها مغاضباً من سخرية أقرانك الأطفال، من مشيتك المتأرجحة كراقص على إيقاع الدليب( 2)، ومن اللعاب الذي يخرج عنوة على شدقيك، كلعاب رضيع تحاول أسنانه جاهدة شق طريق لها في لهاته، كنت فقط تريد مشاركتهم ألعابهم، حضنها الدافئ الذي احتواك بكل أمان الكون، بعد أن فقدت حضن أبوين، وجدا في جينات تحمل أجنة مشوهة سبباً للانفصال والتنصل من مسئولية طفل معاق، ليختارا حياة اخرى ويبتعدا، تلك الضمة الحانية أطفأت نيران غضبك المستعرة وأعادت ترميم بعضاً مما انكسر،تركز نظراتها على حدقتيك، تهادت نبرة صوتها الهادي العذب لتستقر في تجويف أذنيك:( ياولدي الله حكمتو بالغة، أرضى دائماً بقسمة الله، لو رضيت بقسمة الله تكون أسعد زول، الله ما خلق زول ناقص، لكن ميز زول عن زول، فتش عن الحاجات الميزك بيها الله، لو ما خلوك الليلة تلعب بكرة بخلوك،شوف بيلعبو كيف وتعال كلمني). كنتَ تقص عليها القصص، لعب الأطفال وكل ما يقع عليه ناظريك، تصبر على لغتك المتعثرة وكلامك المبهم، نظرات عينيها تشكلانك من جديد، تزيدانك ثقة بنفسك،أضحت كلماتك أكثر وضوحاً، ولغتك تنساب في سلاسة، تنتظر الليل بفارغ الصبر لتسمع أحاجي الجدة، تنتظرها حتى تعتشي ثم تنظم حبات الحمد والتهليل والتسبيح، تشيح بعينيها الدامعتين إلى السماء تتمتم ..ثم تلهج بعبارتها التي امست ورداً على لسانها :(الحمد آلاف والشكر آلاف)، تلك العبارة تسعدك أيما سعادة، فهي ايذان بانتهاء شعائر الجدة المسائية، والشروع في أحجية جديدة، تفرش برفق عتنيبة( 3) السعف باهتة الألوان فوق عنقريبها العتيق، والتي تحتضن في سعادة جسدها النحيل، تقول لك بعد أن تضجع على شقها الأيمن : (حجيتكم ما بجيتكم خيراً جانا وجاكم)، هذه العبارة تشرح صدرك وتطرب وتسعد قلبك، تترجمها ابتسامة تعلو محياك، لا تمل من سرد أحجياتها، يحول خيالك الخصب تلك الأحداث إلى شخوص ماثلة أمامك،أشد ما كان يسعدك ولا تمل من ترديده، أحجية محمد الشاطر، تبحث عن صفات اللعيب في فتيات القرية ، عن مواطن حسنها،استدارة وجهها، وينتابك شعور حزين؛ حين تلمح أحد صفات النيتو الدميمة في الأحجية، ملتصقة بأحد الفتيات، تعيش في عالم الأحجيات بكل تفاصيله. تكبر في العمر وتكبر معاناة قدميك،لم تعودا قادرتين على حمل جسدك إلا بمعاناة ومشقة، تتوكأ على قامة مَنْ حُظو ببسطة في الجسم من أصدقائك؛ يشاطرونك حمل عبئه جيئة وذهاباً للمدرسة، كانتا بحاجة لشيء ما يعضد ضعفهما، كما نصح بذلك الطبيب، ولكن قلة ذات يد الجدة أخرته إلى أجل غير مسمى، تلك الوريقات النقدية التي يرسلها وحيدها ،ليست كافية لوأد فقرهما، ولا تلك التي تجنيها الجدة من نسج صبرها؛ لتخرج في اتقان قفاف السعف ذات العرى الملونة، وبروش( 4) الصلاة الممزوجة بعرق التسبيح،والنطاعة والعتانيب بألوانها القرمزية، لكنها آلت على نفسها توفير الدعامات المعدنية بحلول شهر الصيام،لذا ضاعفت ساعات عملها لتفي بوعدها، عزمها لا توهنه تعاقب السنين، وهمتها لا تحنيها صروف الدهر،إن عزمت توكلت، وإن بدأت أتمت . أسعد يوم ذاك الذي حظيت فيه قدماك بالدعامات المعدنية،الجدة تعيش فرحاً غامراً ومشاعر جياشة، لتمكنك من السير مجدداً من غير مساعدة، الأمر لم يكن سهل في بدايته، لكن سرعان ما تأقلمت مع وضعك الجديد، سعادتها تزداد يوماً بعد يوم ،حتى باتت تصطحبك لزيارات رحمها، وما بقي من صويحبات ما زلن يتشبثن بحبال الفانية، تفاخر بك تقول إنك عصا شيخوختها التي تسند ضعفها، وتؤانس وحدتها ، تجد أيما متعة في الجلوس بجانب الجدة وهي تضفر السعف بخفة يد مرتعشة، أضحت عادة لك بعد عناء يوم دراسي شاق ،تصغي إلى الجدة بكل حواسك؛ وهي تقص على أذنيك كل ما اغترفته عيناها من حياة القرية، وكل ما علق بذاكرتها من أحداث، تمزج كل ذلك بفلسفتها في الحياة وحكمتها،مايحبه الناس ويكرهونه، ما يودون سماعه وما ينفرون منه، ما يسعدهم وما يشقيهم، تستقي من معينها؛ تتشربه تلافيف ذاكرتك، تدخره لوقت ما، تضحك من أعماقها لتعليقاتك الساخرة وأنت تعقب على حكاياتها بعفوية. ذاك اليوم كان فارقاً في مسيرة حياتك ،تسابق ظلك لتطلع الجدة عليه، حين أهداك أستاذ لغة الضاد بالمدرسة الثانوية،رواية موسم الهجرة إلى الشمال، عندما رأى نبوغك وتفوقك في تلك المادة،سعدت أيما سعادة لسعادتك، قرأت على مسامعها أحداث الرواية،لم تتعاطف مع بطلها اعتبَرَتُه بلا قيم ولا أخلاق، وعن نهايته المأساوية قالت :(كاتل روحو ولا مبكياً عليه ) حفظتَ تلك الرواية عن ظهر قلب، الأستاذ هو من أوعز إليك أن تلتحق بكلية الآداب في الدراسة الجامعية، وأن تدلف إلى قسم اللغة العربية ، ... طرق على مكبر الصوت انتشلك من حضن ماضيك الدافيء، فتحت عينيك بتثاقل وكأنك تريد أن تحيا هناك أبداً، اكتمل عقد لجنة التحكيم على المنصة،بعد اشادة باللجنة المنظمة ورعاة الجائزة، أشار رئيسها إلى المنافسة الشرسة بين الروايات، وأن الرواية الفائزة حازت على اجماع لجنة التحكيم ، قالوا إن مؤلف الرواية يقارع بقلمه جهابذة الرواية العالمية، أشادوا بتعدد مستويات اللغة داخل النص،اعترتك رعشة حد الزلزلة، حين أعلن رعاة الجائزة فوز روايتك(طائر الفينيق)، وحصولها على المركز الأول، الصدمة والوجوم يسيطران على حواسك، دموع تنحدر بلا توقف،لعاب على شدقك الأيمن تحاول لجم تدفقه، حين طلبت منك اللجنة اعتلاء المنصة ،لم تكن تشعر بقدميك ،الخدر أصابهما ، الدعامات المعدنية غير كافية، كان على أحدهم أن يقدم لك المساعدة،وبقدمين يخطان على الأرض وقامة مترنحة، وجدت صعوبة في بلوغ المنصة،قفصك الصدري يعلو ويهبط ،تحاول كبح لهاثه،الجميع يقف وسط عاصفة من التصفيق، وبصوت متهدج ومرتعش عبرت عن تلك الفرحة بكلمات مقتضبة : كم تمنيت أن تشاطرني جدتي هذا التكريم والفرح ،لكنني أهدي هذا النجاح لروحها الطاهرة ، لترقد بسلام في الخالدين، ولتكن كلماتها نبراس حياة، ومنارة أهتدي بها كل ما جن على الليل، هي من تستحق الجائزة، ما يزال صدى حكمتها يتردد في أعماقي : (ياولدي الله حكمتو بالغة ،أرضى دائماً بقسمة الله، لو رضيت بقسمة الله تكون أسعد زول، الله ما خلق زول ناقص، لكن ميز زول عن زول، فتش عن الحاجات الميزك بيها الله). ----------------------- 1- وشم على الوجه يفصد الخد بالة حادة مما يترك أثراً لا يزول ، استخدمته النساء قديماً للزينة، اندثرت هذه العادة حالياً ، لكنه ما يزال بادياً على وجوه بعض العجائز. 2- ايقاع سوداني . 3-فرش تنسج من سعف النخيل ، تغطى بها العناقريب ، العنقريب هو السرير لكنه يصنع من جذوع الأشجار وينسج من حبال السعف . 4-بروش مفردها برش،فُرش تصنع قديماًخصيصاً للمساجد من سعف النخيل . عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.